كانت الناصرية مشروع ثورة مضادة بالضبط لأن الإنجازات التي خلعت عليها صفة الثورة، في الاستخدام العشوائي الساري لهذ المصطلح، حرمتها استيفاء شروطه الجوهرية بالمعنى المستخدم هنا: الجلاء، التصنيع، مجانية التعليم، الإصلاح الزراعي إلخ... وقد قابَلها الإنجاز المضاد المتمثل في تصفية عناصر التنوير والعقلانية، البيئة الحاضنة للديموقراطية، التي ترسبت في التجربة المصرية التاريخية منذ الحملة الفرنسية وعهد محمد علي وظهرت تجلياتها في عصر الأفغاني - عبده ثم في العصر المواكب زمنياً لنشوء حركة الضباط الأحرار لدى شخصيات مثل طه حسين ولطفي السيد. إيقاف المسار الديموقراطي في تموز يوليو 52 ثم إلغاؤه، بدلاً من تنمية عوامل تصحيحه، خلق الأوضاع التي أدت لوقوع العقل المديني، القائد الفعلي لمسيرة المجتمع والنهضة، فريسة تخلف الوعي العام واللاإستنارة. تمظهر ذلك في تجذر الإسلام السياسي الإخواني ووليده الشرعي التكفيري في شرايين وخلايا مجتمع بناء الصناعة الحربية والمدنية والسد العالي وحزب الملايين الواحد، ليظهر بشقّيه كأكبر قوة سياسية في انتخابات 2012 المفتوحة بديلاً لخلفاء النظام القابض بهيبة الزعيم مثلما بقهر أجهزة دولته. على أن هذا المسار اليوليوي لم يكن اختيارياً. فقيادة عبدالناصر كان محكوماً عليها التحول إلى أداة لنقض أحلامها النبيلة ووعودها الصادقة ذاتياً، وهنا تكمن التراجيديا. حينذاك كانت الديموقراطية قرينة الاستعمار الغربي الرابض على الأرض المصرية، وممثلوها الوفديون يترنحون من ورطة تشويهية إلى أخرى في ما يبدو ائتماراً بأمر الملك والاحتلال بينما البنية الأيديولوجية للنخب المرشحة بديلاً للنخب التقليدية التي أسقط الضباط الأحرار سلطتها، كانت متنافية مع الديموقراطية يميناً ويساراً. من الناحية الأخرى كان نجم تيار الاشتراكية اللاديموقرطية يتلألأ خلاباً في أرجاء الكون. أنظمة فتية بقيادة الاتحاد السوفياتي تشيد المدينة الفاضلة بنهج علمي ولا تبخل بالدعم للعالم الثالث. فوق كل ذلك، وأكثر مضاء في استبعاد الديموقراطية عن مجال النظر والاعتبار، كان ارتفاع الزعامة الناصرية وسياساتها فوق النقد على روافع جاذبيتها الشعبية الشاهقة بمميزات عبدالناصر الشخصية وتلك المكتسبة من الإنجازات المادية السريعة لنظامه ومن تجاوبه مع طموحات التنمية والوحدة العربية ومقارعة النفوذ الأميركي السائد وقتها. وفي القوة الاستثنائية للإعلام المصري عهدذاك مقارنة بغيره، مسموعاً ومرئياً ومقروءاً، فضلاً عن تقدم صناعة السينما وشعبية المطربين/ ات المصريين، تضاعف تأثير هذه العوامل. والتقاء هذه العوامل المتعددة والمتباينة رفع عبدالناصر إلى مرتبة نصف الإله في الخيال الجمعي المصري والعربي التي تعززت طاقتها الترويضية للمثقفين بعدم اضطراره، مع توافر هذا الرادع المعنوي، لاستخدام العنف العاري. كل هذا، مع الحضور الملموس للإنجازات والاستخبارات، الجزرة والعصا، بما أنشأ علاقة تناسب طردي بين تنامي هيبة الزعيم وتقلص مجالات الإبداع والفكر النقدي وتالياً إمكانية تلافي مزالق النموذج الناصرى نحو اهتراء أحشائه الداخلية، بحيث تطلب الأمر هزيمة مذلة وساحقة في ساحة حرب 1967 ليظهر على الملأ مدى سطحية عملية التغيير الناصرية. فقد بقي عمق المجتمع المصري على ركوده، إن لم يكن ازداد تخثراً وتعفناً. بيد أن هذا المصير الفاجع لأهم محاولات النهضة العربية بمقياس شعبيتها/ شعبويتها وتأثيرها خارج حدودها، وليس الجذرية الحقيقية لإنجازاتها، لم يفلح في استئناف عصر النهضة الحقيقي من نقطة الأفغاني - عبده وخلفائهما، لأن الانتشار التحتي للتدين الاجتماعي والسياسي التقليدي تحت أنف سلطة التغيير الناصرية وأجهزتها أفضى إلى تمتين ركائز هذا التيار في العقل العام. بهذا المعنى المحدد خدمت الناصرية الإسلاميين، وعطلت إمكانية النهضة الكيانية العميقة، حيث أرادت العكس. وسنجد في ظاهرة التماهي في المواقف السياسية خلال العقود الأخيرة بين الإسلاميين والقوميين، الناصريين أساساً ثم لحق بهم البعثيون، ما يؤكد ذلك. وقد بقينا في انتظار عقد جديد في قرن جديد لتبزغ تيارات جديدة تولد معها احتمالات ربيع الاستنارة - الديموقراطية في مصر وغيرها. والخلاصة أن في ظروف استحالة تكرار تجربة الاستنارة الأوروبية عربياً، كانت الناصرية"الثورة"الممكنة، لكن التقويم الموضوعي لميراثها يضعها في خانة الثورة المضادة. * كاتب سوداني