حظيت علاقة التيار الإسلامي عموماً، وجماعة الإخوان المسلمين خصوصا، بثورة 23 يوليو 1952 بسيل من الكتابات والتحليلات والتفسيرات التي سعت الى فهم تلك العلاقة وتفحص جوانبها ومعرفة حقيقتها. وعلى تعدد تلك الكتابات وتنوع رؤى ومواقع كاتبيها الفكرية والسياسية والاجتماعية، فإن جلها الاعظم انصرف الى معالجة مستوى واحد لتلك العلاقة هو ذلك المرتبط بتاريخها من دون التطرق الى حاضرها او مستقبلها. لذلك فإن ما نسعى اليه هنا هو الربط بين مجالات زمنية ثلاثة في العلاقة بين ثورة يوليو وتيارها السياسي الفكري وبين جماعة "الاخوان المسلمين" والتيار الاسلامي الاوسع الذي يضمها، يحتاج كل منها في قراءته الى نوع من العلوم الاجتماعية والانسانية مختلف عما يحتاجه الآخران. وتؤكد الدراسات التاريخية كافة التي اجريت حول العلاقة بين ثورة يوليو وجماعة "الاخوان المسلمين" ان مناخاً صراعياً سيطر عليها منذ النصف الثاني للعام 1954 وحتى وفاة الزعيم جمال عبدالناصري في ايلول سبتمبر 1970، وادت محاولة اغتيال عبدالناصر في تشرين الاول اكتوبر 1954 على يد احد اعضاء التنظيم الخاص للاخوان الى اندلاع واحدة من اكبر المواجهات دموية، سواء في تاريخ "الاخوان" او في تاريخ الثورة، تمخض عنها اعدام عدد من قادة واعضاء الجماعة واعتقال آلاف آخرين لمدد طويلة في ظروف قاسية تخللتها احياناً فترات تعذيب منتظم وغير انساني لبعضهم. وما ان بدأت حدة المواجهة تخفت بالإفراج عن بعض المعتقلين وتحسين ظروف الاعتقال قليلا بالنسبة الى الباقين حتى اشتعلت مرة اخرى في 1966 حول محاولة المرحوم سيد قطب وزملائه اعادة تشكيل الجماعة وقلب نظام الحكم بالقوة، الامر الذي اعاد العلاقة بين الطرفين مرة اخرى الى نقطة الصفر. وبالاضافة الى كل ما خسرته الجماعة في تلك المواجهة المستمرة من ارواح ودماء، فإنها فقدت الشرعية القانونية لوجودها في المجتمع المصري حتى اليوم، والتي تمثل محاولة استعادتها المحور الرئيسي لاستراتيجية عمل الجماعة منذ عودتها وبصورة غير رسمية في النصف الثاني من السبعينات. الا ان تلك الخسائر الفادحة التي لحقت بالجماعة في مواجهتها مع نظام يوليو الثوري، لا تعني ان الاخير خرج منها سليماً بلا جراح. فعلى صعيد التحالفات السياسية التي كان نظام يوليو أحوج ما يكون اليها في بدايته. كان صراعه الدموي مع "الاخوان" بعد سجل طويل من التنسيق والتقارب معهم قبل الثورة وفي العامين الاولين لها بمثابة خسارة فادحة لقوة سياسية كبرى في الساحة المصرية، حينئذ، كان يمكن للتحالف معها ان يدعمه في مواجهة القوى الاخرى التي تناقضت توجهاتها ومصالحها معه وفي مقدمها حزب الوفد. كذلك فلا شك ان طاقات وجهوداً كبيرة مادية وسياسية واعلامية وجّهها نظام يوليو لدعم صراعه مع "الاخوان" كان يمكن لها ان تُوجه الى مجالات اخرى اكثر فائدة لبناء النظام الجديد والمجتمع الذي يرغب في صياغته. من ناحية ثالثة ادى الصدام بين نظام يوليو و"الاخوان" بنطاقه الواسع وبكل ما تضمنه من تجاوزات امنية الى تحويل تلك التجاوزات من ممارسة موقتة لأجهزة الامن السياسي الى آلية دائمة لعملها في مواجهة الخصوم السياسيين للثورة، الامر الذي افقد النظام الثوري كثيراً من امكانات الحوار، بل التحالف، مع بعض هؤلاء الخصوم ودمغه بطابع قهري استغلته القوى المضادة له في التشهير به. وزادت المواجهة الواسعة والمتوالية الحلقات بين الثورة و"الاخوان" من تدعيم موقع اجهزة الامن السياسي في نظام يوليو على حساب المؤسسات السياسية الاخرى، الامر الذي افاض معاصرو الثورة ودارسوها في توضيح آثاره السلبية عليها. وبعيداً عن التقويم العام لحصلية الصراع بين الثورة و"الاخوان" وخسائرهما المتبادلة فيه، فإن النظرة المتعمقة اليه من اجل المستقبل تدفع الى ضرورة اعادة رسم ملامحه بعد ان صار جزءاً لا يمكن استعادته من التاريخ. وتشير ملابسات العلاقة بين ثورة يوليو وجماعة "الاخوان المسلمين" منذ مرحلة تشكيل تنظيم "الضباط الاحرار" والتجهيز لهذه الثورة وحتى الصدام بينهما، الى ان كلا من الطرفين كان يهدف بصورة واضحة الى الوصول الى السلطة السياسية العليا في مصر وتحويل مسارها لمصلحة ما يؤمن به من افكار عامة وسياسات. كما كان واضحاً ان الطرفين يسعيان الى الاستئثار بتلك السلطة لمصلحة كل منهما بمفرده بأقصى قدر ممكن، مع رفض اي تقاسم فعلي لها مع اية قوى او اطراف اخرى، قد يضطر الى تحالف معها من اجل تحقيق ذلك الهدف. ومن الواضح، كما تشير الوقائع التاريخية، ان كلاً من الطرفين كان يتحرك من اجل انجاز ذلك الهدف - اي اقصى استئثار ممكن بالسلطة - وفي ذهنه التلاعب بالطرف الآخر كحليف مساعد على تحقيقه من دون المغامرة بتقاسمها معه بصورة حقيقية وبنسب مختلفة. وعقب نجاح الرئيس عبدالناصر وجناحه في ضرب آخر الاجنحة المختلفة معه من "الضباط الاحرار" في ازم 1954 اختلف نسبياً هدفه عن هدف "الاخوان المسلمين" وان ظلا في الاطار نفسه. وبعد اندلاع المواجهة الواسعة بين الطرفين في تشرين الاول 1954 تحولت اهداف الطرفين في الصراع للمرة الثانية، حيث ظل نظام الرئيس عبدالناصر يهدف الى تدعيم سلطته الآخذة في الاستقرار بإجراءات وسياسات سياسية واجتماعية واقتصادية بالاضافة الى الامنية، بما يحول دون مشاركة اي قوى سياسية اخرى فيها او حتى ممارسة الضغوط عليها. اما الاخوان فتحول هدفهم الى السعي بكل الوسائل الممكنة لانهاء حكم عبدالناصر واستبداله بنظام خاضع لهم تماماً في بنيته وتوجهاته الفكرية والعملية، وبذلك يبدو واضحاً ان الطرفين منذ البداية ينظران الى العلاقة بينهما باعتبارها تدور ضمن معادلة صفرية للصراع الذي يمثل اي مكسب فيه لأحد طرفيه خسارة مؤكدة للطرف الاخر ويصعب التوصل فيه لأي نقطة توازن او حلول وسطى. ولا شك ان توصيف الصراع بين الطرفين واهداف كل منهما منه على النحو السابق، لا يكفي لتفسير اندلاعه في التوقيت الذي تم فيه ولا اتخاذه الصورة التي جرى بها، فهناك اسباب اضافية لدى كل منهما وداخله دفعت في ذلك الاتجاه. فبالنسبة الى "الاخوان" كانت الصراعات الداخية التي تلت اغتيال المرشد المؤسس حسن البنا في شباط فبراير 1949 حول قيادة الجماعة واستقرار المنصب الاعلى فيها في يد المستشار حسن الهضيبي وصلت قبيل الصدام الكبير مع الثورة في تشرين الاول 1954 الى اشدها. وبدت الجماعة في العامين الاولين للصورة وقد تشظت قيادتها بين اتجاهات مختلفة ازاءها، بعضها يرى ضرورة الاندماج فيها والتعاون معها، والآخر يرفض اي تنازل في هذا المجال ويرمي الى اختراق الجماعة للثورة والسيطرة عليها، بينما تراوح البعض الثالث بين الموقفين. وبدا واضحاً ان الاستقلالية المتنامية للتنظيم الخاص غدت داخله تصورات حول قدرته على قيادة الجماعة والدخول في مصادمات ناجحة ضد الثورة. اما ابان الصدام الثاني العام 1966 فلم تكن الاحوال الداخلية في الجماعة تسمح لقيادتها في السجون بالسيطرة عليه اذ ادت ضربة 1954 الامنية الى تحطيم البنية التنظيمية للجماعة وايقاف كل نشاطاتها في المجتمع. وعلى الرغم من ان منتصف الستينات شهدت بعض الافراجات عن اعضاء الجماعة وقياداتها المعتقلين، فإن الانقلاب الحاد الذي احدثه المرحوم سيد قطب في بنائه الفكري، جرّ الجماعة الى مواجهة اخرى دموية مع النظام الناصري، فقد خرج سيد قطب بتفسيره الشهير للقرآن الكريم "في ظلال القرآن" وبكتابه الاشهر "معالم في الطريق" عن المدرسة الفكرية للاخوان المسلمين اي حيث مدرسة الغلو والتكفير. واذا كانت تلك الاسباب الداخلية في صفوف "الاخوان المسلمين" دفعت نحو المواجهة مع نظام الرئيس عبدالناصر مرتين في اكثر قليلاً من عشر سنوات، فإن اسباباً اخرى داخل هذا النظام غذّت بدورها ذلك الصدام. ففي الصدام الاول العام 1954 كانت الصراعات الداخلية بين اجنحة "الضباط الاحرار"، وبخاصة معركة آذار من العام نفسه مع اللواء محمد نجيب وسلاح الفرسان، بمثابة عنصر ضغط قوي على جناح عبدالناصر للدخول في صراعات اخرى حاسمة مع القوى المناوئة له، وسواء بين "الضباط الاحرار" او خارجهم مثل "الاخوان المسلمين"، لا سيما بعد ان نجح في الحاق هزيمة ساحقة بجناح اللواء نجيب، وغذّت تلك المعركة توجهات جناح الرئيس عبدالناصر نحو تصفية قوة "الاخوان" بسبب تورط بعض قياداتهم في اتفاقات ضده مع جناح اللواء نجيب ابان ازمة آذار نفسها. ولا شك ايضا ان الاجهزة الامنية الوليدة داخل رحم النظام الجديد كان لديها اسبابها "المهنية" و"الفنية" لدفع الصدام مع "الاخوان" الى اقصاه والنجاح في تصفية قوتهم نهائياً، اذ كان ذلك هو أول اختبار حقيقي لها بعد قيامها. اما في صدام 1966 فإن اسباباً من نوع آخر ساهمت في اتساع نطاق المواجهة الجديدة مع الاخوان. وربما تكون الشعبية الواسعة التي نجح النظام الناصري في اكتسابها داخل مصر وخارجها مثلت له دافعاً قوياً للتعامل العنيف والحاسم مع "الاخوان". كذلك يصعب تجاهل اثر طبيعة التوجهات السياسية والفكرية للنظام الناصري في ذلك الوقت وكذلك تحالفاته الداخلية والدولية، والتي سارت جميعها نحو اليسار والاشتراكية. ولا شك ايضاً ان الاجهزة الامنية التي كانت وليدة ابان الصدام الاول اكتسبت مزيداً من القوة والاستقلالية إبان الصدام الثاني، الأمر الذي اطلق سراحها تقريباً في التعامل مع "الاخوان" بعدها في ظل توجيهات عامة من السلطة السياسية. وعلى رغم الاختلافات السابق توضيحها بين طبيعة طرفي الصراع واهداف كل منهما فيه ودوافعهما الى خوضه، فإن ادارته من جانب كل منهما اتسمت بكثير من العناصر المتشابهة ابرزها: السرية والتآمر والذي بدا واضحاً سواء في الصدام الاول او الثاني. فعلى رغم من الخطوط المفتوحة بين الجانبين قبل الثورة وفي عاميها الاولين، فإن ملابسات قرار حل الاخوان في كانون الثاني يناير 1954 ثم ازمة آذار من العام نفسه تشير الى ان الجماعة اختارت طريق العمل السري في تعاملها مع النظام الجديد ومع القوى المناهضة له داخل "الضباط الاحرار"، وتنامي دور التنظيم الخاص للجماعة في ادارة الصراع مع عبدالناصر من مرحلة السرية الى مرحلة التآمر الذي اوضحته محاولة اغتيال عبدالناصر في الاسكندرية. وعلى الجانب الآخر فإن تحرك جناح عبدالناصر سواء تجاه الاخوان او جناح اللواء نجيب قد اتسم بدوره بنفس خاصيتي السرية واحياناً التآمر في مناخ اضحت هاتان الصفتان هما المميز له. وظل الصراع بين الطرفين حتى محاولة اغتيال الرئيس عبدالناصر يجري عموماً ضمن اطار سلمي غير عنيف، رغم تخلله لإجراءات امنية اتخذها النظام ضد "الاخوان" عقب قرار الحل. فجرت محاولة اغتيال الرئيس عبدالناصر شلالات العنف بين الطرفين والتي كانت الغلبة فيها بالطبع للدولة التي اضحى نظام عبدالناصر هو المسيطر عليها والممثل الوحيد لها. ولا شك في ان التجاوزات الامنية الكبيرة التي ارتكبت في حق "الاخوان" بعد تلك المحاولة لا يمكن تبريرها او الدفاع عنها، الا انه لا شك ايضا في ان المفجر الحقيقي لكل ذلك العنف والدافع للجوء الطرفين اليه كان هو تورط التنظيم الخاص للجماعة في استخدام العنف ضد رئيس النظام الجديد عبر السعي لاغتياله وتكرر الخطر نفسه من جانب الجماعة في الصدام الثاني العام 1964. وتميزت العلاقة بين "الاخوان المسلمين" وتنظيم "الضباط الاحرار" الذي قام بالثورة بوجود نقاط تداخل عدة اذ نشأت صلات سياسية وتنظيمية بين اعضاء في الجانبين، بالاضافة الى خبرتهما المشتركة اثناء حرب فلسطين العام 1948. وادى ذلك الى وجود "رؤوس جسور" لكل طرف داخل الطرف الآخر، بما في ذلك المستويات القيادية في كل منهما، وسعى الطرفان قبل قيام الثورة، ثم بعد نجاحها الى استخدام تلك "الرؤوس" في اختراق كل منهما للآخر، وخلق جزر وجماعات ضغط تابعة له داخله، واستمر الطرفان في استخدام تلك الآلية اثناء اندلاع الازمة بينهما لتحقيق اكبر قدر من خلخلة الطرف الآخر وتسهيل مهمة اخضاعه، وبدا واضحاً ان آلية الاختراق المتبادل يتم اللجوء اليها بكثافة من كلا الطرفين، وان كان موقع جناح الرئيس عبدالناصر في السلطة الثورية الجديدة مكّنه من تنفيذها بكفاءة اعلى بكثير من كفاءة الاخوان، وترتب علي استخدام تلك الآلية في الصدام الاول، وتشكل جناح قوى داخل "الاخوان" موالٍ للنظام الثوري انشق عن الجماعة فور احتدام صدامها معه، واصبح يمثل جناحاً اسلامياً داخل النظام الناصري واستمر هذا الجناح ممثلا في المؤسسات التنفيذية والدينية والسياسية للنظام الناصري طيلة وجوده في الحكم. ويحتاج الخطو الى الامام في علاقة اي طرفين سياسيين الى محاولة التعرف على المشتركات الرئيسية بينهما والتي تجعل من ذلك الخطو راسخاً منتظماً وليس مجرد قفز في الفراغ، ويشير تأمل حال التيار الناصري و"الاخوان المسلمين" في مصر حالياً الى وجود مجموعة من الخصائص المشتركة التي ترشحهما للدخول في علاقة جديدة في المستقبل تختلف نوعياً عما شهده الماضي بينهما. فالطرفان يشتركان في قيام كل منهما على يد زعامة كاريزمية هي الشيخ حسن البنا في حال "الاخوان" والزعيم جمال عبدالناصر بالنسبة الى الناصريين، واشترك التياران في مرورهما بمراحل ازمة داخلية مستمرة بعد غياب مؤسسيهما نتجت في جزء اساسي منها عن عدم وجود قيادة كاريزمية اخرى داخل كل منهما. ويأتي العامل الجيلي داخل كل من التيارين لكي يمثل عنصر التشابه البنائي الثاني بينهما، فالتياران ينقسمان داخلياً بصورة واضحة الى اجيال تتقاطع بدورها مع اتجاهات وتطورات وخبرات سياسية وفكرية مختلفة، فالاخوان يتكونون حالياً من اربعة اجيال تختلف في خبرتها التاريخية وخلفيتها الاجتماعية ومزاجها السياسي. فهناك الجيل المؤسس الذي يعبر عنه المرشد الحالي، الشيخ مصطفى مشهور، والى جواره جيل ابنائهم واخوتهم الاصغر او جيل الكهول والذي يمثله احمد سيف الاسلام حسن البنا، ثم جيل الوسط الذي يعبر عنه الدكتور عصام العريان والمهندس ابو العلا ماضي واخيرا الجيل الشاب الذي يضم أخلاطا من التخصصات والمهن والانتماءات الجغرافية. وينقسم التيار الناصري بدوره الى اربعة اجيال ايضا يتوزع انتماء اعضائه بين كل منها بالمعنى السياسي والفكري حتى لو لم ينتم الى اي منها بصورة عمرية، فهناك ما يطلق عليه جيل أيار مايو، وهو يتكون اساساً من كبار رجال الدولة الناصرية الذين عملوا في اجهزتها المختلفة واطاحهم الرئيس السادات في 1971، ثم الجيل الوسيط الذي يتشكل من القيادات الوسطى والصغيرة في الاتحاد الاستراكي والقيادات العليا في منظمة الشباب الاشتراكي، ويتلوه الجيل المسمى تجاوزا "جيل الشباب"، وهو الذي بدأ في الظهور منذ منتصف السبعينات بالجامعات المصرية حيث انطلق فيها من "نوادي الفكر الناصري"، واخيراً جيل الشباب حديثي التخرج من الجامعات من بقايا الجماعات والنوادي الناصرية فيها. ويعرف التياران نتيجة لهذا الانقسام الجيلي صراعات مستمرة حول تمثيل كل منها في قياداتهما، وبالاضافة الى ذلك فهناك جانب آخر لهذا الصراع ينص بحول التصورات الفكرية والسياسية التي تختلف حولها الاجيال الاربعة في التيارين بصورة واضحة. كذلك يشترك الجيلان الاخيران في كل من التيارين في محاولات تمردهما على احتكار القيادة والروؤية من الجيلين الاولين فيسعيان احيانا الى استخدام الضغوط الداخلية وما يبدو ملفتاً للنظر هنا هو ان الخبرة التاريخية والاصول الاجتماعية والمعاناة السياسية للجيلين الاخيرين في كل من التيارين قد دفعت بهما الى الدخول في عدة محاولات للتنسيق والحوار والعمل المشترك على اسس جيلية وسياسية مشتركة. وعلى الرغم من اختلاف الاطر الفكرية والسياسية التي يقف عليها كل من التيارين الناصري والاخواني، فإنهما يشتركان عموماً في كثير من الرؤى والمواقف. فالموقف من الغرب عموماً وبخاصة مرحلته الاستعمارية يعد اول الارضيات المشتركة بين التيارين على الرغم من اختلاف تصوراتهما لوسائل التعامل معه. كذلك فإن ارضيتهما المختلفة في رؤية الدولة اليهودية وصراعها مع الامة العربية او الاسلامية لم يمنع من اشتراكهما في موقف واحد جذري من تلك الدولة ومن مسار العلاقات معها سواء في الماضي او الحاضر. ايضا فإن كلا من التيارين يعتقد بضرورة دخول مصر الى اطر وحدوية خارجية اكثر اتساعاً بحيث تضمن تحقيق تقدمها ومكانتها الدولية، على الرغم من اختلاف طبيعة هذه الاطر. فحيث يرى الناصريون انها الامة العربية يعتقد الاخوان انها العالم الاسلامي، ويبدو ملحوظاً ان معظم تلك القضايا المشتركة تنتمي للعلاقات الخارجية وليس المجال الداخلي، الا ان السنوات الاخيرة قد عرفت بعض التقارب في هذا المجال حول بعض قضايا الديموقراطية والتعبير السياسي. كذلك تشير عوامل عدة داخل التيارين الناصري والاخواني وخارجهما الى انهما يمران حاليا بمرحلة انتقالية شديدة الاهمية يوشكان بعدها على الدخول الى هيئة جديدة مختلفة تماما عما كان عليه طيلة تاريخهما السابق. فالصراع الجيلي بداخلهما الذي احتدمت مظاهره وامتد الى خارجهما، وغياب الزعامة الكاريزمية القادرة على تفادي آثار هذا الصراع، والضغط الخارجي المتواصل من الدولة، كلها تشير الى قرب نهاية الشكل التقليدي للتيارين. والمرجح هو ان يتفكك التياران الى اشكال اخرى عدة سياسية ونقابية واهلية تعمل جميعا من دون تنسيق بينهما تحت الفكرة العامة لكل منهما مع السعي الى تطوير تلك الفكرة بما يلائم متغيرات العصر الجديد. * كاتب مصري.