لم يكن ينقص السودان سوى تظاهرات الاحتجاج على تردي الأوضاع المعيشية لقطاع كبير من المواطنين، فقد دخل هذا البلد في سلسلة طويلة من الأزمات الداخلية والخارجية، إلى درجة أنهكته وجعلته في النهاية من بين أفشل ثلاث دول في العالم، لا يسبقه سوى الصومال والكونغو الديموقراطية. ولم تكن التظاهرات الطالبية التي انطلقت من جامعة الخرطوم في 16 حزيران يونيو الجاري هي الأولى من نوعها، إذ سبقتها احتجاجات متقطعة على مدار الأشهر الماضية، لكن ما جرى في الأيام الفائتة يبدو مختلفاً عما حدث من قبل في أماكن متفرقة، بسبب خصوصية البعد الاقتصادي هذه المرة. فالتظاهرات اندلعت عقب حزمة من الإجراءات التقشفية وبعد زيادة مضنية في أسعار بعض السلع الأساسية. واستمرت على حالها على رغم استخدام السلطات الأمنية كثيراً من الأدوات القمعية المعروفة في إخماد التظاهرات. وبدأت تأخذ طريقاً سياسياً، عندما انضمت إليها قوى حزبية معارضة، وبدأ يتردد الشعار الشهير في جميع الثورات العربية"الشعب يريد إسقاط النظام". عندما يدوي هذا الشعار، يتذكر البعض ما حدث في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية، ويرون أن السودان دخل ربيع الثورات العربية، في حين يذهب آخرون إلى صعوبة تكرار هذه السوابق في بلد تعرض لهزات شعبية مرتين. إحداهما في تشرين الأول أكتوبر 1964 والأخرى في نيسان أبريل 1985، بمعنى أنه أخذ نصيبه منها قبل أي بلد عربي آخر. لكن، في كل الأحوال، هناك تفسيرات ومبررات لدى كل جانب، يعزز بها رؤيته، سواء من قالوا إن السودان على شفا اللحاق بما يوصف بالربيع العربي، أو من ذهبوا إلى أنه لا يزال بعيداً من الدخول إلى هذا المربع. فريقان متقابلان الفريق الأول، استند لتأكيد وجهة نظره إلى مجموعة من المعطيات. في مقدمها، كثرة المشكلات والأزمات التي تعتمل في أنحاء البلاد، والتي يعد نظام الرئيس عمر البشير مسؤولاً أول عنها، نتيجة سوء تقديراته وتصوراته وفشل ترتيباته وتصرفاته، فالجنوب الذي حصل رضائياً على الانفصال العام الماضي كبّد السودان خسائر مادية باهظة، وأفقده نحو ثلاثة أرباع عائداته النفطية. ناهيك عن إخفاق غالبية السياسات الاقتصادية، الأمر الذي أفضى إلى مصاعب متنوعة، تمثل أبرزها في ارتفاع معدل التضخم وزيادة العجز في ميزان المدفوعات وتدهور سعر الصرف وتراجع إنتاجية كثير من القطاعات الرئيسة. ولعلاج الموقف قامت الحكومة بتقليص المصروفات الرسمية وتحديد أسعار المواد البترولية وزيادة الضرائب والجمارك على السلع الكمالية والاتصالات ورسوم السفر والتذاكر، بهدف زيادة إيرادات الدولة. لكن الرياح جاءت بما لا تشتهي السفن، خصوصاً بعد أن صادق البرلمان على خطة التقشف وتزايد وتيرة العنف الذي قامت به الأجهزة الأمنية ضد المحتجين، فامتدت التظاهرات خارج الخرطوم وانتقلت من جامعتها العريقة إلى جامعات أخرى. المواجهات التي وقعت بين المتظاهرين وأجهزة الأمن واستخدمت فيها الهراوات والغازات المسيلة للدموع وأحرقت خلالها إطارات السيارات، ليست الدليل الوحيد على مدى الخطورة التي وصل إليها السودان، بل هناك أدلة أخرى تقول إن هذا البلد لم يعد بعيداً من ربيع الثورات، وإن عدوى ما حدث في دول عربية يمكن أن تنتقل إليه، لا سيما أنه مهيأ لها من نواحٍ مختلفة. والسودان قد يكون مثل تونس أو مصر أو سورية وربما أخطر، ففي هذا البلد تتكاتف الدوافع الاقتصادية مع نظيرتها السياسية والأمنية بصورة خيالية. وهو ما جعل دوائر كثيرة تبادر إلى حد التأكيد أنه سيلحق حتماً بقطار الثورات العربية، فهناك حركة طالبية نشطة بدأت تتوسع في استخدام الوسائل الإلكترونية للحض على التظاهر، في محاولة لاستخدام السلاح ذاته الذي تمت تجربته بفاعلية في مصر وتونس للتحريض على النزول إلى الشارع. وظهرت حركات تحمل اسم"التغيير الآن للسودان". وضاعفت حركة"قرفنا"من نشاطها على الفايسبوك. كما انضم قطاع عريض من المحامين إلى الاحتجاجات وبدأ بعض القوى السياسية المنظمة يلحق بالقطار. وفي هذا السياق اعتقلت الحكومة عدداً من قيادات أحزاب المعارضة وكوادرها. وواصلت تضييقها في مجال الحريات وتكبيل وسائل الإعلام ومصادرة بعض الصحف، وكلها علامات ومقدمات واضحة على احتمال اتساع نطاق التظاهرات. أما الفريق الثاني، فيرى أن هناك مسافة كبيرة بين تظاهرات السودان وما جرى في دول عربية أخرى، ليس لأنه أخذ نصيبه مبكراً في هذا الفضاء، كما قال لي الدكتور حسن الترابي في حوار نشرته"الحياة"قبل نحو عام، لكن، لأن ما يشهده هذا البلد لا يزال محصوراً في إطار النخبة الطالبية النشطة، وأن أحد أهم أسباب نجاح الثورة في كل من تونس ومصر هو تدفق الجماهير وانخراطها في تظاهرات شعبية متواصلة. وهو ما لم نشهده في السودان حتى الآن. كما أن تجربتَي ليبيا وسورية في شكل خاص تمثلان عامل كبح مهم لتعميم التظاهرات في السودان، من زاوية النتائج الأمنية، حيث بدا كلاهما على مشارف حرب أهلية، تعيد لأذهان المواطنين مرارات عقود طويلة عاشوها في حروب مع الجنوبيين. بل إذا دخل السودان في حزام الثورات، قد تكون مصيبته أخطر في هذا المجال، بسبب انتشار السلاح في أيدي المتمردين وتركيبة البلد الإقليمية والعرقية النادرة وكثرة اللاعبين الحريصين على تغذية لهيب التظاهرات. وتحرص فئات متعددة على الابتعاد من هذا الخندق الذي سيكون دخوله وبالاً على الجميع، لأنه يقود إلى تفتت وتشرذم ما تبقى من وحدة ترابية، في شكل تنعكس تداعياته السلبية على كل الأطياف. كوابح خارجية للثورة من جهة أخرى، يردد أنصار هذا الفريق فكرة"طوباوية"كعاصم ضد انتشار التظاهرات بما يؤدي إلى ثورة شعبية، تتمثل في الأخطار الإقليمية التي تنطوي عليها كثافة الاحتجاجات السودانية. بكلام آخر، عدم استبعاد انتشار عدواها في محيط الدول المجاورة، بحكم التقارب في التركيبة العرقية والبنية الاجتماعية. وهو ما ستقف في مواجهته قوى إقليمية ودولية، للحفاظ على البيئة الراهنة ومنع اهتزازها سياسياً، بما يعيد خلط المعادلات الراهنة وتغيير توازناتها، التي درجت قوى مهيمنة على مقاليدها ومسيطرة على مفاتيحها التحكم في كثير من مفاصلها الرئيسة. بالتالي فأي هزة غير محسوبة في السودان ستكون لها تداعيات سلبية على دول الجوار، قد تتحول إلى سبب مهم لفرملة حركة التظاهرات التي بدأ يشهدها السودان. ودلل هذا الفريق على صواب هذه الرؤية، بالطريقة التي تم التعامل بها مع السودان في العامين الأخيرين، وكانت في محصلتها تصب في غض الطرف عن جملة من الممارسات السلبية التي قامت بها الخرطوم، حتى يتم انفصال الجنوب بسلاسة. ودفع هذا الاتجاه البعض إلى القول إن بوادر الثورة موجودة وكامنة في النسيج السوداني، لكن كوابحها الخارجية قوية. الأمر الذي يوفر للنظام الحاكم فرصة جيدة للتصرف بقسوة مع المتظاهرين، حيث يدرك أن الأطراف الفاعلة، تسعى لحماية مصالحها، من دون تشدق بحريات ومبادئ ديموقراطية أو حقوق إنسان. ومن تغافلوا لفترة طويلة عن التشدد في تنفيذ قرار المحكمة الجنائية الدولية بالقبض على الرئيس البشير بإمكانهم تكرار التصرف نفسه مع طريقة مواجهة التظاهرات الحالية. أربع ملاحظات إذا كانت هناك رؤيتان متقابلتان لما يدور في العلن والخفاء من تطورات في شأن تفسير حركة الاحتجاجات، فإن ثمة أربع ملاحظات أساسية على الحالة السودانية من الواجب التوقف عندها، لأنها يمكن أن تساهم في تفسير جوانب أخرى من المشهد الذي نرى مقاطعه من دون إمعان في خلفياته المتوارية وتفاصيله الغائبة عن البعض. الأولى: وفق النظام السوداني أنه نجا من الدخول في ربيع الثورات العربية، بسبب وجود مجموعة من المصالح الكبيرة لبعض القوى الدولية جعلتها لا تحبذ انجراره إلى مربع التظاهرات الواسعة. من هنا، كانت تصرفاته ضد المحتجين والمتظاهرين والمعارضين عموماً تتسم بالجرأة، ليس لأن أيادي هؤلاء بدت ضعيفة أو مرتشعة في وقت من الأوقات، لكن، لأنه كان مطمئناً لبرود ردود الفعل الخارجية. وما تتجاهله تقديرات الخرطوم في هذه النقطة أن سيناريو انفصال الجنوب كان أحد الدوافع المهمة لما ظهر من ليونة في المواقف الغربية. وبعد إتمام تنفيذ هذا السيناريو يبدو الوضع مختلفاً، وربما معاكساً. فالصبر الذي تحلت به هذه القوى استنفد أغراضه وأساءت الخرطوم فهم مبرراته وتعاملت معه على أنه"كارت"دائم الصلاحية، كما أنه أضر بصدقية الغرب في مجال حقوق الإنسان. لذلك، من المرجح أن يحدث تحول ظاهر في أدبيات التعليق على ما يدور من تظاهرات في أنحاء الخرطوم. ولعل التصريحات والبيانات التي أصدرتها منظمات حقوق الإنسان هي مقدمة لتشجيع استمرار الاحتجاجات ومؤشر إلى حدوث تغير مقبل في الموقف الغربي تجاه ممارسة مزيد من الضغوط السياسية على الخرطوم لوقف عمليات الاعتقال وتضييق الحريات. الثانية: بدا النظام السوداني كأنه كسب أحد رهاناته بعد نجاح ثورات تونس ومصر وليبيا وصعود التيار الإسلامي في هذه الدول. وفسرت دوائر نافذة في الخرطوم هذا النجاح بأنه صمام أمان ضد أية تدخلات أو ضغوط تأتي تحديداً من مصر أو ليبيا. وتجاهل الرئيس عمر البشير وفريقه نقطتين مهمتين في هذا المجال. إحداهما، أن الثورة في البلدين المذكورين لا تزال تستكمل أوراقها وأن فكرة الغطاء أو الدعم لم تتبلور في شكل كافٍ، على رغم إرهاصات الحوار التي أجرتها الخرطوم مع أعضاء في الجماعة الإسلامية في مصر واطمئنانها حتى الآن للتغيرات التي حدثت في ليبيا وارتياحها لما يدور في تونس. والأخرى، أن نظام الخرطوم لم يعد في نظر بعض الحركات الإسلامية ممثلاً أصيلاً لها، عقب ما تم إدخاله من تعديلات في خطابه السياسي. صحيح انه من الروافد الرئيسة لهذا التيار، لكن الدكتور حسن الترابي وحزبه"المؤتمر الشعبي"يعتبران الممثل الأقرب للتيار الإسلامي. وهذا الحزب أصبح من أكثر المحرضين على التظاهر ويمارس ضغوطاً متنوعة على الرئيس عمر البشير. من هنا، يصعب القول إن المستطيل الإسلامي المتمثل في مصر وليبيا وتونس يمثل حماية للخرطوم ضد انتقال عدوى التظاهرات. الثالثة: لا تزال قارة أفريقيا بعيدة من قوس الثورات والتغييرات الدرامية التي حدثت في دول أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى وأخيراً المنطقة العربية. ولأنها قارة غنية بمواردها الطبيعية وانحاز عدد كبير من دولها لرأس المال الآسيوي، فالولايات المتحدة، خصوصاً، تحاول فرض هيمنتها منذ فترة، وتقترب تارة بسهولة وأخرى تواجه صعوبات. لذلك، فالمساعدة في نشر التظاهرات يمكن أن تكون مدخلاً لتعديل بعض التوازنات في المستقبل القريب. ولأن السودان هو بوابة أفريقيا من الشمال والأكثر استعداداً لأن يلتحق بالربيع العربي، يمكن أن تجد الاحتجاجات التي بدأت دعماً من واشنطن، إما لأنها سلاح ضغط لإتمام الترتيبات اللازمة في جنوب السودان ومنه لشرق أفريقيا عموماً، أو وسيلة يمكن استثمارها لحض القيادات الأفريقية على تغيير توجهاتها لمصلحتها. وفي الحالين لم تعد القارة السمراء بعيدة من اللحاق بكابوس الثورات. الرابعة: تتزامن التظاهرات والاحتجاجات مع حركة نشطة تقوم بها"الجبهة الثورية السودانية"التي تتكون من الحركة الشعبية - قطاع الشمال وحركة العدل والمساواة وحركتي تحرير السودان بقيادة كل من منى أركو ميناوي وعبدالواحد نور. وقد نقلت هذه الجبهة جزءاً من نشاطها من الجنوب إلى الغرب وأخذت تحرّض المواطنين على التظاهر في ربوع الشمال والشرق. وهو ما يمثل تحولاً نوعياً في الصدام بين الجبهة التي كانت طرفاً محورياً في المعارك التي اندلعت في منطقة هجليج قبل نحو ثلاثة أشهر، حيث بدأت تدخل الآن على خط الحرب بأدوات سياسية. والمشكلة ستكون في مدى الدعم الذي يمكن أن تقدمه جوبا لهذه الجبهة. فمن مصلحتها إرباك حسابات الخرطوم والزج بنظامها في دوامات سياسية متباينة، تجعلها تخفف من التركيز في المعارك العسكرية والسياسية مع جوبا. وتجبرها في النهاية على إظهار ليونة كبيرة على طاولة التفاوض في أديس أبابا والمليئة بالقضايا الشائكة والمعقدة. كما أن البعد الاقتصادي في التظاهرات له علاقة بالجنوب، من زاوية النتائج التي ترتبت على خسارة 75 في المئة من عائدات النفط عقب الانفصال ووقف ضخه عبر الأنابيب التي تمر في أراضي الشمال وتصديره عبر ميناء بورسودان. بالتالي قد يؤدي انتشار الاحتجاجات إلى تليين موقف الخرطوم والتسليم بوجهة نظر جوبا في هذا الفضاء، بما يعد دعماً سياسياً للأخيرة، قبل أن يكون نصراً اقتصادياً. مع التطورات الراهنة يقترب السودان من حزام الزلازل الثورات العربية، ويوشك على الدخول في عملية تغيير حقيقية. وسواء جاءت التظاهرات والاحتجاجات بنتائج قريبة أو مماثلة لما حدث في دول عربية أخرى، أو نجحت الخرطوم في إرهاق الطلاب وإطفاء الشرارة التي أشعلوها الآن، فإن النظام السوداني مطالب أكثر من أي وقت مضى بفهم الدروس والرسائل التي تحملها أحداث الخرطوم، والتعجيل بتهيئة البيئة لإدخال إصلاحات كبيرة، لأن من صمتوا أو قبلوا بالانخراط في القنوات الرسمية من القوى المعارضة، أصبحوا قادرين على الصياح بالرفض وتحمل جميع تكاليفه الباهظة، مادياً ومعنوياً. * كاتب مصري