عندما بدأت التظاهرات تجتاح الخرطوم وغيرها من المدن السودانية، توقعت دوائر سياسية أن يلحق السودان بالعربة الأخيرة لقطار ما يعرف بثورات الربيع العربي، فيما بدأت العربات الأولى تشهد تعثراً لافتاً. ورأت دوائر أخرى، أن الحالة السودانية مختلفة عن سابقاتها، وما يحدث مجرد احتجاجات شهد مثلها هذا البلد من قبل، ونجحت أدوات النظام في الإفلات من براثنها. وذهب تيار ثالث إلى أن الخصوصية التي يتسم بها السودان قد تجعله وقوداً لتظاهرات شعبية أشد وطأة مما جرى في بلدان مجاورة، تفضي به، إما إلى تغيير ناعم من الداخل، أو دخول نفق عميق من الفوضى والانفلات والتفتت. وهنا مناقشة وتحليل لتفاصيل المشهد في السودان. الحاصل أن البلد أخذ نصيباً وفيراً من التظاهرات الشعبية، التي أدت للتخلص من نظامين خلال حوالى عقدين (1964، 1985)، ناهيك عن التظاهرات المتقطعة التي شهدها خلال السنوات الماضية، وكانت ملامحها أشد بريقاً في آخر سنتين، بدأت تجلياتها داخل أسوار جامعة الخرطوم، ثم خرجت منها إلى عدد من الشوارع والميادين. لكن الآلة الأمنية الرسمية تمكنت من قمعها والسيطرة عليها. من هنا راجت في أدبيات بعض القيادات (الإسلامية)، بعد اندلاع ثورات في كل من مصر وتونس وليبيا، عبارة «أن السودان أخذ حظه من الثورات». وتبدو هذه العبارة التي سمعتها مباشرة من الدكتور حسن الترابي، حقاً يراد به باطل، حيث أراد الرجل الدفاع عن النظام الذي اختلف معه، وظل إيمانه بالمشروع الإسلامي أكبر من خلافه السياسي مع الرئيس عمر البشير. وقد ارتكن قادة حزب المؤتمر الوطني لهذا الاستنتاج، وعاشوا نحو ثلاثة أعوام في ما يشبه الاستقرار والاطمئنان النفسي، حتى اندلعت شرارة التظاهرات الحالية في 23 أيلول (سبتمبر) الماضي، ففتحت الباب على مصراعيه لمقارنتها بما سبقها من تظاهرات شعبية. أوجه تشابه المقارنة الموضوعية، تجعلنا نضع أيدينا على مجموعة من أوجه التشابه بين ما يحدث في السودان، وما شهدته دول عربية مجاورة. أبرزها، تقارب الأسباب والدوافع الاقتصادية، حيث قاد الارتفاع الجنوني في الأسعار إلى تضرر قطاع كبير من المواطنين. وربما يكون هذا السبب أشد وضوحاً في السودان، لأن التظاهرات جاءت مباشرة عقب قرار الحكومة رفع الدعم عن المحروقات، وبالتالي زيادة أسعارها بما لا يتحمله المواطن البسيط، لكن لم تغب عن أذهان من خرجوا احتجاجاً سياسات حسني مبارك في مصر، وزين العابدين بن علي في تونس، والعقيد معمر القذافي في ليبيا. وازدادت أهمية هذا العامل وتراكماته بتضافره مع الانسداد السياسي وغياب الديموقراطية وعدم الإقدام على إصلاحات سياسية حقيقية. وهي زاوية مهمة تتقاسمها الأنظمة كافة التي دخلت حزام ثورات الربيع العربي. كما أن مخزون الوقود الذي منح التظاهرات رونقاً وزخماً خرج أساساً من رحم طبقة اجتماعية مهمشة، وفرت درجة عالية من الاستمرارية. من جهة ثانية، تتفق الأنظمة كافة، من سقط (مبارك وبن علي والقذافي)، ومن ينتظر (بشار الأسد في سورية)، في استخدام الآلة الأمنية لقمع المتظاهرين. فرغم تفاوت التقديرات في السودان، إلا أن المؤكد سقوط عشرات القتلى وإصابة مئات الضحايا ووضع عدد أكبر داخل السجون والمعتقلات، وحضر أيضاً سلاح قمع الإعلام المحلي والعربي، والتعنت ورفض الاستجابة للمطالب حاضران. فالحكومة السودانية ضيقت الخناق على المطبوعات ومنعت صدور بعض الصحف، وألغت تراخيص فضائيات عربية. ورفضت التراجع عن قرار رفع الدعم عن المحروقات، وتشبثت بموقفها السياسي عموماً، وكذلك تم رفع شعار المؤامرة في الحالات كافة. فنظام الخرطوم، وجّه على الفور، أصابع الاتهام إلى جهات خارجية، وحمّل الجبهة الثورية السودانية المعارضة، المكونة من حركة العدل والمساواة وحركة تحرير السودان - جناح مني أركو ميناوي والحركة الشعبية لتحرير السودان - قطاع الشمال، مسؤولية الدعوة للخروج عن سلمية التظاهرات، بل اندساس عناصر محسوبة على الجبهة قتلت المتظاهرين. أما نقطة التشابه الأهم سياسياً، فتتمثل في العفوية وعدم التخطيط والترتيب مسبقاً، وغياب المعارضة الحزبية، والتي تحاول في السودان، كما جرى في مصر وتونس وليبيا، الركوب على أكتاف المتظاهرين غير المنظمين، وتوظيفهم كورقة سياسية في المعركة الممتدة مع الخرطوم. الحقيقة أن الكلام المتواتر حول اختلاف السودان عن مصر وتونس وليبيا، يحمل جانباً من الصحة. فمع أن هذا المعنى سقط سقوطاً ذريعاً عقب تكرار التجربة التونسية في مصر، وبدت دول الربيع العربي مثل أحجار الدومينو، إلا أن الحالة السودانية لديها مقومات تباين واضحة. فحتى الآن يغيب عن التظاهرات الحشد الجماهيري المتصاعد، كما حدث في التجارب السابقة. ففي السودان الترمومتر متذبذب حتى الآن، بين الصعود والهبوط. كما ساعد غياب الهدف أو الرمز أو الداعم، في تمتع الحكومة السودانية بميزة نسبية قللت من اتساع نطاق التظاهرات. ففي مصر كان جهاز الشرطة هدفاً محورياً، تطور إلى إسقاط النظام برمته. وفي تونس كان محمد بوعزيزي ملهماً للثورة وساهم في انتقال عدواها من محطة إلى أخرى. وفي كل من ليبيا وسورية وقفت قوى إقليمية ودولية خلف الثورة في البلدين، ومع الفارق في الضبط والربط والحسم، فالمحصلة هناك جهات خارجية معروفة. في المقابل، تغيب هذه العناصر في السودان. لكن ثمة من يحاول اتخاذ مقتل الصيدلي صلاح سنهوري أخيراً في التظاهرات رمزاً، حيث يجري الاحتفاء به وبناء صورة ذهنية شعبية لعملية مقتله على أيدي قوات الأمن، وتحول سرادق عزائه إلى ساحة لصب بركان الغضب على النظام، وتعمد كثير من المعزين إحراج مساعد رئيس الجمهورية نافع علي نافع أثناء حضور العزاء، وخرج مطروداً. لكن لم ينجح هذا المسعى تماماً، لافتقار الفقيد سنهوري إلى أي أبعاد درامية مثيرة أو إنسانية تدغدغ مشاعر المواطنين. كما أن الحكومة تمكنت من إطفاء الشرارة مبكراً، بوسائل سياسية وأدوات اجتماعية متعددة. الحركة الإسلامية هنا وهناك النقطة الأكثر جاذبية في التباينات، تتعلق بجسم الحركة الإسلامية، حيث يحضر جزء أصيل منها في السلطة (حزب المؤتمر الوطني)، ولا يزال أحد روافدها الرئيسية (حزب المؤتمر الشعبي) في المعارضة، وقد حرض المتظاهرين على الاستمرار، ووجّه لكمات مؤلمة لمن كانوا بالأمس حلفاء، وحملهم مسؤولية الاضطراب، واتهمهم بالفساد و»أكل المال العام»، وانتقد سياساتهم ودعا إلى رحيل الرئيس. زد على ذلك قيام 31 عضواً في الحزب الحاكم بتوقيع مذكرة باسم «مجموعة الحراك الإصلاحي» حمّلت النظام تبعات ما سيحدث من تداعيات، ونادت بإدخال إصلاحات حقيقية تعود بالنفع على المواطنين. وأدى هذا التحرك إلى ردود فعل قوية، لأن هناك من اعتبره أول انشقاق في جسد الحركة الإسلامية، بعد انشقاق الترابي الشهير عام 1999، ومن أبرز الأسماء اللامعة فيه الدكتور غازي صلاح الدين العتباني، المستشار السياسي السابق لرئيس الجمهورية. وكشف ظهور هذا الجناح للعلن عمق ما يدور داخل الحركة من خلافات وصراعات، وإخفاق البشير في السيطرة عليها. أضف إلى ما سبق، نجاح الحزب الحاكم في الإمساك بتلابيب ومفاصل الحل والعقد في غالبية أجهزة الدولة. وربما يتشابه نسبياً نظام البشير مع نظام مبارك في مصر، الذي أسقطته الجماهير في 18 يوماً، في ولاء مؤسسات الجيش والشرطة والإعلام والقضاء له، لكن الفارق المحوري يكمن في العقيدة المختلفة لدى المؤسسات في البلدين. ففي الأولى (مصر) وطنية خالصة وانحازت بسرعة ووقفت في صف عموم المواطنين. بينما الولاء في السودان ينطلق من قاعدة دينية أقوى رباطاً. فعناصر الحركة الإسلامية انتشرت في طول الهيئات الرسمية وعرضها، وتحكمت في جوانب كبيرة منها، مقابل تهميش الكثير من العناصر الوطنية. وقد يكون هذا العنصر أحد أهم عوامل كبح جماح التظاهرات، التي إذا فقدت مساندة الدولة العميقة، تكون خسرت ذراعاً استراتيجياً للنجاح. ومن يراجع ثورات مصر وتونس خصوصاً، يعرف الدور الذي لعبته هذه الأداة في نجاح ثورتيهما. من هذه الزاوية تفرض الخصوصية السودانية على المراقب التوقف عند ثلاثة مظاهر: الأول، كثافة التحديات الأمنية. فالنظام يخوض معارك ضارية على جبهة دارفور، وجبهتين أخريين في ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان. وكبدته المعارك خسائر فادحة، وأجبرته على الدخول في مناوشات مرهقة، وجلبت عليه سلسلة من الضغوط الداخلية والخارجية الوعرة. وساهمت الجغرافيا السياسية المعقدة لهذا البلد في فرض أجندات لم يكن يرغب النظام في مناقشتها، لأنها جعلت من خيار التقسيم شبحاً يطارده في كل وقت. وفي ظل اندلاع التظاهرات الراهنة، ستصبح الفرصة مهيأة لتصاعد النعرات القبلية والانفصالية، أو على الأقل المطالبة بمكاسب جديدة والضغط لتنفيذ وعود قديمة، لا سيما الجزء المتعلق بتوزيع السلطة والثورة. وكلها تمثل أحمالاً زائدة على كاهل النظام الحاكم، وتجعله أكثر تعرضاً للابتزاز، واستعداداً للدخول في الخندق المظلم للثورات. المظهر الثاني، امتلاك المعارضة جزءاً معتبراً من مقومات القوة السياسية والحركية. فهناك أحزاب تقليدية لها امتدادات في الشارع. نعم فشلت في إنزال نظام البشير من على شجرة الحكم على مدار السنوات الفائتة، لكن لم تخل هذه الفترة من ضربات موجعة وجهت إليه، وأجبرته على سلوك طريق المناورات والمراوغات، حتى تمكن من تكسير عظام معظمها. ومع ذلك لا تزال تملك رصيداً تستطيع البناء عليه، وسط حالة الفوران التي تشهدها بعض ولايات السودان. وسوف تتزايد تأثيرات هذه المسألة، إذا حققت المعارضة تواصلاً مع الجبهة الثورية التي هددت من قبل باجتياح العاصمة الخرطوم. وبلوغ التنسيق والتعاون بين الجانبين سيضع النظام في مأزق غاية في الصعوبة، يمنح المتظاهرين أفقاً للاستمرار وعدم الرضوخ لأي ضغوط أمنية. والمظهر الثالث هو الانقلاب من داخل النظام، فهناك جهتان توفران فرصة جيدة لهذا الخيار. إحداهما، المؤسسة العسكرية، التي تفوح منذ فترة من داخلها رائحة عدم الرضا عن أداء البشير، وكانت هناك إشارة سابقة لاحتمال عدم ترشح الرجل في الانتخابات الرئاسية المقبلة في عام 2015، وقتها قطعت بعض المصادر أن الرئيس المقبل سيكون، لا محالة، من هذه المؤسسة. وبعد الميوعة في موقف البشير النهائي، واشتداد حلقات الخناق السياسي والاقتصادي، من الممكن أن تجد هذه المؤسسة نفسها مضطرة إلى إزاحته بنعومة، خشية أن تتفاقم التظاهرات وتفرض عليها قيادة من خارجها، ويصبح هذا التغيير محاولة لامتصاص غضب الجماهير. أما الجهة الأخرى، فهي الحركة الإسلامية التي تموج بعض هياكلها بالغليان من تصرفات البشير والدائرة الضيقة المحيطة به، وعانت ممارساته الإقصائية وسعيه الدؤوب للسيطرة على مقدرات الأمور داخلها، الأمر الذي ظهر في المؤتمر الذي عقد قبل نحو عام، وفيه أزاح البشير منافسيه الرئيسيين، وتخلص من خصومه الأساسيين في الحركة. لكن المؤشرات القادمة داخلها تشي باستنفارها، والسعي لانتهاز فرصة التظاهرات والاحتجاجات لوأد ظاهرة البشير التي طالت أكثر مما يجب. في كل الحالات مرجح أن تكون التظاهرات نقطة تحول في عمر النظام السوداني في صورته المعروفة منذ سنوات، لأن العناصر المتحكمة في جنباته السياسية والأمنية والاقتصادية، فضلاً عن نفاد صبر بعض الدوائر الخارجية، وصلت إلى ذروتها، ولم تعد تقبل التعايش مع نظام يبدو أنه يلفظ أنفاسه الأخيرة. لكن السؤال هل روحه ستخرج على أيد من داخل جماعته، أم يتعرض لضربة جماهيرية قاصمة تأتيه من حيث لم يدر، فتدخل البلاد في دوامة ربما لا أحد يعرف مداها ونتائجها وتداعياتها؟ * كاتب مصري