ترى ما الذي رآه جان كوكتو جاذباً له في حكاية"الحسناء والوحش"، التي كتبتها مدام لوبرانس دي بدمان ذاتَ يوم للأطفال وقلّدت بعد ذلك كثيراً، حتى يعمد الى اقتباسها في العام 1946 في فيلم عاد فيه الى السينما كمخرج بعد غياب كان قد طال أمده؟ للوهلة الأولى قد تبدو الإجابة عسيرة طالما أن أسلوب كوكتو، في الكتابة كما في السينما والمسرح، أسلوب طليعي لا يخلو من تركيبية وتعقيد، ما يجعل اي حكاية يقتبسها، في حد ذاتها، امراً غير ذي اهمية فائقة. ولكن إذا آثرنا أن نقرأ الحكاية في ضوء تفسيرات التحليل النفسي، كما فعل مثلاً برونو بنتلهايم فرويديّاً في كتابه الأشهر"سيكولوجية حكايات الجن"، قد نصل الى جواب يبسّط الأمور. ولعل الناقد الذي تحدث يوماً عن أن كوكتو عرف كيف يحوّل حكاية الترفيه عن الأطفال تلك الى واحدة من الخرافات الأكثر إثارة للقلق، كان على حق. ذلك أن"الحسناء والوحش"تحولت على يدي هذا الشاعر/ الفنان الذي لم تعرف فرنسا مثيلاً له طوال القرن العشرين وعرضه، الى عمل جدّي ساحر يتحدث عن الجمال والقبح من منظور فلسفي وإنساني لا من منظور يرتبط بالأحكام القيمية. والحال أن هذا الإمكان هو، بالتحديد، ما رآه كوكتو في الحكاية فتحوّلت الى فيلم كلاسيكي تبعاً لنظريته التي كانت ترى أن السينما ليست الفن السابع فقط، بل سيّدة الإلهام MUSE العاشرة. ومن هنا نراه يطلق على هذه الملهمة اسماً محدداً هو"السحر"MAGIE، لاعباً في ذلك على إعادة ترتيب أحرف كلمة صورة بالفرنسية IMAGE، كما يقول الناقد الفرنسي كلود بيلي مفسّراً. إذاً، قد يمكننا أن نقول إن استحواذ جان كوكتو على حكاية"الحسناء والوحش"هو التطبيق العملي لربطه مفهوم"الصورة"بمفهوم"السحر"، لغويّاً وعمليّاً، وذلك ضمن بُعد فلسفي سيكولوجي هو الذي لا يزال يضفي على هذا الفيلم مكانته. وهنا لم يكن صدفة أن يتولى جان كوكتو اخراج الفيلم بنفسه، بعد سلسلة أفلام كتبها وصاغها، بل صمم لها الديكورات وحدد انواع الموسيقى، ثم دعا آخرين لإخراجها، كما فعل بالنسبة الى"العود الأبدي"عن أسطورة"تريستان وإيزولت"، من اخراج جان ديلانوا، و"الأهل الرهيبون"من اخراج جان بيار ملفيل، و"روي بلا"من اخراج بيار بيون. هنا في"الحسناء والوحش"آثر كوكتو الإشراف الكلي على الفيلم، في عودته الى الإخراج بعد غياب... ينطلق السيناريو الذي كتبه كوكتو بنفسه، انطلاقاً من الحكاية الأصلية، من افتتاح على طريقة الحكايات الشرقية"كان يا ما كان...". وما كان هنا في البداية هو تاجر ثري كان رزق بأربعة أبناء، أولهم الشاب اللعوب لودوفيك، ثم الشقيقات الثلاث، ادلاييد وفليسي، الشريرتان المدّعيتان، وأخيراً الصغرى الحسناء بيل التي تعتبر تجسيداً لكل جمال وفضيلة. وحال هذه الحسناء هنا تشبه الى حد ما حال سندريلا، من حيث غيرة الشقيقتين منها وعذابها في حياتها. المهم أن للأطفال هؤلاء رفيق لعب يدعى آفينان. وذات مساء، فيما كان الأب في جولة، يحدث له ان يضيع طريقه في الغابة الكثيفة. وهو خلال ضياعه يقطف، من دون أن يدري سوء فعلته، وردة تعتبر من مقتنيات الوحش الشرير الذي يعيش معزولاً داخل قصره الغامض والمظلم وسط الغابة. وهذا الوحش الذي لا يعرف عنه كثر شيئاً هو وحش حقيقي، له جسد رجل ورأس أسد. وهو دائم الحزن والكآبة كأنه يخفي في أعماقه سراً شديد الخصوصية. وعندما يكتشف الوحش أن التاجر سرق له الوردة يطالبه بالتعويض. ويقرر ان هذا التعويض يجب أن يتمثل في مجيء الحسناء بيل للإقامة في قصره. فإن ضحّت بنفسها وفعلت ذلك سيبدي تسامحه مع فعلة الأب. وتقرر الحسناء المحبّة لأبيها والودودة أن تضحي بنفسها وتتوجه الى قصر الوحش وهي مستعدة لكل أنواع القسوة والعذاب. لكن شيئاً من هذا لا يحدث، لأن الحسناء تكتشف لدى هذا الوحش كنوزاً من الطيبة واللطف والكرم. إنه شيء آخر غير ما كان يصوّر وما كان يتصوّره الكلّ عنه. بدلاً من"الجلاد"المتوقع تجد كائناً عذباً حنوناً. وهكذا حين تعود الى بيتها ذات يوم، تلاحظ السعادة عليها، ويلاحظ أشقاؤها حسن أناقتها وجمال مظهرها. وإذ تزداد غيرة الأختين ادلاييد وفليسي إزاء الحسناء، يتدافع فتيان الحكاية للصراع في ما بينهم، وإذ يقتل آفينان خلال ذلك الصراع، يكاد يقضى في الوقت نفسه على الوحش، غير ان هذا لا يخسر في نهاية الأمر -في ذلك الصراع- سوى جلده، أي شكله الخارجي. ذلك أن نظرة حب تلقيها عليه الحسناء تحوّله بسرعة من وحش الى أمير فاتن. وهكذا تنتهي الحكاية -والفيلم طبعاً- تلك النهاية السعيدة، التي ينتصر فيها الحب على الغيرة والحقد، والجوهر على الظاهر... من المؤكد أن جان كوكتو اختار أن يعود الى السينما عبر هذه الحكاية، بفضل ما وجده فيها من معان وامكانات، وخصوصا أنها مكّنته من أن يعطي دوراً سينمائياً خالداً لممثله المفضل، ورفيقه في ذلك الحين، جان ماريه. ونذكر هنا أن جان كوكتو حين أعلن أنه في صدد تحقيق فيلم عن هذه الحكاية، جوبه باستهجان الكثر، ذلك أن تلك السنوات التي كانت فيها فرنسا بالكاد خرجت من أتون الحرب العالمية الثانية، ومن ذل هزيمتها خلال تلك الحرب، كانت تتجه، مبدعين وجمهوراً، ناحية الأفلام الواقعية. ومن الطبيعي القول ان حكاية"الحسناء والوحش"لم يكن فيها أي نصيب للواقع. كانت رمزاً للفن اللاواقعي. ومع هذا تمكن كوكتو من أن يحقق معجزته الصغيرة. وحقق الفيلم نجاحاً كبيراً، سواء على صعيد الإقبال الجماهيري، أو على صعيد تقبّل النقد والحياة الثقافية له. بل إن نجاحه في إضفاء عمق غير متوقع على جوهر الحكاية وربطها بالفن كمفهوم وبالسينما كمكان للتعبير عن أصفى درجات السحر، سرعان ما تبدى معدياً، إذ إن كثراً من الفنانين، إذ وجدوا ان الفنون الواقعية وصلت الى درب مسدود،"اكتشفوا"مدى ما يمكن للسحر أن يزودهم به من مواضيع، وأن يزود الجمهور به من أحاسيس وشفافية شعرية، ونهجوا من هذا كله، لزمن طويل لاحق، نهجاً عبّر عنه كوكتو بنفسه حين قال إنه إنما أراد ب"الحسناء والوحش"أن يعطي للسينما تعريفاً جديداً هو"أنها حلم ينام واقفاً". وهو لكي يعطي حلمه كلَّ صدقيته، نهل في الديكور والإكسسوار من خزانات العجائب: الغابات، القصور، مبدأ التحول، دور الحب في قهر الرصد واللعنة، الحصان الطائر، الغيرة العائلية، مكافأة الطفلة المظلومة... إلخ. وجان كوكتو 1889-1963 الذي عرف دائماً كشاعر وكاتب أكثر مما عرف كسينمائي، كان فريد نوعه بين المثقفين الفرنسيين، إذ نراه يخوض كتابة الشعر والرسم والموسيقى والكتابة للأوبرا والباليه، وللمسرح، كما خاض في أدب الرحلات وله في هذا المجال كتاب متميز يحكي فيه الكثير حول إقامته لفترة في مصر... ومع هذا، فإن ثمة بين مؤرخي السينما، وأيضاً بين مؤرخي الحياة الفنية الفرنسية في شكل عام، من يرى أن جان كوكتو كان سينمائيا أولاً وأخيراً. وكوكتو كان أثبت ذلك باكراً، أي منذ حقق فيلمه الأول، مع بدايات السينما الناطقة"دم شاعر"1930، حيث قال إن أي محاولة لفهم العمل الفني الحقيقي لن تكون مجدية طالما أن الأمر يقوم في"أن نصدق لا في أن نفهم"، وهو إذ عاد إلى الإخراج بعد ذلك بستة عشر عاماً، على رغم عدم ابتعاده حقاً عن السينما إذ عاون في أفلام كثيرة معظمها حمل بصمته أكثر مما حمل بصمة مخرجه، واصل بعد"الحسناء والوحش"وحقق بعض أروع أفلامه، مثل:"أورفيو"و"وصية أورفيو"1950 و1960... [email protected]