في لحظة مُعبّرة وعابرة، دهمني سؤال جدِّي حول جدوى الكتابة عن ربيع عربي تتخلله أعاصير؟ وما تُجديه الكتابة بالحبر البارد حين يُكتب التاريخ بدماء الأبرياء والعقلاء والبسطاء والدّهماء أيضاً؟ ألا تكون الكتابة وسط رائحة الموت مجرّد جُبن مُبطن؟ أم تراها أنانية كاتب يستخلص من آلام النّاس مادّة للكتابة؟ أم أنها ترف تسجيل مواقف ترجيحية أمام القرّاء أو هواة القراءة؟ أم هي وهم العقل المجرّد الذي ينظر إلى الجموع من علياء شرفته، لغاية الكلام عمن لا يحب الكلام إليهم؟ وفي الأخير"هل هي مجرّد رغبة في ترك أثر للعبور عبر العبارات، على طريقة"عابرون في كلام عابر"؟ كنت غارقاً في لجّة السؤال عندما جاءني الجواب من ذروة الحدث. الرّاوي، ناشط سوري سلمي، مرهف الحس، مفعم بالمشاعر الإنسانية، صديق قريب من الروح والقلب. لكنه أيضاً طبيب متدرب، كان وقت الواقعة في حراسة ليلية في أحد مستشفيات العاصمة السورية. لكنه الآن معتقل من طرف أجهزة الاستخبارات السورية. أرجو له السلامة والحرية. تقول الحكاية: في يوم"الجمعة العظيمة"22 نيسان/ابريل 2011، اقتحم رجال الأمن مستشفى في العاصمة السورية، وسلّموا للأطباء جثة شاب مضرّجة بالدماء ثم انصرفوا. وجرّاء الظروف الأمنية، بادر الطاقم الطبي إلى وضع الجثة داخل برّاد الأموات. في الغد، عاد الأطباء للقيام بإجراءات الفحص والتوثيق. ولما فتحوا درج الجثة لاحظوا وجود عبارة مكتوبة بالدم تقول:"أنا حي". على الفور أخرجوا الجريح من البراد. لكنه كان قد صار جثة هامدة. وقتها أدرك الجميع هول ما حدث: عند تسلمه، لم يكن ذلك الشاب قد فارق الحياة بعد، لكنه كان في غيبوبة عميقة. ومن الواضح أنه استفاق في إحدى اللحظات، وأحس بجسمه يتنمل وسط ظلام بارد، وربما راوده الشك في ما إذا كان لا يزال على قيد الحياة. وقد يكون تحسّس بعض أطراف جسمه المنزوف، فاهتدى إلى موضع الجرح، ثم بدأ يلامس الدم البارد وهو يكاد يتجمد، ما أيقظ فيه الإحساس بالألم. ووحده الألم كان دليله على أنه لم يفارق الحياة. ربما... لكن، كيف يعبر عن هذا الكشف الغامض والمشفوع بأمل خافت وبألم ينبض قليلاً؟ كيف يحكي عن ذلك الكشف ولو بعد فوات الأوان؟ وهل ثمّة من معنى لذلك الرعب الذي يحدث له إذا لم يصر حكاية تُحكى ورواية تروى؟ كانت أمام ذلك الجريح فرصة أخيرة لينقذ الحدث: أن يكتب، ولو بالدم الذي بدأ يبرد ويتجمد، وبالألم الذي يدل على بقايا نبض حياة. كلمة واحدة تكفي لتقول كل شيء، لا سيما حين تكتب بدماء نزيف هو في الأصل ثمن شعب أراد الحياة:"أنا حي". مات الجريح أخيراً في عزلة قاتمة. ربما الجسد لم يتحمل ضيق الدرج وبرودة الصندوق. وإذا لم يكن للكتابة بالدم البارد أن تغير من قدر الموت شيئاً، فإنها على الأقل، بل وعلى الأرجح، جعلت من هذا الموت الصامت حدثاً مدوياً وقويّاً. هنا الإجابة: قد لا تغير الكتابة من قوّة الأشياء شيئاً. لكن، لا يصبح أي شيء حدثاً قوياً إلا بفعل قوّة الكتابة. لذلك، لم يولد التاريخ إلا مع ظهور الكتابة، ولن ينتهي التاريخ إلا بموت الكتابة. ولذلك أيضاً، يحدث لنا أن نكتب. * كاتب مغربي