ظلّت الناصرية ظلاً لازم الفاعلين في العمل السياسي في مصر. عقب"ثورة يناير"أطلّت صورة عبد الناصر، الذي حلت قبل أيام ذكرى مرور 41 عاماً على رحيله، في ذاكرة المصريين. مراجعات فكرية ودراسات وأبحاث عن الزعيم يتوالى صدورها، ونقاش - متخصص وغير متخصص - ساد الدوائر السياسية والثقافية، يرغب في البحث عن كيفية تشكل شرعية نظام"يوليو"، وكيف صارت الناصرية ما هي عليه؟ وهل ما زالت فكرة تحكم التاريخ إلى الآن؟ يعكف توفيق أكليماندوس، خبير الشؤون المصرية في"كوليج دي فرانس"على كتاب بالفرنسية عن عبد الناصر، وهو صاحب دكتوراه في دراسة الحركات السياسية داخل الجيش المصري منذ 1936. وآخرون - قلة - اهتموا بتحليل خطب ناصر ومقولاته ومقالات صحافيي النظام وقتها. من هؤلاء، الباحث التاريخي شريف يونس الذي أعاد صياغة أطروحته للدكتوراه وضمَنها في كتاب صدر أخيراً، عن دار الشروق في القاهرة، لكنه فعلياً كان جاهزاً للطبع قبيل الثورة. يمكن القارئ - بحسب ما يدعو المؤلف - اعتبار ما سيرد في الكتاب من تفسيرات"تنبؤاً"بثورة يناير. الثورة كما كان يتوقعها هي"نقطة انطلاق نحو السياسة لا العمل السياسي، نحو تلك البقعة العمياء التي تولد في رحمها كائنات عالم الجماعة السياسية الحديثة". وربما كان الرجوع للناصرية وتفكيكها"ردّة سياسية"، في محاولة لملء الفراغ السياسي الذي أحدثته ثورة 2011 بطبيعة الحال، وفراغ التوقعات الذي يعيشه أصحاب الآمال الحالمة، وأخيراً محاولة لاستيعاب الصعود التدريجي من جديد للقوى الإسلامية في المشهد السياسي المصري. يقول شريف يونس في كتابه"نداء الشعب... تاريخ نقدي للأيديولوجيا الناصرية": إن"انقلاب يوليو"لم ينشئ وضعاً ثورياً، وكذلك يرى سمير أمين في كتابه الصادر أخيراً عن دار"العين"في القاهرة تحت عنوان"حول الناصرية والشيوعية المصرية". تحرك عبد الناصر"نيابة عن الشعب ولأجله"، وتأسس"انقلاب يوليو"على حلم أو شبح اسمه"نداء الشعب". أما البلاد فحصرتها"الناصرية"لأكثر من نصف قرن بين حالتين: إما"الانتقال المزمن"، أو"الثورة الدائمة". النظام نفسه - وفق أمين - استمر على الأقل لعشر سنوات ثم فقد نفسه تدريجاً. قدم كتاب يونس عبد الناصر من حيث هو بطل يشغل موقع"نبي الشعب"، يحقق مكاسب معنوية ومادية للناس وهم في مقاعد المتفرجين. لكنه"بطل تراجيدي"قاده قدره إلى اكتشاف أزمته مبكراً، إلا أنه"عجز عن الحركة بحرية داخل معبده". كان كل ما يؤسس له الزعيم يسير في مسار لا يقبل الرجعة. مسار نظام"يوليو"يصفه شريف يونس في الكتاب ب"حبل مشدود بين تناقضات: اشتراكية فاشية، وثورة". لكن الناصرية، كما يتناولها المفكر اليساري سمير أمين، هي مشروع وطني رأسمالي بورجوازي عاش"وهم"الاشتراكية. نصّ سمير أمين سمير أمين يكشف في كتابه للمرة الأولى عن نص بعنوان"مصر الناصرية"كان قد كتبه بالفرنسية عام 1961 ونشر باسمه الحركي السري وقتها"حسن رياض". يرى فيه أن"الضباط الأحرار"لم تكن لديهم صورة واضحة عن الاشتراكية. يقول:"ظلت نظرة نظام يوليو حتى انعقاد مؤتمر باندونغ رأسمالية الطابع قائمة على"أوهام التمصير"أي احتمال إقامة رأسمالية مصرية مستقلة عن الاستعمار". نقد الناصرية يمكن قراءته من حيث هو ربط بين فشل الحركات الماركسية والشيوعية وبين الناصرية. يحمّل ناصر تبعات تقويض الفكر الاشتراكي الإصلاحي وصعود تيار الإسلام السياسي. وفق الطرح الأول الخاص بالباحث التاريخي شريف يونس لم تكن الناصرية صدفة في تاريخ البلد، بل كانت ابنة توترات قرن ونصف قرن من الحداثة الاستعمارية. الناصرية هي نحن، قدرنا، هي مشكلتنا، وتجاوز الناصرية هو تجاوز أنفسنا أو كما يقول:"المشكلات قائمة في الشعب لا في أعدائه ولا في اسم الشعب". أما تحليل سمير أمين فينظر للناصرية بعينيّ الشيوعيين. يمكن اعتبار الهدف الذي ينطلق منه كتابه هو الدفاع عن الشيوعية. أما بحسب تحليل كتاب"نداء الشعب"المستفيض فإن شرعية نظام يوليو"جريحة"انتقالية، شرعية مشروطة بإنهاء نفسها بنفسها. يسأل المؤلف: أين تكمن هشاشة النظام السياسي قبل 1952 وسمحت بسقوط مجمل الدولة في أيدي مجموعة محددة من ضباط الجيش؟ في حين لا يبعد طرح سمير أمين كثيراً عن تلك الرؤية."الشعبوية"كانت وقود عبد الناصر للبقاء، وأسلوب الناصرية الوحيد لتنفيذ طموحاتها. وكان الخوف الذي ظل يلاحق الناصرية هو تخطي الطبقات الشعبية وافتقاد دعمها. ومن هنا جاء الخلط بين نظام الدولة وبين الاشتراكية. ما الذي بقي من"نظام يوليو"؟ ربما اختار سمير أمين المدخل نفسه وهو أن النظام الناصري محصلة لما سبقه - المد الثوري من 1919 - وليس انطلاقة لمرحلة جديدة. وذهب إلى أن"عبد الناصر أنهى الموجة الثورية". ما حدث في 1952 أسس للحكم العسكري بحسب يونس:"أسس نظام يوليو لشعب استهلاكي مرهون لحكم الطوارئ"، لا لحكم التيار الإسلامي بحسب أمين. كان"الضباط الأحرار"، في كتاب يونس، أبناء تمزق عميق في النظام السياسي، ونظام يوليو وريث شروخ عميقة في عملية بناء الدولة المصرية الحديثة. هذا الزواج بين النظام الجديد والسراي أنتج ما أسماه المؤلف"حكم السراي باسم الشعب". تقدم الجيش للاستيلاء على السلطة، وطرح أفكاراً إصلاحية بلا شكل سياسي، ظهر"المستبد العادل"و"الأمة الموحدة بالعنف". في رؤية أمين، رفض النظام الناصري فكرة الديموقراطية، أو كما تندّر معاصروه"الزعيم أمّم السياسة". وحين يرى شريف يونس أن الناصرية شرعية انتقالية ناقصة ومتناقضة لا أكثر، ويكتب:"وقع النظام في أقسى شروط عجزه الداخلي وفشله في ملء الفراغ الذي وعد به"، يصفها أمين ب"الرجعية"، ويرى أنها سقطت لأنها لم تهيئ لنفسها الشروط اللازمة للاستمرار والتطوير.