في مقال منشور في صفحة «قضايا» بتاريخ 14 أيلول (سبتمبر) الجاري تحت عنوان «مصر في معركة البحث عن الذات» طرح الكاتب المصري صلاح سالم رؤيته المتعلقة بعملية إعادة بناء وتحديث الدولة المصرية على ثلاثة أصعدة، أولها هو الحفاظ على تماسكها الداخلي، وثانيها هو تحقيق الاستقلال الوطني في مواجهة الخارج، وثالثها هو العبور نحو ديموقراطية راسخة، وذلك انطلاقاً من فرضية أساسية وهي أننا بصدد لحظة تأسيسية ثانية تلت اللحظة الأولى التي بدأت إبان ثورة 23 تموز (يوليو) 1952 فحققت هدفين وأخفقت في تحقيق الثالث الذي ينبغي على ثورة 30 حزيران (يونيو) أن تحققه باعتبارها لحظة التأسيس الثانية في التاريخ المصري المعاصر. هناك إشكاليتان تجعلان هذا التحليل يرتطم بالواقع. الإشكالية الأولى هي تعاطي الكاتب مع تاريخ مصر السياسي بوصفه متوالية تاريخية تكمل فيها كل حلقة أهداف الحلقة التي سبقتها وهذا ما لم يحدث طوال تاريخ مصر المعاصر بكل أسف. فبحسب ما ذكر المؤرخ المصري صلاح عيسى في كتابه «الكارثة التي تهددنا»، فإن البورجوازية المصرية التي شكلت بجناحيها الكبير والصغير، تيارات الحركة الوطنية المصرية كافة خلال القرن المنصرم، أخضعت تاريخ مصر المعاصر لأسلوبها في الصراع السياسي الذي يتميز بضيق الأفق والقبلية، بحكم نشأتها السياسية في ظروف غير ملائمة، ما جعل كل حركة من حركاتها تنظر إلى ما سبقها نظرة مقت وكراهية، وهو ما فعل الوفديون مع مصطفى كامل بعد قيام ثورة 1919، والقوميون العرب مع الوفديين بعد قيام ثورة تموز 1952 وأنصار السادات مع مشروع عبد الناصر الفكري والسياسي بعد ثورة التصحيح في أيار (مايو) 1971، وحدث ذلك انطلاقاً من حقيقة تاريخية واضحة حكمت حركتها ألا وهي الطبيعة الديالكتيكية (الجدلية) التي حكمت نمو البورجوازية المصرية ومثلت بالنسبة إليها قانون الحركة والصراع، فعلى رغم الطابع الاقتصادي البحت لذلك التحليل التاريخي الذي يرد صراعات الحركة الوطنية المصرية إلى الانتماء الطبقي لقياداتها وكوادرها، إلا إننا يجب أن نعترف في النهاية بأن الأمر الثابت في تلك القضية هو أن مسار الحركة الوطنية المصرية عكس منطق صراع الحلقات والأجنحة بأكثر من ما عكس تكامليتها وتعاضدها. أما الإشكالية الثانية فهي الطبيعة التاريخية الاستثنائية لحقبة الرئيس جمال عبد الناصر والتي سمحت للرجل بالحفاظ على التماسك الداخلي للدولة والمجتمع عبر تكوين نظام شمولي صادر من خلاله الحركة الوطنية لحساب زعيم أوحد وتنظيم أوحد وخطاب سياسي أوحد. فبحسب ما ذكر المفكر المصري جلال أمين في كتابه «نحو تفسير جديد لأزمة الاقتصاد والمجتمع في مصر»، فإن أحد أبرز ملامح التجربة الناصرية هو نجاحها المذهل في تجميد الصراع بين التيارات الإصلاحية الثلاثة في الحركة الوطنية المصرية ممثلة في التيار الليبرالي والتيار الماركسي والتيار الديني، فعلى رغم تبني عبد الناصر قضية الإصلاح انطلاقاً من قيم مدنية وعلمانية، إلا أنه حاول وبدرجة عالية من الحرفية والنجاح تحاشي الصدام المباشر مع التيار الديني الذي انتصر عليه في معارك صغيرة متتالية، بعكس ما فعل كمال أتاتورك مع الإسلاميين في تركيا، فضلاً عن أن احترامه الشكلي للدين وتمييزه لتجربته عن التجارب الاشتراكية الماركسية بتسميتها الاشتراكية العربية كان عاملاً مساعداً في كبت وتأجيل صدامه مع هذا التيار. أما بالنسبة إلى الماركسيين والليبراليين، فإن تبني عبد الناصر شعارات الفكر الاشتراكي واستعانته بخبرات الاشتراكيين في إدارة الدولة ونجاحه في تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة وحقيقية وفرت في مجملها، بحسب ما ذكر أمين، مبرراً موضوعياً كي يقبل الماركسيون والليبراليون بعدم التطبيق الكامل لأطروحاتهم النظرية المتعلقة بمشروع النهضة المصري. لذلك فإن هناك سؤالاً يجب أن يُطرح في هذا السياق ويتعلق بإمكانية أن تكون تجربة تموز 1952 مقياساً لتجربة التحول الديموقراطي والنهضوي في مصر بعد ثورة 25 يناير وموجتها الثانية في 30 حزيران، خصوصاً أن تلك التجربة يجري استدعاؤها بشدة لتبرير عملية إقصاء جماعة الإخوان من المشهد مثلما فعل عبد الناصر في آذار (مارس) 1954. أعتقد، في ضوء حالة المراجعة والتفكيك التاريخي التي جرت لتجربة يوليو منذ هزيمة يونيو 1967، أن البحث عن موطئ قدم لها الآن باستدعاء شعاراتها وزعاماتها بات أمراً مستحيلاً، ففضلاً عن الطابع الصراعي للحركة الوطنية المصرية والطابع الكاريزماتي الجامع لشخصية وخطاب عبد الناصر اللذين ذكرتهما آنفاً، فإن هذا الارتداد إلى تجربة تموز 1952 يفتقد كذلك المبرر الأخلاقي والتاريخي، لأنه، ببساطة، يتم في حال التشفي ولحظة الصراع الأيديولوجي العنيف اللتين يريد كثيرون أن تتم ترجمتهما عملياً بإبعاد وإقصاء جماعة «الإخوان المسلمين» عن بناء النظام السياسي الجديد، خصوصاً بعد حكم القضاء الأخير بحل الجماعة ومصادرة أموالها، على رغم أن السياقات التاريخية لهذا الإبعاد الذي تم بنجاح في عام 1954 لا تتوافر في اللحظة التاريخية الراهنة. فتحقيق العدالة الاجتماعية بعد ثورة ديموقراطية كثورة يناير، لا يتطلب قراراً بحل الأحزاب والجماعات السياسية، مثلما حدث في العهد الناصري، كما أن الانتماءات الطبقية لقادة الجيش الذي يهيمن على 40 في المئة من مجمل النشاط الاقتصادي في مصر، لن تسمح لهم بالقيام بإجراءات راديكالية وثورية على هذا الصعيد، كما حدث في تجربة يوليو، ناهيك عن أن فشل النظم الديكتاتورية، كالنظام الناصري، في تحقيق الاستقلال الوطني ومواجهة الاستعمار قد تأكد للجميع في شكل عملي بعد هزيمة حزيران 1967، ولذلك يمكن القول إجمالاً إن عملية بناء مشروع النهضة المصري بعد ثورة يناير يجب أن تعكس طبيعة المرحلة الراهنة على رغم مساراتها المتعرجة التي قد تصعب من تلك المهمة. هذا في ظني أفضل بكثير من استدعاء تجارب الماضي لصناعة هجين تاريخي وسياسي نمزج فيه ما لا يمكن امتزاجه أبداً. * كاتب مصري عدلي منصور (أ ب)