يعتبر كتاب"التأملات"، الذي صدرت منه ترجمة عربية أخيراً عن دار"رؤية"في القاهرة، أنجزها عادل مصطفى، وقدم لها أحمد عتمان، من أبرز آثار الفكر الفلسفي الرواقي، ويعرض إيمان مؤلفه ماركوس أوريليوس، بأن الحياة التي تتنسم عبير الأخلاق قادرة على أن تسير بنا في طريق السكينة والطمأنينة، وأن الحكمة والعدالة والاعتدال والصلابة في المواقف هي فضائل لا يدركها إلا صاحب روح نقية. ارتقى ماركوس أوريليوس عرش الإمبراطورية الرومانية عام 161 للميلاد وأشرك معه في الحكم أخاه بالتبني، ضد رغبة مجلس الشيوخ، ومن ثم فقد صار للإمبراطورية حاكمان في وقت واحد. وتميز عهده بالحروب في آسيا ضد إعادة الإمبراطوريه البارثية، والقبائل الجرمانية إلى بلاد الغال عبر نهر الدانوب. والتمرد الذي حدث في الشرق بقيادة افيديوس كاسيوس، وقد عانت الإمبراطورية الرومانية، خلال معظم فترة حكم أوريليوس، الأوبئة وحركات التمرد والكثير من الحروب على امتداد جبهتها الأمامية. واتجه أوريليوس إلى فلسفة الرواقية من أجل راحته الشخصية، وآمن بأن العالم تحكمه قوة كونية خيِّرة، كما آمن بتناسق القوانين الطبيعية والمعنوية المتمثلة في الروح السماوية الموجودة في كل شيء، وكان يعتقد أن الروح لا تحيا بعد الممات، ولكن بدلاً من ذلك فإن الكون يعيد استيعابها، وكان يرى في إعادة الاستيعاب سبباً لتقبل الموت بهدوء. وبمجرد أن تنتهي حروب الشرق حتى تتحالف قبائل جرمانية قوية، شمال الدانوب، لتهاجم الحدود الشمالية للإمبراطورية وتهدد إيطاليا واليونان، فيزحف إليها أوريليوس وأخوه، على رأس فرق رومانية لتأمين جبهة الدانوب. وفي روما ذاتها كان الطاعون، الذي انتقل من الشرق مع الجيوش يفتك بالناس، وأتلفت الفيضانات كميات هائلة من الحبوب، ما تسبب في مجاعة مهلكة، واضطر اوريليوس إلى بيع المجوهرات الملكية ليواجه المجاعة، ويدبر الاحتياجات الملحة، وفي العام 169 يموت أخوه فجأة لينفرد بإدارة الإمبراطورية، ويتمكن من تحقيق الاستقرار، وقهر الأعداء بفضل حنكته العسكرية وحكمته في اختيار قادة جيوشه. وأمام الكوارث التي واجهته، عرف أوريليوس قيمة التأمل في الوجود، وأن الإنسان لكي يقدر على مواجهة الشرور كافة عليه أن يدرك الحكمة الخافية وراءها، وعليه أن يدرك الخير الكامن خلفها، فحتماً كل ما يتم يكشف لنا جانباً خافياً عن طبيعة"العقل الكوني". يقول:"إن كل ما يتم ويقع إنما هو نتيجة ضرورية لتصرف ذلك العقل الكوني، فلا بد من أن يكون حسناً وعادلاً، ولا بد من أن نتقبله بالصبر، لا بل بالرضى والحب". ونتيجة لهذه النظرة إلى النظام الكوني الكلي، مُنح أوريليوس السكينة والطمأنينة، ليستطيع تحرير نفسه من الخوف الذي يعتريه أمام تقلبات الدنيا وتصاريف القدر، وهو يقر بضعفه عن إدراك أسباب شرور الكون، وهو يستلهم الضوء المنبعث من النفس، ليتغلب على شرور العالم، يقول:"يا نفس، هلاّ تبقين دائماً طيبة صالحة مستقيمة، ملتمة بعضك على بعض، مجردة، تظهرين بجلاء من وراء الجسد غلافك؟ أتكونين حقاً مغتبطة دائماً، لا تتحسرين على شيء ولا ترغبين بشيء، مطمئنة إلى ما أنت عليه الآن، متيقنة من أن كل ما يحدث لك هو الخير، وهو البلاغ المبين الذي يصلك من الله؟". ويعتقد أوريليوس أن الإنسان لو استطاع أن يفهم الكون على حقيقته لتوصل إلى حقيقة بسيطة وواضحة، ربما يدركها الفلاح في الحقول، أو الراعي في سفوح الجبال، لكن لا يدركها هؤلاء الذين يتمنطقون بمنطق العلم، يقول:"إن الأشياء جميعها متشابكة بعضها ببعض، والرابطة التي بينها رابطة مقدسة، وفي الأشياء العاقلة كلها عقل مشترك، وقانون واحد، وحقيقة واحدة، وهل يمكن أن يكون فيك أنت نظام واضح، وفي الكون كله اضطراب واختلال؟". كما أنه ينصت لهمس الروح حين تجد صعوبة في تقبل الشر والألم والشقاء الذي يبدو أن الإنسان لا يستحقه، وبين وجود قوة مدبرة خيّرة، ولكنه يعقب على هذا بقوله إننا لا نستطيع أن نحكم على موضع عنصر أو حادثة في نظام الأشياء إلا إذا رأينا هذه الأشياء كلها، ومن الذي يدّعي أنه أوتي القدرة على أن ينظر إلى الأشياء هذه النظرة الجامعة ويدرك علاقتها ببعضها بعضاً؟ ولهذا كان من السخف والوقاحة أن نحكم على العالم"وإنما تكون الحكمة في الاعتراف بعجزنا وفي العمل على أن نكون أجزاء متناسقة مع النظام العام للكون، وأن نحاول أن نستشف ما وراء جسم العالم من عقل، وأن نتعاون معه راضين مختارين. ومتى أدرك الإنسان هذه الفكرة أدرك أن"العدل في كل ما يحدث"أي أنه يحدث وفقاً لمنهج الطبيعة. المدهش أن ماركوس أورليوس في الوقت الذي أنصت لهسيس الأشياء والطبيعة والروح الكامنة فيها، وفي الوقت ذاته الذي يعلي من شأن كل ما هو روحاني، نجده يحتقر الجسد ومتطلباته، والعقل في رأيه يجب أن يكون حصناً محرراً من الشهوات الجسمية، والغضب، والحقد"ويجب أن يكون منهمكاً في عمله انهماكاً لا يكاد يلاحظ معه تقلبات الحظوظ أو سهام العداوات:"ألا فانظروا إلى حقارة الأشياء وسرعة فنائها"إن ما كان بالأمس قطعة صغيرة، سيصبح غداً جثة أو رماداً. وما أكثر شقاء الجسم الذي يجتازها به. قلبها ظهراً لبطن، ترى أية حياة هي؟ إن قيمة كل إنسان تعدل بالضبط قيمة ما يشغل به نفسه من الأشياء، وفي الحقيقة ليست اللذة طيبة أو نافعة". إنه يطالب الإنسان الذي يريده عقلاً محضاً وروحاً خالصة أن يسمو فوق كل شرور العالم ولا يدنس العالم بشروره:"هل الشر الذي أصابك يمنعك أن تكون عادلاً، كريماً، معتدلاً، حصيف الرأي متواضعاً، حراً؟ ولنفرض أن الناس قد لعنوك، أو قتلوك، أو مزقوك إرباً، فماذا تستطيع هذه الأشياء أن تفعل لتمنع عقلك أن يبقى طاهراً، حكيماً، متزناً، عادلاً؟ وإذا وقف الإنسان بجوار نبع رائق صاف ولعنه، فإن النبع لا يقف عن إرسال الماء النظيف، وإذا رمى فيه الأقذار، فسرعان ما يلقي بها إلى خارجها ولا يتدنس بها مرةً أخرى". كانت كتابات ماركوس أوريليوس بين أرفع ما أنتجه العقل القديم في الفكر الأخلاقي، ولم تكن تختلف اختلافاً يذكر عن أخص تعاليم المسيح. هكذا عبر الفيلسوف جون ستيوارت مل عن إعجابه بتأملات ماركوس أوريليوس، وهو الإعجاب الذي قاد الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون لأن يقول:"تأملات ماركوس أوريليوس هي أعز قراءاتي إلى نفسي".