يقول التعريف الأول ان حسين البرغوثي شاعر، وأنه أصدر دواوين عدة، اضافة الى كتابات نقدية وكتابين في السيرة الذاتية، كان أحدهما هو "الضوء الأزرق" الذي بين أيدينا بمبادرة من المشروع الثقافي "كتاب في جريدة". وقد ظننت للوهلة الأولى أنني سأقرأ نصاً من تلك النصوص التي ترتدي أقنعة الوقار والحكمة المهدورة في زمن لا يستحقها، ولكنني فوجئت بنص آخر تماماً!! نص لا يدعي امتلاك يقين ما... ولا يدعي الوصول الى آفاق المعرفة القصوى... وأهم من هذا وذاك، نص لا يقع في دائرة الذكريات، وسرد المراحل المتعاقبة بنظام صارم. واذا كان حسين البرغوثي مات شاباً بمرض السرطان، فإنه كان قبل موته حكم على نفسه بالموت كما سنرى في سيرته... أول ما يلفت الانتباه الى هذا النص هو عنوانه "الضوء الأزرق". وقد تساءلت عن سره، وأزعم أن الاجابة تكمن في النص ذاته... بمعنى أن العنوان لم يكن مجرد اسم لنص ما، بمقدار ما هو استجابة حقيقية لرؤية الكاتب الى الحياة والانسان واللغة. فإذا كان حسين البرغوثي يسكن في طفولته في بناية زرقاء، وإذا كانت زرقة البحر الأبيض المتوسط التي شاهدها من الطائرة وهو يغادر بيروت طفلاً ظلت عالقة في أعماق روحه، فإنه في سياتل بالولايات المتحدة الأميركية يتعرف الى حانة القمر الأزرق، وإذا أضفنا زرقة الدانوب التي عرفها طالباً في بودابست، وجبال فلسطين، فإن من الطبيعي أن يحرك هذا اللون فيه شيئاً ما... أسئلة عن سر الأزرق، وهو الذي يتفحص الكلمات ويبحث فيها وفي معانيها ودلالاتها وارتباطاتها بالعقل والتاريخ والنفس وما الى ذلك... يقول الكاتب: قيل الأزرق مضاد للهياج الجنسي - كنت ثوراً جنسياً -. وقيل: مهدئ للأعصاب - كنت على حافة الجنون. ويقول ان الطائفة النقشبندية الصوفية تعتقد أن في الانسان عدة أنفس، ولكل نفس هالة أو ضوء خاص بها، والأزرق لون النفس الأمارة بالسوء... لكنهم في بوذية التيبت يعتقدون أن الأزرق لون أول كائن فاض عن طبيعتنا الأولى التي لا لون ولا هيئة لها... ثم يعقب الكاتب قائلاً: الأزرق لون طاقة الخلق فينا!! ومع تدفق هذا الفيض السيري، نكتشف أن حسين البرغوثي لا يمتلك نفساً أمارة بالسوء فحسب، بل هو يذهب الى أقصى حدود الفصام الذي يدرك منه شيئاً ويجهل غيره، ولكنه في سرده يمر بالمحطات التي كان يتلقى فيها وقود الفصام، وما لا نعرف من اشتباكاته الداخلية الأخرى مع ذاته ومع الناس والكون والغيب والأشياء... فهو منذ الطفولة يسمع الآخرين يلقبونه "بالأهبل"، واذا كان في البداية نفر من اللقب الذي حط من شأنه، فإنه لا يستطيع في المقابل أن يعزل نفسه عنه... أي أنه صار عليه أن يتقبل اللقب لكي يجد طريقة ملائمة للتعامل معه... كان اللقب حقيقة طالما التصق به، وهو لا يستطيع أن يتجاهله فقط لأن مشاعره ترفضه، وهكذا يتقبله الى حد الاقرار بصحته، ولكنه القبول الذي يرتب على صاحبه تبعات والتزامات قاسية لمواجهته... وكان أول ما فعله الطفل هو أن قام باعتزال الآخرين واللجوء الى البرية... كان ذلك أول طقس من طقوس الحماية ضد الغزاة!! ولسوف يتطور هذا الطقس لاحقاً مع نهاية المرحلة الثانوية عندما يحصل الطالب حسين على جائزة تقديراً لقصيدة شعرية... وهنا يحدث انقلاب حقيقي... فقد تحول الأهبل الى عبقري! ولأنه الآن يدرك سر التسمية الأول المنسوب الى وادي عبقر، فهو يدرك أنه المزيج بين الناس والجن... بين الكائن وظلاله... بين النفس وتجلياتها… ولسوف يتطور الأمر أكثر في ما بعد، ويأخذ بعداً معرفياً واضحاً، عندما يكتشف أن الحصانة الحقيقية ضد الآخرين وضد الجنون والفصام والانتحار وكل أشكال الاستهداف الانساني تكمن في اللغة!! واللغة عنده ليست مجرد ألفاظ وحروف وكلمات... اللغة هنا يمكن أن تكون نسقاً في التفكير والتعبير والسلوك... فحين يموت أبوه العصبي القاسي يرفض أن يقبله كما فعل الآخرون، ذلك أن القبلة في هذه الحال تخدش مفهومها الذي يستقر في أعماقه... أي أن رفضه للقبلة ليس عقاباً للأب، بمقدار ما هو تحصين للذات!! وتظل رحلة الكاتب مع ذاته مرتبكة الى أن يذهب الى جامعة واشنطن... هناك يلتقي ذلك الصوفي التركي "بري" الذي يصبح معلمه الرئيس... هنا تأخذ السيرة شكلاً فنياً آخر، أقرب ما يكون الى الرواية والتأمل. فالصوفي التركي ليس شخصية حقيقية بالمعنى الفني أو السيري، حتى لو كان شخصاً حقيقياً بالمعنى الموضوعي!! بري شخصية فنية روائية في المقام الأول حتى لو قام الكاتب بنسخها حرفياً، ولا أظنه فعل ذلك!! وسوف نكتشف، أن هذا الصوفي كان يشكل في المقام الأول كفة الميزان الثانية في مسيرة الكاتب... عامل التوازن الموقت لشخصية هشة وشفافة متداعية آيلة للسقوط... كان حسين يركض خلف نداء داخلي غامض، وقد تعين هذا النداء لاحقاً في شخصية بري، حيث يتوهم حسين أنه سيجد عنده الاجابات والحلول للأسئلة والألغاز التي ظلت تستعصي عليه طوال حياته، ومما ساهم في اذكاء شعلة هذا الوهم هو السلوك الملتبس للصوفي، وأفكاره ومفاهيمه وهذياناته التي هي في الأصل أصداء لأعماق الكاتب التي تلوب بحثاً عن معنى ما للحياة والخير والموت... ولكي تكتمل الصورة أكثر، فإنه لا بد من الاشارة الى أن دائرة معارف المؤلف كلها تشكل أبعاداً متنوعة لشخصيته هو، من زوجته ماري الى دون جامع العلب والخردوات الى كاتبة القصة القصيرة وجوني الفنان وغيرهم، وهؤلاء تجمعهم غالباً حانة القمر الأزرق... والمؤلف يدرك أن للقمر ربة في الأساطير تدعى أنانا، وأن رحلتها الى العالم السفلي تختلف عن رحلتها في الخارج... كان عليها في العالم السفلي أن تخضع لقوانينه وطقوسه التي تحتم عليها أن تخلع عند كل بوابة من بوابات ذلك العالم جزءاً مما عليها... أي أن تتخلى عن ربوبيتها لتحقيق أهدافها المتمثلة في الحصول على الابن المفقود أو الحبيس... أكان حسين يشير بذلك الى أن المعرفة البشرية تتطلب التخلي عن وهم الكمال الذي يكبل الناس، ويحيلهم الى مجرد كتل صماء مقذوفة في الفضاء الكوني؟ ألهذا كان مضطراً لمعاشرة هؤلاء الشواذ والفصاميين والمتشردين؟ لقد عاش حسين بين البشر العاديين من قبل، واكتشف أنه لا ينتمي تماماً اليهم... كان دائماً ثمة اقصاء يتعرض اليه بطريقة أو بأخرى... فحين يسأل أبوه ذات يوم شيخاً ضريراً في القرية عن رأيه في ابنه يجيبه الشيخ بثقة: ابنك سطل... وهو لقب يذكره بالأهبل، ولكن الأب يأخذ رأي الشيخ كحقيقة غير قابلة للنقض. وحتى في هذه الحال، فان الأب لا يفكر في حماية الابن أو تحصينه، بل يقوم بمعاقبته، حيث يرسله ليلاً لكي يسقي البغلة من نبع بعيد!! في كل أشكال تواصله مع الآخرين من قبل كان حسين يشعر دائماً أن هنالك مسافة شعورية بينه وبينهم، ذلك أن الآخرين كانوا يمثلون الوجه البارز للحياة... الوجه المألوف والمتوارث... بينما كان هو يشعر أن هنالك ما هو خفي وغامض وعصي على الفهم والادراك، وعليه بدا يدرك أنه يعيش على الحد الفاصل بين العادي والغرائبي.. بين الواقع كما هو وبين احتمالاته اللامتناهية... وهنا يأتي دور الصوفي التركي بري!! بري ليس شخصاً عادياً على الاطلاق... أعني أنه ليس من أولئك الناس الذين نلتقيهم بكثافة عالية في الأماكن والشوارع المألوفة... وحسين الذي كان يشعر أن في أعماقه ميلاً جارفاً وتوقاً مذهلاً للتوازن، يكتشف في بري كثيراً من الاجابات التي تتحول في اللحظة ذاتها الى ألغاز أخرى... بمعنى أنه يقع فريسة لوهم من نوع آخر يتمثل في مرآوية اللغة والتعبير والمفاهيم... فالذهن شيء غير محتواه... الذهن وعاء يمكن أن نتخلص مما فيه... أن نجدد محتوياته... والقلب هو الأهم!! أي أن المعرفة يمكن أن تبلى أو تتجدد، ولكن القلب لا ينبغي له أن يجف... هكذا يمكن القول ان الحياة ليست مجرد معرفة على رغم ضرورتها، وان وظيفة المعرفة تنحصر في الفهم، أما القلب فهو الذي به تعاش الحياة... وعليه فإن كنوز المعرفة كلها لا تنقذ قلباً جافاً... ثمة في أعماق حسين اذاً ما يشير الى خوف استراتيجي اذا جاز التعبير، ولذا نراه يخاف الأماكن المغلقة والمعتمة، الأمكنة التي تمتلك طاقة سحرية على مسخ الكائنات أو خطفها. كان ثمة على الدوام هواجس عدة، وكان يظن أن الحلول الصوفية قادرة على حمايته فارتبط ببري! ولكن هذا الارتباط لم يأته بما يبحث عنه، فقد ازدادت كآبته، والكآبة طريق معبدة الى الجنون الذي يخشاه، فيتذكر غوغول الذي كان في حالات مشابهة يؤلف قصصاً مضحكة لأجل ذاته... لينقذها من الكآبة، فيقوم بالفعل نفسه ويكتب بعض القصص القصيرة، وينشر في سيرته قصة بعنوان "الحجر"، ولكن المفارقة هي أن عنصر الفكاهة في القصة مستمد من رؤية حسين للصورة النمطية للناس والحياة، أي أنه في قصته يؤكد تلك المسافة التي ما زالت تفصله عن الواقع النمطي الذي هو تحديداً السبب الرئيس لمعاناته!! وأخيراً يقرر حسين أن يتمرد على أستاذه الصوفي، وهو قرار حتمي ومتوقع وصائب بالضرورة على رغم مسحة الندم التي يبديها في ما بعد!! تنتهي رحلة حسين البرغوثي في بحثه عن التوازن الى الفشل، بعد محاورات وأسئلة وتأملات عدة في الكون والخلق والعقل والجنون والخير والشر والصواب والخطأ، وهي تنتهي هكذا لأنه كان معنياً بالفهم أكثر من حياته ذاتها، الأمر الذي دعا بري مرات عدة الى اتهامه بجفاف قلبه. والسؤال الأخير: هل هذا حقاً نص ينتمي الى السيرة الذاتية؟ حسين البرغوثي في هذا النص يخوض مغامرة مدهشة، وأحسب أن الكتابة الحقيقية كذلك، أي الكتابة التي تنكتب لتعرف لا لتقول أو تدعي امتلاك الحكمة والمعرفة.