يندر ان نقع على سياسي صاحب خطاب أدبي متين. لكن الرئيس التشيكي هافل جاء الى السياسة من عالم الأدب. وهو إذ يغادر الرئاسة في شباط فبراير المقبل، يعود الى عالم الأدب من جديد. لا يكتب هافل المسرحي اعترافات امبراطور روماني قديم. هافل ليس ماركوس اوريليوس. وليس ونستون تشرشل حامل نوبل الآداب 1953. لكن المحاضرة التي ألقاها في جامعة مدينة نيويورك اخيراً والمنشورة هنا تستمد تأثيرها من الظرف الزمني الراهن ومن طبيعتها التأملية. ما زالت حيّة في ذاكرتي تلك الحفلة الموسيقية قبل 13 سنة - في شباط فبراير 1990 - عندما رحّبت بي نيويورك كالرئيس المنتخب لتوه لتشيكوسلوفاكيا. لم يكن ذلك بالطبع لمجرد تكريمي شخصياً. بل ليتم من خلالي تكريم كل مواطنيّ الذين استطاعوا من خلال النضال السلمي اسقاط نظام شرير حكم بلدنا. وكانت أيضاً لتكريم الذين قاوموا النظام، قبلي ومعي، بالسبل السلمية. وقد اعتبر كثرٌ من عشّاق الحرية في أنحاء العالم أن انتصار الثورة المخملية في تشيكوسلوفاكيا هو بشير بعالم أكثر انسانية، عالم يكون فيه للشعراء صوت له القوة نفسها التي لصوت أصحاب البنوك. لقاؤنا اليوم، الذي لا يقل دفئاً وروعة عن اجتماعنا السابق، يقودني في شكل طبيعي الى السؤال عمّا اذا كنت تغيرت خلال السنين ال13 الماضية، وما صنعته بي تلك الرحلة الغامضة في طولها كرئيس، وطبيعة التحولات التي احدثتها فيّ التجارب التي لا تحصى التي عشتها في هذه المرحلة العاصفة؟ وقد اكتشفت شيئاً مذهلاً: اذا كان المتوقع لهذه التجربة الغنية أن توفر لي قدراً أكبر من الثقة بالذات والطمأنينة والصقل فان ما حصل كان العكس تماماً. فقد صرت خلال هذه المرحلة أقل ثقة وأكثر تواضعاً. انكم قد لا تصدقوني حين أقول انني أعاني كل يوم قدراً أحدّ من رهاب الوقوف على خشبة ذلك المسرح، والمزيد كل يوم من خشية عدم أهليتي لعملي، أو أنني سأقوم به في شكل سيئ. كما أجد صعوبة متزايدة في كتابة الخطب، وعندما اكتبها يساورني القلق من انني ربما أكرر الكلام نفسه مرة بعد مرة بعد مرة. كما أخشى بشكل متزايد أنني سأكون من دون التوقعات، وأفضح افتقاري الى مؤهلات المنصب، وانني على رغم حسن نيتي سأرتكب اخطاء أكبر فأكبر، ولا اعود أهلاً للثقة ولذا أفقد الحق في ممارسة عملي. واذا كان رؤساء آخرون أحدث عهداً منّي بالمنصب يبتهجون بمقابلة نظرائهم أو الشخصيات المهمة في كل فرصة ممكنة، أو البروز على شاشة التلفزيون أو القاء الخطب، فان كل هذا يزيدني خوفاً. واتعمد أحياناً تحاشي ما يجب ان ارحب به كفرصة ثمينة، نتيجة خوف يكاد ان يكون عصابياً من أنني في شكل أو آخر سأضيع الفرصة وربما أصيب بالضرر قضية اعتبرها عادلة. باختصار، أشعر أنني أبدو مشبوهاً، حتى من منظوري أنا لنفسي. وكلما تكاثر اعدائي كلما وجدتني اتفق معهم في سري، وهكذا أصبحت عدواً لذاتي. كيف يمكنني تفسير هذا التحول الأبعد ما يمكن عن التوقع في شخصيتي؟ ربما سأفكر بذلك في شكل أعمق عندما ينتهي عملي كرئيس، وهو ما سيحصل أوائل شباط فبراير المقبل، ويتاح لي الانسحاب مدة من الزمن والابتعاد عن السياسة والبدء - كانسان استعاد حريته الكاملة - بكتابة أشياء غير الخطب السياسية. أما الآن فيمكن أن أشير الى واحد من التفسيرات الكثيرة الممكنة لوضعي: وهو انني مع تقدمي في السن ونضجي واكتساب المزيد من الخبرة والتعقل، توصلت بالتدريج الى ادراك كامل بمدى المسؤوليات العجيبة التنوع التي اخذتها على عاتقي نتيجة قبولي بعملي. اضافة الى ذلك فان الوقت يقترب بسرعة عندما لن يكون السؤال الذي يطرحه المحيطون بي - والأسوأ من ذلك، الذي يطرحه ضميري - عن مُثلي وأهدافي، وما الذي اريد تحقيقه وكيف أريد للعالم ان يتغير، بل ما الذي انجزته فعلاً، وأياً من غاياتي قد حققت، وبأي نتاتج، وماذا اريد لتركتي أن تكون، وماذا أريد للعالم الذي سأترك. وهنا أشعر أن القلق الروحي والفكري نفسه الذي دفعني في الماضي الى الوقوف في وجه النظام الشمولي والى دخول السجن نتيجة ذلك، يقودني الآن الى شكوك عميقة بقيمة عملي، أو عمل من ساندتهم، أو الذين مكّنتهم من التأثير. في الماضي أثناء تسلم الشهادات الفخرية والاستماع الى خطب المديح المرافقة لتلك المناسبات، كنت أحياناً كثيرة ابتسم في سري عندما يعطيني ذلك الاطراء مظهر بطل لقصة خرافية، عن صبي له قضية عادلة ينطح سور قلعة لملك شرير الى ان يسقط السور ويصبح الصبي ملكاً ويدير شؤون المملكة بالعدل والحكمة سنين طويلة. لا أريد بهذا السخرية بتلك المناسبات، وأقدّر بعمق كل شهادات الدكتوراه التي تسلمت وشعرت دوماً بعميق التأثر عند منحي اياها. مع ذلك فانني أذكر ذلك الوجه الهزلي لها لأنني بدأت الآن أفهم ان كل شيء كان بمثابة فخ شيطاني نصبته لي الأقدار. لأنني فعلاً اُقحمت بين ليلة وضحاها في عالم القصص الخرافية، وكان علي في السنين التالية ان أعود تدريجاً الى أرض الواقع لكي أفهم أن هذه القصص ليست سوى أوهام وأن العالم بالتأكيد ليس كذلك. هكذا، وعلى رغم أنني لم احاول أبداً أن اكون ملكاً في قصة من هذا النوع، بل أن صدفة تاريخية أجبرتني على لعب هذا الدور، لم أجد ما يحصنني من ذلك السقوط الى الأرض - أي من عالم الحماسة الثوري الرائع الى عالم الروتين البيروقراطي العادي. أرجو أن لا تفهموا من هذا انني خسرت معركتي، أو أن كل ما جرى كان عبثاً. كلا، بالعكس: ان عالمنا، والانسانية، وحضارتنا ربما تكون الآن على أهم مفترق للطرق في التاريخ. ولدينا فرصة لا سابق لها أكبر بكثير من كل مثيلاتها في الماضي لفهم وضعنا وازداوجية وجهتنا، وأن نتخذ خيار العقل والسلام والعدالة وليس الطريق الآخر المؤدي الى دمارنا. لا أقول سوى أن اتخاذ طريق العقل والسلام والعدالة يعني الكثير من الجهد وانكار الذات والصبر والمعرفة والنظرة الشمولية الهادئة، والاستعداد مع كل ذلك للمخاطرة بسوء الفهم. انه يعني في الوقت نفسه أن على الكل ان يستطيع تقييم قدرته والعمل بناء على ذلك، متوقعاً إما تنامي ارادته مترافقاً مع المهام الجديدة التي يرسمها لنفسه، أو استنفاد تلك الارادة. بكلمة اخرى، لا يمكن بعد اليوم الاعتماد على القصص الخرافية وأبطالها. ولا يمكن الاعتماد على الصدفة التاريخية التي ترفع الشعراء الى العلياء بعد اطاحة الامبراطوريات والتحالفات العسكرية. ان علينا الاستماع بعناية الى تحذيرات الشعراء وأخذها ببالغ الجد، ربما أكثر من أصوات أصحاب البنوك والمضاربين بالاسهم. لكن لا يمكننا ان نتوقع في الوقت نفسه أن العالم في يد الشعراء سيتحول فجأة الى قصيدة. عدا كل هذا هناك شيء واحد اعرفه بالتأكيد، وهو انني بغض النظر عن نوعية ادائي للدور الذي اعطي لي، وبغض النظر عمّا اذا كنت أردت أو استحقيت ذلك الدور أصلاً، وبغض النظر عن قلة رضائي عن جهودي، فانني ادرك ان تسلم منصب الرئاسة كان هبة رائعة من القدر. فقد أتاح لي فرصة المساهمة في احداث تاريخية عظيمة غيرت العالم. وان هذا، كتجربة حياتية وفرصة ابداعية، كان هبة تهون أمامها كل الفخاخ التي انطوت عليها تلك الفرصة. والآن، اذا سمحتم، سأختم بالنظر الى ذاتي من بعض البعد ومحاولة أن أصيغ ثلاثاً من قناعاتي، أو ملحوظاتي، القديمة التي رسّخها الوقت الذي قضيته في حيز السياسة العليا: 1 - اذا كان للانسانية ان تستمر وتتجنب الكوارث، على النظام العالمي أن يترافق مع احترام مخلص متبادل بين مختلف المجالات الحضارية والثقافية والقومية، وأن يبذل كل من هذه جهده للسعي والتوصل الى القيم أو الأسس الأخلاقية المشتركة وأن يجعلها أساساً للتعايش في عالم اليوم الوثيق الترابط. 2 - لا بد من مواجهة الشر في مهده، واستعمال القوة ضده اذا لم يكن هناك سبيل آخر. واذا كان لا بد من استعمال الأسلحة الحديثة البالغة التقدم والكلفة فليكن ذلك في شكل لا يلحق الأذى بالسكان المدنيين. واذا لم يمكن ذلك فقد راحت هباء تلك الملايين التي انفقت على تلك الأسلحة. 3 - اذا تفحصنا كل مشاكل عالمنا اليوم، الاقتصادي منها أو الأجتماعي أو البيئي أو المشاكل الحضارية العامة، سنجد أنفسنا دوماً - شئنا أم أبينا - أمام مشكلة القرار اذا ما كانت خطواتنا تجاهها سليمة أم لا، أي اذا كانت تتصف بالمسؤولية تجاه العالم ككل على المدى البعيد. ان النظام الأخلاقي وجذوره، وحقوق الانسان ومنابع حق الانسان في تلك الحقوق، والمسؤولية الانسانية ومصادرها، والضمير الانساني ونظرته العميقة التي لا يمكن اخفاء الأشياء عنها بمعسول الكلام - كل هذه، بحسب اعمق اعتقادي وكما وجدت في كل تجاربي، هي المواضيع السياسية الأهم في زمننا. أصدقائي الأعزاء، عندما أنظر حولي وأرى الكثير من الشخصيات الشهيرة التي تبدو وكأنها نزلت من مكان ما بين نجوم السماء، لا أملك الا أن أشعر بأنني، في نهاية انحداري الطويل من عالم الخرافة الى الأرض الصلبة، أجد نفسي مرة اخرى داخل قصة خرافية. لكن ربما مع فارق واحد، هو انني استطيع الآن تفهم هذا الشعور أكثر مما كنت أفعل في ظروف مشابهة قبل 13 سنة.