شتان بين فرحة القطريين وترقب المقيمين لكشوفات حساباتهم في نهاية أيلول سبتمبر الماضي، فبقدر ما كانت أفئدة مواطني البلد تتلهف شوقاً لرؤية رواتبهم الجديدة التي أغدقت بزيادات"تاريخية"لم يحلموا بها، فإن الفرحة تلك، أسالت عرقاً بارداً، وأشاعت شعوراً بالحزن لدى فئة من الوافدين، ليس حسداً - وإن تمنّوا أن تشملهم الزيادات - بقدر ما أثارت في نفوسهم مخاوف من تداعياتها على غلاء المعيشة، ما يعني بالنسبة لوافدين كثر"انتحاراً"اجتماعياً، كيف لا، وقد اضطر بعضهم ل"تسفير"عائلته والاستقرار عازباً، بعد أن باتت الأسعار ناراً على نار. جشع التجار حديث الرواتب الجديدة لا يكف يشغل النقاشات بين القطريين والمقيمين على السواء. وتبدو المنتديات الإلكترونية، لا سيما شبكة الأسهم القطرية، متنفساً لأبناء البلد خصوصاً، للحديث عن الزيادات الجديدة التي أقرها ولي العهد الشيخ تميم بن حمد آل خليفة، بنسبة 60 في المئة للقطريين في القطاع الحكومي، وبلغت 120 في المئة لبعض العسكريين. وبقدر ما أشاعت تلك الزيادات فرحة عارمة لدى القطريين، وانبرى كتاب محليون للثناء عليها في أعمدة الصحف، استبق كثر الحديث عن هواجس ومخاوف، وتحذيرات من"جشع التجار"، متوجسين من زيادات في الأسعار تفقد الرواتب الجديدة نكهتها. وسريعاً، كانت الاستجابة، وعلى لسان ولي العهد شخصياً، إذ أمر بتشديد الرقابة على أسعار السلع والخدمات، وانبرى وزراء ونواب في المجلس البلدي وصحافيون، ومعهم مصالح"حماية المستهلك"في توعية المواطنين بضرورة التبليغ عن تلك الزيادات، حال ضبطها. هكذا، بات القطريون يتلقون أحد أعلى الرواتب بين نظرائهم في العالم، وليس ثمة مبالغة، فالتصريحات الرسمية تتباهى بالقول إن قطر تحصي أعلى دخل للفرد في العالم، حتى قبل إقرار الزيادات الجديدة التي جعلت رواتب كثيرين تفوق ما يتلقاه بعض مسؤوليهم الأجانب، لا سيما في شركات النفط والغاز، والمؤسسات الحكومية الأخرى، بينما اعتبر بعضهم أن الزيادات الجديدة"عدّلت خللاً سابقاً"، إذ تعرّض القطريون لتقليص في رواتبهم قبل نحو سنتين، بموجب قانون الموارد البشرية، لكن الزيادات الجديدة، فاجأت الجميع، إلى حد وصفتها صحف محلية بأنها"زيادات تاريخية، في مقابل أزمات تضرب كبرى الاقتصاديات العالمية". وعلى رغم أن ضخّ الزيادات الجديدة في الرواتب تأخر شهراً واحداً نهاية تشرين الأول/ أكتوبر الجاري في بعض القطاعات لغاية إتمام الإجراءات الإدارية، فإن ذلك لم يمنع القطريين من التفكير باكراً في مصير تلك الزيادات، وكيفية استثمارها على الوجه الأحسن. لكن المفارقة أن الزيادات الجديدة لم تفجّر بالضرورة طموحات إضافية للتوسّع في الاستهلاك، أو شراء بيت جديد، أو برمجة رحلات خارجية، كما قد يذهب إليه كثيرون في بلدان عربية أخرى، ذلك أن فئات عريضة من القطريين، ليس السكن أو السيارة أو السفر، أكثر ما يشغلها، فقد تعودت أن توفر سكناً لائقاً وسيارة من آخر طراز، ولا تحرم نفسها من متعة السفر، ولو اقتضى ذلك الاستدانة والاقتراض من المصارف. ويكفي الاستشهاد بتقرير لمجلة"بيزنس كوم العربية"، أشار إلى أن إجمالي القروض الشخصية في قطر بلغ نحو 56.7 بليون ريال خلال 2010، بزيادة مقدارها 3.5 بليون عن 2009، بينما لم تكن تتجاوز حاجز ال25 بليوناً خلال 2005. وأدى ارتفاع نسبة القروض إلى تفاقم الديون الشخصية، إلى حد جعل مواطنين يطالبون عبر المنتديات بحذفها. في حين يشير تقرير آخر صادر عن مصرف قطر المركزي عام 2005 حول نسبة القروض الاستهلاكية الشخصية، إلى أن حجم تلك القروض بلغ 26.5 بليون ريال في الربع الأول من 2005، في مقابل 13 بليوناً عام 2004. وأوضح التقرير أن القروض الشخصية ارتفعت من 13.1 بليون ريال في أيلول 2004 إلى 15 بليوناً في كانون الثاني يناير 2005، وحصل المواطنون والمقيمون على 13 بليوناً قروضاً من المصارف خلال عام ونصف العام، وكانت 70 في المئة من الديون لتمويل البورصة والنفقات الترفيهية. وإزاء تلك الأرقام، بات تسديد القروض أكبر هاجس يؤرق القطريين، وأولوية الأوليات في نظر كثيرين منهم، تقتضي أولاً التفكير في فكّ"حبل الديون التي تلف رقابهم"لفترات تصل إلى 30 عاماً، حتى أن الزواج مثلاً، لا يمكن أن يتمّ من دون اقتراض من المصارف، وصولاً إلى أبسط المشاريع اليومية، وأضحى تفكير"ضحايا البنوك"و"الغارمين"ينصب أولاً في تسديد أقساط متقدمة من الديون. في حين لا يرى بعضهم جدوى في ذلك، ما دامت الفوائد لن تقلّ، ويفضلون بدلاً منها دفع أقساط لامتلاك بيوت في مناطق راقية، أو تحقيق مشروع تجاري. وعلى رغم أن القروض قد"تجرح"فرحة القطريين بالزيادات الجديدة، لكنها لن"تفسدها"تماماً، لأنها في كل الحالات تجعلهم أفضل حالاً من أقرانهم الخليجيين، ما جعل بعضهم يدعو للحيطة و"التحصن"من العين! الأقساط الشهرية على الجانب الآخر، يبدو الوافدون مثل"الحلقة الضعيفة"في معادلة الرواتب الجديدة، ولسان حالهم يقول:"أفراح قوم عند قوم مصائب". وهم يخشون من تلك الزيادات على مستوى المعيشة، كيف لا، وقد بدأت القلاقل على كل لسان بسبب ارتفاع أسعار الإيجارات التي فاقت نظيراتها في البلدان المجاورة، ناهيك بتكاليف أخرى حولت حياة مقيمين"ضنكاً"، بسبب الالتزامات الشهرية، ما بين تسديد أقساط قرض السيارة، وقطعة الأرض التي اقتناها بعضهم في بلده، مروراً بأقساط المدارس، والتزامات لا تكاد تنتهي. ويعكس أبو يوسف صورة من معاناة كثيرين من المقيمين الذين يفضلون البقاء في الخليج، على رغم غلاء المعيشة، وقد اضطر لإعادة عائلته إلى بلده، وهو يذرف دموع الحسرة، قائلاً:"لم يكن أمامنا خيار آخر، فرواتبنا تعرضت لمذبحة حقيقية قبل فترة، ولم يعد في إمكاني تأمين مبلغ يفوق 30 ألف ريال لتدريس أبنائي الثلاثة... الآن على الأقل، يمكنني أن أوفر قليلاً، على أمل العثور على وظيفة أفضل مستقبلاً لأستعيد حياتي العائلية". ويجزم أبو نورة أن تحسين الراتب ليس غاية هجرته إلى الخليج:"صحيح أن الدخل لا يكفي، لكنني أفضّل البقاء في بلد آمن وهادئ، على العودة حالياً إلى وطني، ولو توافر لي راتب أفضل"، مضيفاً:"عزائي أن المؤسسة تسدد تكاليف الدراسة لأبنائي في أفضل المدارس، ولا يهمني بعدها أن أدخر مالاً، ما دمت أعيش في سكن لائق، وأمتلك سيارة أدفع أقساطها على مدى أربع أو خمس سنوات. وكما يقال: أنفق ما في الجيب، يأتك ما في الغيب". لكن أبو رائد الذي انتقل حديثاً إلى وظيفة براتب أفضل، يخالف أبو نورة الرأي:"بعد تسديد أقساط البيت، الأكيد أنني سأهتم أولاً بادخار ما أمكن، فالحياة مليئة بالمفاجآت، ومثلما تحسن راتبي اليوم، فقد أفقد وظيفتي غداً، ولا بدّ من الحيطة، وإلا فما معنى الهجرة والابتعاد عن الوطن، إن كنت لن تجني ربحاً إضافياً؟". في المقابل، فإن شريحة أخرى من المقيمين لا تبدو أقل حالاً من القطريين أنفسهم، خصوصاً العاملين في شركات النفط مثلاً، إذ تفوق رواتبهم 30 ألف ريال، ويصنفون في مرتبة"الأغنياء"في بلدانهم، ويحظون بامتيازات عالية، ولا يواجهون هاجس تسديد الضرائب في قطر".