لا جدل في أن الصين قد أحرزت في العقود القليلة الماضية معدلات مرتفعة من النمو الاقتصادي انتقل بها إلى المرتبة الثانية في العالم من حيث حجم الناتج المحلي، خلف الولاياتالمتحدة، متجاوزة بذلك جارها وغريمها التاريخي اليابان، وإن بقدر ضئيل. ولا جدل كذلك بأن عاملاً أساسياً في هذا النمو هو العلاقة المتشعبة التي نشأت بين الصينوالولاياتالمتحدة، والهجرة الفعلية لنسبة عالية من القطاع الصناعي الأميركي إلى الصين. وتأتي زيارة الرئيس الصيني هو جنتاو إلى العاصمة الأميركية واشنطن لتضع العلاقة بين الدولتين مجدداً في واجهة الاهتمام السياسي والإعلامي والثقافي في الولاياتالمتحدة. ثمة صورة مبالغة لتوّها لدى عموم الجمهور الأميركي حول النفوذ الصيني، فعلى رغم أن الاقتصاد الصيني لا يكاد يتجاوز ثلث الاقتصاد الأميركي، فإن استطلاعاً للرأي أشار إلى أن ما يصل إلى نصف الجمهور الأميركي يعتقد بأن الاقتصاد الصيني يفوق حجماً نظيره الأميركي. وأصل هذا الاعتقاد يعود إلى الشيوع الواسع النطاق للمنتجات الصينية، من أبسط الأدوات المنزلية إلى أكثر الأجهزة المتقدمة تعقيداً، في الولاياتالمتحدة. وعلى رغم التشكي المتكرر في بعض الأوساط بأن الاعتماد على المنتجات الصينية قد جاء على حساب الانتاج الصناعي الأميركي المحلي، فإنه فيما يتعدى بعض الشعبوية السياسية التي تستفيد من تكرار هذا التشكي، حقيقة انتقال التصنيع من الولاياتالمتحدة إلى الصين وغيرها بأقدار أقل أنه جاء نتيجة حسابات اقتصادية للشركات الأميركية والحكومات المتعاقبة في الولاياتالمتحدة على حد سواء، ولم يحدث لا في غفلة أميركية ولا من دون رغبة أميركية. فكلفة الانتاج في الصين أدنى بكثير منها في الولاياتالمتحدة نفسها، والعامل الأميركي أضحى يترفع عن تولي العديد من الوظائف المطلوبة لهذا الانتاج، مفضلاً الدخل المرتفع للوظائف التي تتطلب الخبرة والكفاءة والتدريب في قطاع الخدمات والصناعات المتطورة، والتي بقيت إلى حد كبير في الولاياتالمتحدة. كما أن القيود البيئية والاجتماعية والنقابية في الولاياتالمتحدة تشكل عبئاً آخر، وطأته أخف كثيراً في الصين. ثم إن خروج قدر كبير القطاع الصناعي من الولاياتالمتحدة لم يؤدّ إلى البطالة، بل إن معدلات البطالة حتى في خضم الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها البلاد اليوم يبقى منخفضاً بالمقارنة مع سائر الدول ذات الاقتصادات المتطورة. وما نشأ بين الولاياتالمتحدةوالصين هو علاقة تكامل، فالتصميم على الغالب يأتي من الولاياتالمتحدة، والتصنيع يتم في الصين، والاستهلاك في الولاياتالمتحدة وسائر الأسواق، والعائدات الصينية من هذه التجارة يعد توظيفها إلى درجة كبيرة في الأوراق المالية الأميركية. فمصلحة الصين هي في استمرار الازدهار الأميركي ليس فقط لضمان سوقها الأول، إنما كذلك للمحافظة على استثمارها. والتداخل في المصالح بين الدولتين قد بلغ حداً دفع البعض إلى الحديث عن اقتصاد واحد لدولتين، وإلى تكرار مقولة أن العلاقة هي علاقة ربح لكلا الجانبين. ولكن الاقتصاد ليس حصراً أساس العلاقة، وهنا مكمن نقاط الضعف فيها. فعلى رغم الاستفادة الأميركية الصريحة من العلاقة القائمة مع الصين، فإن التباعد بين القيم السياسية في واشنطنوبكين قد أسس لحالة مضطربة باطنها تعاون وتكامل اقتصاديان، فيما ظاهرها تحديات كلامية من هذا الطرف وذاك. فالخطاب السياسي في الولاياتالمتحدة يكاد أن يكون مجمعاً على إدانته للصين لممارساتها المتناقضة مع ما يعتبره إجماعاً عالمياً حول حقوق الإنسان، ولاعتمادها نظاماً قمعياً إزاء حرية التعبير والحريات الدينية، ولاستمرارها في إنكار حق تقرير المصير في التيبت، ولتضييقها المتواصل على تايوان، وذلك إضافة إلى انتقادات متفاوتة حول مواقف الصين الدولية، ابتداء من موضوع كوريا الشمالية، وصولاً إلى إيران، مروراً بجملة من الملفات الأفريقية. وفي المقابل، فإن الصين، في خطابها الرسمي، إنما كذلك في الخطاب الثقافي للتيار القومي الصاعد فيها، قد طوّرت بدورها سردية ناقدة للولايات المتحدة تصفها بالنفاق أولاً لجهة الحديث عن حقوق الإنسان مع الإمعان في الممارسات التي لا تأخذ هذه الحقوق في الاعتبار لغير الإنسان الأميركي إلا وفق مقتضى المصلحة الأميركية، وبالإفراط بالتدخل بشوون الآخرين قولاً وفعلاً خارج إطار الأعراف الدولية. وقد اكتسبت هذه السردية زخماً جديداً مع إدخال العنصر الاقتصادي إليها، من خلال الإشارات الصينية المتكررة إلى ضرورة إعادة النظر بالنظام الاقتصادي والنقدي العالمي لإدخال قدر أكبر من التوازن إليه، في تلميحات وتصريحات حول ضرورة تجاوز الدولار الأميركي كالمعيار العالمي. وإذا كان الطرفان يتصرفان انطلاقاً من تفاهم ضمني بأن هذه السرديات المتعارضة تستهدف أولاً الجمهور المحلي وتبقى في إطار المواقف الكلامية التي لا تفسد العلاقة الاقتصادية، فإن الخشية تبقى قائمة في كل من واشنطنوبكين بألا يدوم هذا التوافق لاعتبارات غير مضبوطة. فهل الشعبوية الأميركية، والتي تبقى إلى اليوم وسيلة تعبئة انتخابية، قد تفرض على المسؤولين عن القرار في الولاياتالمتحدة الانتقال من القول إلى الفعل، مما يقحم الولاياتالمتحدةوالصين في مناوشات اقتصادية؟ وهل، خلف مزاعم النمو والاستقرار في الصين، تتحقق تحذيرات بعض المتابعين الأميركيين للوضع القائم فيها، والذي يشير إلى اقترابها من الحد الأقصى في قدرتها على مواصلة دورها في المعادلة الحالية، وذلك إما نتيجة لعوامل اقتصادية مثل تنامي الطبقة الوسطى الصينية بما يعرقل صيغة الصين كأداة انتاج رخيص الثمن لمصلحة الاستهلاك الأميركي، أو حتى لعوامل سياسية، من تصاعد المطالبة بالحريات إلى تأزم العلاقة بين المدنيين والعسكريين في نظام الحكم في بكين. زيارة هو جنتاو للولايات المتحدة من المفترض أن تؤكد عمق العلاقة بين الدولتين. إلا أن من شأنها، نتيجة للريبة الثقافية القائمة، أن تزيد من الخوف الشعبي الأميركي من الخصم الذي تشكله الصين، لا سيما مع تلاشي الوعي العام من ذاك الخطر الآخر الذي يجسده الإرهاب.