أضفت الزيارة القصيرة التي قام بها وزير الخارجية الاميركية كولن باول للعاصمة الصينية في 28 تموز يوليو المنصرم طابعاً ودياً جديداً على العلاقات الاميركية - الصينية، وذلك على رغم استمرار الخلافات حول العديد من المسائل العالقة. وفي حين ان هذه الزيارة التي تشكل تحضيراً لزيارة يعتزم الرئيس الاميركي جورج دبليو بوش القيام بها الى الصين في تشرين الاول اكتوبر المقبل، تعلن ضمناً انتهاء مرحلة المواجهة الحرجة التي وصلت الى حد الازمة مع الاصطدام الجوي واحتجاز طائرة التجسس في نيسان ابريل الماضي، فإن سياسة بوش ازاء بكين تبقى محكومة باعتبارات موضوعية تجعلها عرضة للاضطراب في المرحلة المقبلة. وتختلف الدراسات الصادرة عن مراكز الابحاث الاميركية في تقويم المستقبل الاقتصادي والسياسي للصين الشعبية. ففي حين يشير البعض منها الى ان استمرار النمو الاقتصادي بالمعدل الحالي سوف يمنح الصين ناتجاً وطنياً يفوق الناتج الاميركي مع حلول العام 2020، ويجعل منها بالتالي القوة الاقتصادية الاولى في العالم، يؤكد البعض الآخر ان حساب المعدل الحالي ينطوي على قدر كبير من الخلل والمبالغة، وان نهج السعي الى احتواء العمالة الناشئة الذي تعتمده القيادة الصينية من شأنه تقويض مكاسب النمو في الاعوام القليلة المقبلة واغراق البلاد في ازمة اقتصادية واجتماعية خطيرة. وفيما يشدد بعض الدراسات على استفحال الخطر الذي يشكله التطور العسكري للصين الشعبية، على جزيرة تايوان اولاً ثم على الولاياتالمتحدة سواء من حيث انتاج اسلحة الدمار الشامل او تسويقها للدول "المارقة"، فان دراسات اخرى تتوقع ان تبقى قدرة الصين العسكرية، لا سيما في المجال النووي، محدودة جداً ومتخلفة بالمقارنة مع الترسانة الاميركية. ويبدو ان هذا التفاوت في تقويم الواقع والمستقبل الصينيين يطول كذلك الدوائر الحكومية الاميركية، كما انه ساهم في تعزيز الاضطراب في سياسة الرئيس بوش ازاء بكين. بل تفيد المؤشرات ان ثمة توجهين لهذه السياسة، يلتزم الاول منهما "الصقور" في حكومة بوش، ويجري تصنيف الصين وفق هذا التوجه بأنها "الخصم" لا "الشريك"، ويأتي هذا التوجه مدعوماً بالتوقعات التي اعدتها وكالة الاستخبارات المركزية حول فداحة الخطر الذي تشكله الصين. فيما يعتمد التوجه الثاني وزير الخارجية كولن باول الذي يرى ان السبيل الى استيعاب احتمالات الخطر يتم عبر تعزيز العلاقة المباشرة مع القيادة الصينية. وعلى رغم اعتناق الرئيس بوش توجه "الصقور" في المرحلة الاولى من توليه الرئاسة، لانسجامه مع مضمون خطابه الداعي الى اعادة تأكيد القوة والاستقلالية في السياسة الخارجية الاميركية، فانه تجنب اللجوء الى السلاح الاقتصادي واعاد الشهر الماضي اقرار مرسوم استمرار العلاقات التجارية الاعتيادية مع الصين، رغم تصاعد الاصوات في الكونغرس والمطالبة بالتضييق على بكين التي تستفيد من فائض ضخم في الميزان التجاري مع واشنطن. ويمكن تلخيص العلاقات الثنائية بثلاثة ملفات: الاقتصادي والامني وحقوق الانسان. فعلى الصعيد الاقتصادي، شهد العقدان الماضيان نشوء ترابط اقتصادي بين الدولتين، لا سيما في اطار اعتماد الشركات الاميركية التي اتجهت الى تقليص حضورها التصنيعي في الولاياتالمتحدة، على المؤسسات الصينية لتصنيع منتجاتها بكلفة اقل وفق تصاميم ومعايير انتاج اميركية. والواقع ان معظم الصادرات الصينية الى الولاياتالمتحدة تندرج في هذا الاطار. والاهتمام الاميركي على المستوى الرسمي وعلى مستوى قطاع الاعمال على حد سواء يبقى منصباً في اتجاه فتح السوق الصينية الناشئة، والتي تشكل عددياً خمس السوق العالمية، امام المنتجات الاستهلاكية الاميركية، وذلك مع تحسن مستوى الدخل الفردي في الصين نتيجة الازدهار العائد، الى حد ما، الى شراكة الدولتين. وبالنسبة الى الجانب الاميركي، يشكل انضمام بكين الى منظمة التجارة العالمية يشكل ضمانة مفادها ان نظام رأسمالية الدولة المعتمد فعلياً في الصين لن يكون عائقاً مانعاً لتوسع الشركات الاميركية الى السوق الصينية الناشئة. ويرى البعض في التفاوت بين المواقف الخطابية المستنفرة للرئيس بوش، لا سيما في مطلع عهده، وانكفائه عن استعمال السلاح الاقتصادي بما يتناسب وصرامته الكلامية، انصياعاً لرغبات قطاع الاعمال ذي التأثير المشهود على الحياة السياسية في الولاياتالمتحدة. والواقع ان كوندوليزا رايس مستشارة بوش ذات النفوذ لديه، كانت اكدت دوماً على ضرورة عدم اخضاع المصلحة الوطنية لاعتبارات نظرية او مبدئية. يبدو اذاً انه تشكل لدى بوش في الاشهر الماضية الاقتناع بأن صلب العلاقة بين بلاده والصين هو الاطار الاقتصادي في جانبيه المتحقق والموعود. لكن استتباب العلاقة الاقتصادية تؤرقه من وجهة النظر الاميركية عدة اعتبارات امنية منها العرضي، اي تلك المتعلقة بتايوان، ومنها الجوهري الذي يجعل الخلاف مع بكين وتايبيه اقرب الى خلاف داخلي. فالحكومات الاميركية المتعاقبة، لا سيما حكومة الرئيس بوش، ما فتئت تعلن التزامها بقضية تايوان حيث النظام السياسي ديموقراطي رأسمالي. وفيما كان الالتزام الاميركي بتايوان يقتصر على الجانب المعنوي فان جورج بوش رفع مستواه حين اشار الى استعداده للجوء الى القوة للدفاع عنها في حال تعرضها للغزو الصيني. ويمكن التقليل من اهمية هذا التصريح، لا سيما انه جرى تطويقه فيما بعد، عبر ادراجه في اطار التدرب الذي عاشه بوش في الاشهر الماضية، او في اطار المزايدات الكلامية على خصوم الصين ضمن الحزب الجمهوري والتيار المحافظ. الا ان لمسألة تايوان اهمية اضافية في اطار السياسة الاميركية ازاء بكين، اذ تشكل نفوذاً معنوياً قابلاً للمقايضة لتذليل الخلافات حول المسائل الامنية الاخرى من "اقناع" بكين بالقبول، وان على مضض، بالدرع الصاروخي الوقائي الذي تعتزم حكومة بوش الشروع بتطويره ونشره، او الزامها التقيد بالاتفاق الموقع في تشرين الثاني نوفمبر الماضي، والقاضي بمنع الصين من بيع الاسلحة المتطورة لا سيما منها الصاروخية. وفي مواجهة النفوذ الاميركي الراسخ في مسألة تايوان، والمرشح ان يتعاظم مع نشر الدرع الصاروخي الوقائي، فان الحكومة الصينية تحاول بدورها استجماع العناصر للمقايضة. ويشكل الاتفاق الذي وقعه مؤخراً كل من الرئيس الصيني جيانغ زيمين والروس فلاديمير بوتين ابرز هذه المحاولات. وفي حين ان المسؤولين في حكومة بوش قللوا من اهمية الاتفاق واكدوا انه لا يعني العودة الى الحرب الباردة، فانه عكس المخاوف الصينية من نتيجة ابطال التهديد المحدود الذي تشكله ترسانتهم النووية للولايات المتحدة، والانعدام الناتج للتوازن الدفاعي بين الدولتين، وانعكاساته المحتملة على العلاقات على مختلف الاصعدة. وكما مسألة تايوان كذلك مسألة حقوق الانسان. اي ان الاهتمام الاميركي الرسمي بهذه المسألة يتراوح بين المواقف المبدئية العامة ذات الطابع الكلامي والانتقائي حيث الاهتمام باوضاع حقوق الانسان في التيبت بارز، فيما الاهتمام باوضاع شنجانك اي تركستان الشرقية يكاد ان يغيب تماماً، والمحافظة على هذه المسألة كورقة ضغط وعنصر نفود، من دون ان يكون لها اولوية عليا. بل يبدو في الغالب ان الاهتمام الاميركي الرسمي بمسألة حقوق الانسان يأتي في اعقاب جهود الناشطين الصينيين في الولاياتالمتحدة. ويتضح عبر استعراض الملفات الثلاثة التي تحكم العلاقة انها تفتقر الى التوازن، ومن شأن خطة الدرع الصاروخي الوقائي ان تعمق اختلال ذاك التوازن. فعلى رغم الاهمية القصوى التي توليها القيادة الصينية للعلاقة الاقتصادية مع واشنطن والتي تشكل في واقع الامر اساس النمو الاقتصادي للبلاد، وعلى رغم الاهتمام الخاص بتوفير الظروف الملائمة لاقامة الالعاب الاولمبية في بكين في العام 2008، بما يعزز صورة الصين العالمية، فانها تخشى تردي نفوذها المحدود في هذه العلاقة وتسعى الى اعتراضه. والمهمة المناطة بالرئيس بوش خلال زيارته بكين في الخريف المقبل هي العمل على تبديد هذه المخاوف.