- 1 - تعرفت إلى الجزائر من أبي، يحفظه الله، قبل أن أتعرّف إليها من كتب التاريخ والجغرافيا المدرسية. إذ كتب فيها قصيدته القومية الشهيرة (المجاهد الجزائري، 1955) فعرفنا قوتها. ثم كتب عن نضال جميلة بوحيرد قصيدته التحريضية (صوت من الجزائر، 1958) فعرفنا أناسها. ثم زارها بعد الاستقلال وكتب فيها قصيدته التأملية (عنّابة، 1975) فعرفنا جمالها. ثم مكثت سنين عدداً أتوق إلى زيارة هذا البلد الذي كنت أشعر بأن أبي «الشاعر» شريك فيه! تحققت الأمنية أخيراً، بعد انتظار طويل ويأس قصير. - 2 - في اليوم الأول من الزيارة، اكتشفت كيف أن «المجاهدين» الجزائريين الذين كانوا مصدر فخر ومدائح الشعراء العرب في الستينات، قد حلّ محلهم «الجهاديون» الذين أصبحوا مصدر قلق وذعر لأبناء الجزائر. والفارق البسيط بينهما أن «المجاهدين» كانوا يقاتلون المستعمر والدخيل، أما «الجهاديون» فإنهم يقتلون المواطن والأهل. في كل نقاش، رسمي وغير رسمي، لم تخلُ عبارات المسؤولين الجزائريين من شؤم استذكار السنوات العشر السوداء من الإرهاب الذي خطف البلاد، ومن التعوّذ من كابوس ذلك العقد الكئيب، الذي ما زالت مؤسسات الوطن تسعى للتعافي من أعراضه وندوبه. - 3 - أردت أن أسترجع رموز قصائد «أبي» في الجزائر. سألت عن مدينة عنابة الخلابة فقيل لي إنها بعيدة، سألت عن المناضلة جميلة بوحيرد فقيل لي إنها أبعد (!)، سألت عن (المجاهد الجزائري) فأدركت أن «الجهاديين» كانوا يسعون لإبادة «المجاهدين» ودفنهم. كاد أولئك أن يحولوا بلد المليون شهيد إلى بلد المليون قتيل، وأن يجعلوا الاستدمار العربي هو وريث الاستعمار الفرنسي «المدمر». بعد عشر سنوات من عبث الإرهاب، أيقن الجزائريون أن مقاومة المستعمر الداخلي أشد ضراوة وإيلاماً من مقاومة المستعمر الخارجي، وليس هذا للجزائر فحسب. في الجزائر كانت أول نبتة للربيع العربي، لكنها تحولت إلى خريف حين خطفت الجماعات الجهادية المسلحة تلك «النبتة» وسقتها بدماء الشعب، حتى ارتوت وماتت! - 4 - الجزائر ليست بلداً مترامي الأطراف فحسب، بل ومترامي الأجناس والثقافات، ففيها العربي وفيها الأمازيغي وفيها المتفرنس. وفي بلداتها وقراها تتجاور آثار إسلامية/ عربية مع آثار أمازيغية، وآثار رومانية تتلاحم مع آثار الفينيقيين الذين كانوا يجوبون أطراف البحر الأبيض المتوسط ويتركون بصمة في كل «ترانزيت» بحري لسفائنهم! في الجزائر العاصمة، رأينا آثار المستعمر المطرود وآثار المجاهد الراحل. وفي تيبازه رأينا جمال الطبيعة والتنافس الروماني/ الفينيقي. وفي غردايه استعدت رائحة الصحراء والنخيل والتنوع الأمازيغي. وهنا وها هنا وهناك ذقنا طعم الكرم الجزائري والحفاوة المغاربية. - 5 - طرد أبناء الجزائر البواسل المستعمر الفرنسي من أرضهم لكنهم لم يطردوه من لسانهم. كنا نتفهم، نحن الوفد اليونسكي الزائر، أن يُرغم كبار السن من جيل الاستعمار على التحدث بالفرنسية، لكن الذي لم نجد له مبرراً هو أن نستمع إلى الشباب في الطرقات أو المقاهي يتحدثون في ما بينهم بالفرنسية! هل يعلم هؤلاء الشباب أن المليون شهيد من أجدادهم لم يضحوا بأنفسهم من أجل أرض فحسب، بل من أجل هوية تسقي الأرض المحروثة. الجزائر... بلاد الهوية التي لا تنهزم. * كاتب سعودي.