أخطأ الرئيس باراك أوباما مرتين في تناوله زوبعة بناء مركز إسلامي ومسجد قرب برجي"مركز التجارة العالمي"في مانهاتن على بعد أمتار من"غراوند زيرو"? موقع الهجوم الإرهابي الذي أطاح البرجين على أيادي 19 إرهابياً مسلماً. أخطأ، أولاً، عندما دخل حلبة الصراع فيما كان عليه أن يترك المسألة حيث يجب بقاؤها، أي في مدينة نيويورك ومع عمدة نيويورك، مايكل بلومبرغ، الذي دافع عن تشييد المسجد في ذلك الموقع وقال:"عار علينا حتى أن نتحدث عن الأمر". وأخطأ، ثانياً، عندما رطّب مواقفه وتراجع في اليوم التالي عن الدعم القاطع لتشييد المسجد قرب"غراوند زيرو"، مشككاً بحكمة مثل هذا القرار، فبدا الرئيس ذو الجذور الإسلامية ضعيفاً، متردداً، متراجعاً أمام حملة الكراهية التي شنّها اليمين المتطرّف والحملة السياسية التي أطلقها الحزب الجمهوري للاستفادة في الانتخابات النصفية المهمة للحزبين الديموقراطي والجمهوري على السواء. ما يجدر بالرئيس أوباما أن يقوم به الآن هو اختيار المسألة المهمة والتوقيت المناسب ليقلب الطاولة على الذين يصنّفونه بالضعيف ليثبت قوته حيث للقوة فائدة. ويتطلب هذا منه استباق ما هو في ذهن الذين يعدّون له حملة عشواء عندما يضطر للضغط على رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتانياهو إنقاذاً لحل الدولتين وصيانة للمصلحة القومية الأميركية. ربما كان أساساً في ذهن الذين أججوا مسألة المسجد أن يستبقوا الضغوط على إسرائيل الرافضة مفاوضات مباشرة مع السلطة الفلسطينية على أساس مرجعية يتفق عليها العالم أجمع ? مرجعية حل الدولتين وإنهاء احتلال عام 1967 للأراضي الفلسطينية مع تبادل أراض والعيش في أمن لإسرائيل وفلسطين. ما زال المبعوث الأميركي السناتور جورج ميتشل مثابراً وصابراً وآملاً يبذل الجهود لإطلاق المفاوضات المباشرة المرجوة. الوزراء العرب دعموا السلطة الفلسطينية نحو المفاوضات المباشرة في شبه مفاجأة، وذلك تجاوباً مع الجهود الأميركية وإثباتاً للرغبة الصادقة في السلام مع إسرائيل والاعتراف بوجودها على أساس حل الدولتين."اللجنة الرباعية"المكوّنة من الولاياتالمتحدة والأمم المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي تعمل جاهدة على لغة لترغيب إسرائيل بالمفاوضات المباشرة على أساس المرجعية التي أقرتها"الرباعية"في إجماع على أهداف التفاوض وأطر أهدافه. لكن حتى الآن، تساوم إسرائيل لكي تجري مفاوضات لمجرد التفاوض والتلاعب بالوقت. وحتى اليوم، تتملص إسرائيل تكراراً من حل الدولتين، بعذر من هنا وذريعة من هناك، متلاعبة على الألفاظ، وهي في واقع الأمر غير جدية في تنفيذ هذا الحل وتطبيقه. علاقة حل الدولتين بأزمة المسجد في نيويورك لم تكن لتبرز على الإطلاق، سوى من ناحية الرسالة التي يحملها دوماً الإمام فيصل عبدالرؤوف وهي رسالة الاعتدال بين المسلمين والحوار مع الديانات الأخرى. هكذا من وجهة نظر الإمام فيصل، يمكن إضعاف التطرف وتقوية الاعتدال من أجل التصدي للإرهاب عندما يأتي من صفوف المسلمين. أمثال الإمام فيصل يدعون إلى الانفتاح والتعايش ويدعمون خيار المفاوضات والسلام. انهم الصوت الآخر المناهض للأصوات الرافضة للسلم والتفاوض والتي تحرّض على استخدام القوة لتحصيل الحقوق. والإمام فيصل هو الصوت الداعي الى العقل والتعقل والصبر والتفاهم. وما نجم عن الحملة عليه من الأبواق الأميركية، وهي التطرف بعينه، هو ان تلك الأبواق أضعفت هذا الصوت وقدّمت الذخيرة لأصوات التطرف والعنف والانتقام. فهؤلاء في صفوف التطرف شامتون اليوم بالذين قالوا لهم ان أميركا عادلة ومنفتحة تحترم دستورها ولا تميّز بين مواطنيها، إعلامها حر ومستقل والحوار فيها بنّاء. هذه الشماتة ذخيرة للانتقام من المعتدلين المسلمين الذين هم حجر أساس في مواجهة العنف والإرهاب. سذاجة أكثرية الرأي العام والإعلام الأميركي تعميه عن واقع في منتهى البساطة والوضوح، وهو، أن ما يسمى بالحرب على الإرهاب دفاعاً عن الولاياتالمتحدة وحماية للمصلحة القومية الأميركية يتطلب بالضرورة الشراكة مع صفوف الاعتدال في القاعدة الشعبية للمسلمين أينما كان. تعصّب معظم الإعلام الأميركي والرأي العام ضد العرب وتلقائية الانحياز لمصلحة إسرائيل يحولان دون الإقرار الضروري بأن معالجة القضية الفلسطينية بحل عادل للطرفين الإسرائيلي والفلسطيني هو حجر أساس للقضاء على ذرائع المتطرفين في الصفوف الإسلامية. فالمعادلة في غاية الوضوح: حل النزاع الفلسطيني ? الإسرائيلي يساوي كسب نصف المعركة ضد الإرهاب والعنف الآتي من المسلمين الغاضبين على أميركا بسبب تحاملها في مسألة فلسطين. وحلّ هذا النزاع يسحب على الأقل نصف الذريعة من أيادي المتطرفين الذين يصادرون القضية الفلسطينية ويستغلونها لحسابهم. ومن يجهل هذا الواقع انما يتظاهر بالجهل، وهو في الواقع منحاز ومتعصب، أو أن السذاجة والجهل هما حقاً آفة تأكل في عصب أميركا. بالتأكيد، هناك بين الرأي العام الأميركي والإعلاميين من وقف بكل وضوح وجرأة وإصرار في وجه الذين صنعوا من مشروع المركز الإسلامي والمسجد قضية انتخابية أو قضية ضد الإسلام أو قضية ضد باراك أوباما. وبكل تأكيد ان مواقف العمدة مايكل بلومبرغ، وحاكم نيوجرزي كريس كريستي، وهما من الحزب الجمهوري، مواقف جريئة ومبدئية يجب على القيادات والرأي العام والإعلام في العالم الإسلامي التنبه لها قبل التهجم الشامل على أميركا وحكامها وسياسييها وأعلامها. وبالتأكيد، أيضاً، ان السجال في شأن موقع بناء المسجد والمركز الإسلامي ليس قطعاً محسوماً لمصلحة الحق بتشييد المركز ? وهو حق دستوري يتفق عليه جميع الأميركيين من الناحية القانونية ومن الناحية التجارية ومن الناحية الدينية. فقد كان في وسع الإمام فيصل عبدالرؤوف وشركائه في القرار أن يتعمقوا في معنى قرب المقر من"غراوند زيرو"وما قد ينطوي عليه ذلك من استفزاز عاطفة أو استفزاز كراهية للإسلام. الإمام فيصل صديق وكذلك زوجته دايزي خان وهما دائماً في المحافل الدولية يعملان نحو الحوار والانفتاح. انهما صورة الاعتدال في الإسلام. دايزي تقول"ان رمز الموقع رمز قوي لأن القرب من"غراوند زيرو" لبعث رسالة الاعتدال من خلال مركز إسلامي يحتفل بالسلام والتعايش والصلاة معاً إنما يُعلي صوت الاعتدال ويُغرِق صوت التطرف". وعلى رغم صحة رأيها حول الاعتدال والتطرف، فإن عدم التنبه لوطأة"القرب"عاطفياً للبعض واستغلالياً للبعض الآخر ليس حكيماً. لقد كان الأجدى بالإمام فيصل أن يفكّر مليّاً وأن يترقب ردود الفعل. لربما مسألة"القرب"proximity في حسابات الإمام فيصل انطلقت من رغبته في أن يكون المركز الإسلامي والمسجد صرحاً لطي صفحة زج المسلمين في خانة الإرهاب بمجرد ذكر 9/11. لربما راهن على ثقة وزارة الخارجية الأميركية وتوكيلها له كحاملٍ لرسالة التفاهم والإيضاح والتحاور والعمل المشترك مع رجال الدين المعتدلين في العالم الإسلامي وكذلك رجال الدين المسيحيين واليهود. لربما أخطأ. لربما أصاب. واقع الأمر ان الأمر سيزداد تعقيداً أمام وضوح المضي بتشييد المركز والمسجد. فالمعركة التي بدأتها جهات عنيفة في عدائها للإسلام والمسلمين قد تتحول الى مواجهة عنيفة، لا سيما ان الغباء والعنصرية والكراهية، عندما تجتمع معاً، فإنها تؤدي الى العنف والإرهاب بعينه. لذلك، من الحكمة للحزب الجمهوري أن يلجم أمثال نيوت غينغريتش، رئيس مجلس النواب السابق الذي شبّه بناء المسجد ب"محاولة النازيين إقامة نصب بجانب متحف المحرقة في واشنطن". مثل هذا التأجيج يؤدي الى استفزاز العنف المضاد وربما يؤدي الى استدعاء عمليات إرهابية الى الأراضي الأميركية مجدداً. عندئذ ستقع في أيادي الحزب الديموقراطي الذخيرة لاتهام الحزب الجمهوري باستفزاز واستدعاء العنف والانتقام. كل هذا يدخل في تلك اللعبة السياسية التي تسمى انتخابات، وكل موجة انتخابات تحوّل أميركا بإعلامها وسياسييها الى زمرة وجوقة تتسلى بألاعيبها، بلا حس المسؤولية. انها اللعبة السياسية يا أغبياء. انه زمن تحويل المسائل السياسية الكبرى الى حفلة تسلية وإلهاء لشعب ينتمي الى الدولة العظمى الوحيدة. وهذا مذهب ومخيف ولا يستدعي إدخال الولاياتالمتحدة في حال صراع مع الإسلام بسبب مركز أو مسجد بقرب"غراوند زيرو". الأهم هو التنبه لضرورة معالجة أسباب الخلاف مع العالم الإسلامي. فلسطين بالتأكيد تشكل خلافاً جذرياً يجب إزاحته عن المعركة مع التطرف الإسلامي. الرئيس باراك أوباما، وكذلك كبار القادة العسكريين الأميركيين الذين يقودون المعركة ضد التطرف الإسلامي، قالوها مرات عدة وما زالوا: ان حل النزاع الفلسطيني ? الإسرائيلي هو في المصلحة العليا القومية للولايات المتحدة. وان استمرار هذا النزاع هو عرقلة أساسية أمام إصلاح العلاقة الأميركية مع العالم الإسلامي وأمام الحرب على التطرف الإسلامي أينما كان. رجال الدين في صفوف الاعتدال، من أمثال الإمام فيصل، هم تماماً من سعت حملات"الديبلوماسية الشعبية"لهذه الإدارة والإدارة السابقة البحث عنهم وحضهم على بعث رسالة الاعتدال كي تتكوّن الشراكة الضرورية لإلحاق الهزيمة بالتطرف. ما حصل في أميركا في شأن تشييد المسجد والمركز الإسلامي في"باراك 51"هو بمثابة اطلاق الرصاص على قدمي القنّاص نفسه. هذا إضافة الى وضع ذخيرة ثمينة في أيادي التطرف ? ذخيرة شنق الاعتدال في صفوف رجال الدين.