في بعد ظهر يوم من أيام شباط (فبراير) المنصرم توجّه الدكتور (الطبيب) منصور ميرزا، الباكستاني المولد والمقيم في شيبويغان كاونتي، بولاية ويسكونسِن، الى اجتماع لجنة التنظيم المدني في بلدة ولسن التي تعد 3200 شخص. وعلى اللجنة البت في مسألة أحالها عليها المجلس البلدي، وتتناول بناء مسجد في قرية أوستبورغ القريبة. ولم يتوقع منصور ميرزا مفاجأة. فهو صاحب الأرض التي يقدر أن يبني فيها المسجد، ويعمل منذ 5 سنوات في مستشفى مانيتوفوك القريب، وليس طارئاً على الناحية. وحال ابتداء المناقشة سمع الطبيب ما لم ينتظره، ولم يعد العدة لسماعه، ولم يسبق أن قاله له أحد من مرضاه في عيادته. فأعضاء اللجنة الذين تعاقبوا على الكلام لم يتستروا على ازدرائهم وكراهيتهم، ومعظم التحفظات من غير صلة بالتنظيم المدني وقواعده، وتتصل بإيمان الدكتور الباكستاني المولد ومعتقده. وعلى هذا، قيل له ان الإسلام هو دين الحقد، وان المسلمين يريدون استئصال المسيحية، وإنهم يقتلون أولادهم. وصرخ أحدهم: «لا أريد هذا في بلدي وأرضي!». ويتذكر منصور ميرزا أن أحد أعضاء اللجنة حاول مناقشة المسألة مُدُنياً، وفي إطار اختصاص اللجنة. فدعا الى ترك العموميات. ولم تفلح دعوته في لجم الكلام المتدفق. وألزم الطبيب المسلم نفسه الهدوء حين سأل أحد أعضاء اللجنة عن تخزين السلاح في المسجد والتدريب العسكري المزمع. وهو يقول اليوم: «لم أحسب أن الأشخاص الذين أعالجهم في المستشفى، ويبدون لي الاحترام، في وسعهم أن يكلموني يوماً على النحو الذي كلموني فيه حين اجتماع اللجنة». ومعظم مسلمي شيبويْغان كاونتي، وهم يعدون نحو المئة من ألبان البوسنة، آثروا السكوت عن معتقدهم الديني، ويخشون، في ضوء تجربتهم مع الصرب في بلدهم الأول، أن يثير بناء المسجد الانتباه إليهم، وغداة اجتماع اللجنة شن عدد من قساوسة أوستبورغ حملة على خطة بناء المسجد. وسوغوا معارضتهم بأن «غاية الإسلام السياسية هي السيطرة بالقوة والوسائل العسكرية على العالم»، على قول المحترم واين دوفرو، قس كنيسة الإصلاح الأول في أوستبورغ. ولم تلقَ الحملة صدى محلياً الى حين شيوع مسألة «بارك 51». وهو اسم خطة الشيخ فيصل عبدالرؤوف وزوجته دايزي خان إنشاء مركز ثقافي إسلامي، جزء منه مسجد، على بعد أمتار من «غراوند زيرو»، قاعدة برجي مركز التجارة العالمي اللذين دمرتهما هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001. وألهب اقتراب موعد الانتخابات النصفية المشاعر، وبعث رهاباً من الإسلام ظهرت معالمه في مناقشات ولاية ويسكونسن. وموقع «بارك 51» ليس قريباً من «غراوند زيرو» وحده. فهو على رمية حجر من نوادي تعرية نسائية، وحوانيت تبيع الكحول على شاكلة أمثالها في زاوية الجهة الجنوبية من مانهاتن. ويقيم المسلمون صلاتَهم في الموقع منذ نحو السنة. ومنذ آب (أغسطس)، يجتمع هناك متظاهرون يحملون لافتات كتب عليها: «كل ما أعرفه من الإسلام تعلمته في 11 سبتمبر». وهذه التظاهرات عينة من أشباهها ونظائرها في مواضع متفرقة من الولاياتالمتحدة. فهل الإسلام مشكلة؟ وهل تحول هجمات 11 أيلول 2001، وغيرها من المحاولات الخائبة، دون اندماج المسلمين في أميركا؟ وهذا ما يحسب ابراهيم موسى، الأستاذ المحاضر في الدراسات الإسلامية بجامعة ديوك، في كارولاينا الشمالية. ويدل استطلاع رأي أجرته «تايم» أخيراً أن 46 في المئة من الأميركيين يرون أن الإسلام يحمل المسلمين على العنف بإزاء غير المسلمين فوق ما تحمل الديانات الأخرى المؤمنين بها على العنف بإزاء مخالفهم. فلم يدع «رهاب الإسلام» الأميركيين الى سن حظر البرقع، على ما صنعت فرنسا، أو الى حظر بناء المآذن، على ما صنعت سويسرا. وتدل استطلاعات الرأي على أن معظم المسلمين في الولاياتالمتحدة يشعرون بالأمان والحرية فوق ما يشعر بهما معظم المسلمين في بلدان أخرى. وانتخب الى مجلس الكونغرس مسلمان. وانتخبت ريما فقيه ملكة جمال الولاياتالمتحدة هذا العام. وفي غضون أسابيع قليلة قادمة يفتح أول معهد تدريس إسلامي جامعي أبوابه في بيركلي، بكاليفورنيا، وشعاره: «حيث الإسلام يلقى أميركا». وعلى رغم تلفظ سياسيي اليمين الأوروبي في حق المسلمين بما يدعو الى الخجل، لم يذهب واحد منهم الى مقارنة الإسلام بالنازية، على ما فعل نيوت غنغريتش، رئيس مجلس النواب السابق. ويلاحظ إيبو بانيل، وهو مسلم أميركي وعضو لجنة مجلس الديانات المشترك (البيت الأبيض)، أن الحجة الأولى والبارزة التي يجمع عليها المنددون بخطط بناء المساجد هي «استحالة أن يكون المسلمون أميركيين حقيقيين». ويبعث انتشار المسلمين في الولاياتالمتحدة وتبعثرهم على تكاثر المساجد. ويقدر إحسان بانجي، أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة كانتاكي، عددها اليوم 1900 مسجد. وكانت 1200 في 2001. ومعظمها مصليات مرتجلة في مكاتب أو محال تجارية. وحال اعلان جمعية مسلمة عن عزمها على بناء مسجد حقيقي يعرضها إعلانها الى الانكشاف والنقد. وجبهت 6 خطط بناء مسجد، في 2010، معارضة حادة. ولم تقتصر هذه على الرفض والتنديد. ففي غاينفيل، بولاية فلوريدا، أعلن قس نيته حرق نسخ مطبوعة من القرآن في ذكرى 11 أيلول 2001. ويشن المعلقون على الشبكة حملات مفرطة العنف. واضطلع مدونون مثل النيويوركية باميلا جيلير، على رأس موقع أطلس شروغر، بدور راجح في صبغ قضية «بارك 51» بصيغة وطنية عامة، على خلاف رأي بعض المحافظين الذين قبلوا الخطة. ففي كانون الأول (ديسمبر) 2009، قالت لورا انغراهام، وهي خلفت بيل أوريلي في فوكس نيوز المحافظة، الى دايزي خان في اختتام مقابلتها: «أحب ما تحاولين القيام به». ولم يحل هذا دون حملة باميلا جيلير وغيرها من المدونين. ويحتج أصحاب الحملات بذرائع متفرقة. فمنهم من يخلص من إسلام أصحاب الهجمات الإرهابية الى وصم الديانة نفسها بالإرهاب. ومنهم من يلوح بآيات تحض المؤمنين على محاربة المشركين وقتلهم. وآخرون يبرزون أحكام الرجم والجلد والقطع في حق الزانين والزانيات والسارقين، ويقضون ببربرية المسلمين وتخلفهم بناءً عليها. ويخلص المنددون من هذا كله الى أن الحريات الدستورية لا تجوز في حق المسلمين وينبغي إبطالها وحرمانهم منها. ويَصْلي المتعصبون سمومهم وحقدهم جماعات دينية أخرى غير مسلمة، مثل اليهود والمورمون وآخرين. ولكنهم يخصون المسلمين بأعنف النعوت. ونظير الحملات هذه، تنهض جمعيات مسيحية ويهودية وعلمانية مدنية كثيرة، وترد على أصحابها، وتندد بهم، وتفند مزاعمهم من غير تردد ولا تراخٍ. ولكن المسلمين يفتقدون أصوات المسؤولين الديموقراطيين الذين لم يجهروا رأياً صريحاً وحازماً في قضية «بارك 51». واندريه كارسون نفسه، عضو الكونغرس عن ولاية إنديانا وأحد مسلمَيْ مجلس النواب، تجنّب الأسئلة عن موقع الخطة، واقتصر على التنويه بمناقشة زملائه النيويوركيين المسألة قريباً. وأحيا الرئيس أوباما آمال المسلمين قبل أن يعود ويخمدها فدافع عن حق المسلمين في تشييد مساجدهم حيث يجيز القانون تشييدها، في 13 آب، ثم قال إنه لا يدلي برأي في «حكمه القرار بإنشاء المسجد بهذا الموضع». وفي أثناء العامين المنصرمين، وقبل اندلاع مشادة «بارك 51»، شهدت الولاياتالمتحدة عدداً من الحوادث الإرهابية الداخلية التي ضلع فيها مسلمون أميركيون، مثل ارتكاب الميجر نضال حسن مجزرة فورت هود في 5 تشرين الثاني (نوفمبر) 2009، أو مثل محاولة فيصل شاه زاد تفجير سيارة مفخخة بتايمز سكوير في الأول من أيار (مايو) 2010. وعلى رغم قول باراك أوباما في خطبته بالقاهرة في 4 حزيران (يونيو) 2009، أن علاقة الولاياتالمتحدة بالمسلمين في صدارة مشاغله، لم يزر مسجداً واحداً في ولايته بعد، على خلاف سلفه جورج بوش. ولعل مناشدة حس العدالة في نفوس الأميركيين وتقاليدهم ومؤسساتهم وحدها المجدية. ففي ولسون، بلدة الدكتور منصور ميرزا، انتهى الأمر بالمجلس البلدي الى القبول بإقامة مسجد في مبنى تملكه جمعية شيبويْغان. ويؤم إمام المسجد، محمد حمد، منذ اليوم المصلين. والحق أن القبول هذا اقتضى مأساة سبقته وسوغته: ففي حزيران غرقت الفتاة صوفيا خان في نهر بحيرة ميتشيغان، قريباً من أوتسبورغ، فطلبت ريتا هارملينغ الى الشيخ حمد مواساة أسرة الشابة. وهارملينغ من كنيسة عارضت المسجد. ولم تلبث أسر من الأهالي أن اقتفت أثرها، وواست آل خان المفجوعين، والتفت حول منصور ميرزا ومحمد حمد وأهل صوفيا خان. * صحافيتان، عن «تايم» الأميركية، 30/8/2010، إعداد وضاح شرارة