فور وصولك إلى مدينة مونبيلييه جنوبفرنسا، تستقبلك الموسيقى بكل أنواعها في أجواء احتفالية. تدور هنا فعاليات مهرجان مونبيلييه للموسيقى الكلاسيكية الذي يعد أحد أبرز المهرجانات الصيفية الموسيقية الفرنسية الذي يحتفل هذه السنة باليوبيل الفضي لتأسيسه. في مونبيلييه الطقس جميل، درجات الحرارة مرتفعة والبحر على مقربة، وعلى رغم ذلك، فإن صالات العرض تعج بالناس ليلاً ونهاراً، ويصعب عليك إيجاد مقعد لك إن لم تأت قبل وقت طويل من موعد بدء الحفلة. النهار في مونبيلييه يبدأ عند الظهر ولا ينتهي قبل منتصف الليل. وهذا ما يسمح للمستمع بان يتنقل من حفلات"المواهب الشابة"إلى عروض لأفلام وثائقية حول كبار العازفين والأوركسترات، إلى"نقاشات بترارك"حول مواضيع ثقافية واجتماعية وسياسية، إلى الموسيقى مجدداً مع"موعد السادسة مساء"، ف"حفلة المساء"عند الثامنة قبل الختام مع موسيقى الجاز عند العاشرة. تنظم هذه الحفلات في أجمل معالم المدينة، فتسمح للمستمع بأن يسافر من نوعٍ موسيقي إلى آخر، من عصرٍ إلى آخر، مشددة على قوة الموسيقى كلغة كونية جامعة تتحدى الزمان والمكان. أهمية مهرجان مونبيلييه تكمن في استطاعته خلال ربع قرن أن يجتذب إليه جمهوراً من عشاق الموسيقى يصل عدده سنوياً إلى 041 ألف شخص في أقل من شهر. فثمانون في المئة من الحفلات هنا مجانية ومفتوحة أمام الناس. يعود ذلك إلى الإنسجام التام بين إدارة المهرجان والقطاع العام، وهو المساهم الأبرز في هذه التظاهرة الثقافية المميزة. فجزء من الضرائب تستخدم هنا لتسمح للمواطن بأن يحضر الحفلات ويستمتع بأجمل أعمال الموسيقى الكلاسيكية وأجود البرامج الثقافية من دون تكبد أي عناء. هي سياسة ثقافية تذكّرنا إلى حد ما بمدينة أفلاطون الفاضلة وما نادى به الفيلسوف اليوناني. الرجل الذي يقف وراء هذه ال"معجزة الثقافية"يدعى ريني كرينغ. إنه مؤلف، مخرج، مدير سابق لإذاعة France Musique ومؤسس مهرجان مونبيلييه. في حديث إلى"الحياة"لخص كرينغ رؤيته للمهرجان بقوله:"هدفي أن يفرح الجمهور ويستمتع بما يستمع إليه. هدفي ليس الربح المادي، بل أن أقدم الموسيقى للجميع من دون شرط". ترتكز برمجة مهرجان مونبيلييه على ثلاث نقاط أساسية: إعادة إحياء الأعمال النادرة، ودعوة كبار أسماء الموسيقى الكلاسيكية، وتسليط الأضواء على فنانين شباب في بداية مسيرتهم الفنية. بالنسبة إلى كرينغ، فإن"علة وجود مهرجان مونبيلييه الأساسية تكمن في الأعمال الموسيقية التي تقدم وليس فقط في أسماء النجوم الذين يحيون الحفلات. فنحن نركز على المؤلف، على عكس المهرجانات الفرنسية والأوروبية الأخرى التي تهتم بجلب أشهر العازفين". ولكن ذلك لم يمنع المهرجان من أن يستضيف في دورته الحالية أهم الفرق الأوركسترالية كالأوركسترا الوطنية الفرنسية وأوركسترا راديو فرنسا الفيلهارمونية، وهما من أجود الأوركسترات الفرنسية والأوروبية والعازفين كالشقيقتين كاتيا وموريل لبيك، أو عازف البيانو الروسي بوريس بريزوفسكي أو العازف التركي فازيل ساي أو عملاق الفيولون فاديم ريبين أو الإيطالي فابيو بيوندي احد أبرز مؤدي موسيقى حقبة الباروك. "المؤلف هو الأهم" "ليس العازف من كان وراء تاريخ الموسيقى، وإنما المؤلف والعمل. هناك أعداد كبيرة من المؤلفين الذين عُرفوا في وقتهم ونُسوا بعد 01 أو 51 سنة من وفاتهم. تعزف اليوم في حفلات الموسيقى الكلاسيكية أعمال خاصة ل 005 مؤلف لا أكثر، في وقت يحفل تاريخ الموسيقى ب04 ألف مؤلف. فأين هم ال00593 الأخرون؟ لم لا تعزف أعمالهم؟"، سؤال يطرحه كرينغ وينطلق منه لكي ينكب على دراسة تاريخ الموسيقى وإعادة النظر في هذه الأعمال التي وضعت جانباً والتي لم يهتم بها أحد. ونتيجة ذلك، برزت في دورات المهرجان ال 52 الماضية حيث قدمت 801 أوبرات تنتمي إلى كل الحقبات الموسيقية من الباروك إلى الكلاسيكية، الرومنطيقية وحتى المعاصرة، لم يكن أحد يعرفها. ففي مهرجان مونبيلييه لا تقدم فقط أعمال Carmen أو La Traviata أو Aida، وإنما أعمال مثل Piremo e Tisba لهاسي أو L"etranger لدندي أو Wuthering Heights لبرنارد هرمان. وما يزيد من أهمية هذه الخطوة الجريئة ويعطيها بعداً فرنسياً وأوروبياً، شراكة المهرجان مع مجموعة"راديو فرنسا"وهي اذاعات القطاع العام الفرنسية السبع، والتي تخصص جزءاً كبيراً من برامجها الإذاعية لبث الحفلات مباشرةً على الهواء من جنوبفرنسا، إضافة إلى البرامج الحوارية المتعددة التي تنقل فيها فعاليات المهرجان وتعرف الناس في فرنسا وأوروبا الى هذه الأعمال الموسيقية التي نسيها التاريخ، ليقترن بذلك اسم مهرجان مونبيلييه ب"راديو فرنسا". مهرجان مونبيلييه نموذج ناجح عن تآلف البرمجة الثقافية الذكية، مساهمة الدولة الفعالة ومشاركة الجمهور الوفي والمتابع. إنه مهرجان يؤمل بأن يكون له مثيل على مستوى البلدان العربية.