بين نوع صوت المطرب جوزف صقر 1942 - 1997، الفطري، ونوع أغانيه التي مال فيها كاتبها وملحنها زياد الرحباني الى فطرة ما وراء المعرفة، قام نوع من وحدة الحال أو"وحدة الموضوع"على قول الأدباء في نتاج يتوازن فيه الشكل والمضمون ويتآخيان. الممثل اللطيف والمغني اللطيف والإنسان اللطيف، اتحدت عناصرهم في جوزف صقر، الشخص الواحد، فبان الأمر عن فنان"خاص"بفطرته أولاً، وبمزاجه ثانياً، وبمستويات الاتقان الاحترافي الذي تجلَّى فيه من دون كثير" ثقافة"أو"علم"أو"أستذة"، تلك كانت بساطة على عمق على فرادة. لذلك، عندما رحل جوزف صقر ذات يوم من ذات سنة قريبة وتصادف ذكراه هذه الأيام، كانت بالفعل خسارة بالغة لنوعٍ من فنون الغناء والتمثيل والحضور في فنان نسجَ على منوال نفسه، ونادراً ما آمن بنفسه! لعلّ هذه الجملة هي سرّ جوزف صقر:"نادراً ما آمن بنفسه". لا تعني تصغيراً لموهبته، ولا تقليلاً من شأن نفسه لنفسه. نعني العبثية التي اخترقته حتى آخر أفكاره، وهي على أي حال عبثية كانت قاسماً مشتركاً بين فريق مغنِّين وممثلين، عمل مع زياد الرحباني. زياد نفسه كان يسخر من نفسه، على الخشبة وخارجها، أبطاله أيضاً من جوزف صقر الى سامي حوّاط الى آخرين كانوا"مش قابضينها جد"على رغم أن مناخ أعمالهم المسرحية كان أكثر من"جد"في النص المتفجر نقداً وتهكّماً سوداوياً ضبابياً من جهة، مباشراً هجومياً من جهة أخرى، وفي أسلوب الإخراج والتمثيل والغناء و"اللعب"الفني الغريب من غرابة، وفي التأثير الحقيقي والموضعي على جيل كامل من الممثلين والموسيقيين والمغنين والجمهور. صوت جوزف صقر متلوِّن، وأي صوت متلوّن هو نعمة لنفسه وللغناء في شكل عام. والتلون يأتي إما من مراس و"معالجة"إدائية صابرة، واما من فطرة، مع جوزف كان التلون فطرياً."وجد"جوزف نفسه قادراً على أداء الأغنية الخفيفة والثقيلة، اللبنانية والمصرية، من الأخوين رحباني الى سيد درويش الى عبد الوهاب الى زياد الرحباني. بلا أي وجل أو نقصان، ومن العتابا الى المواويل الى الغناء الشعبي"جداً"الى الغناء الشعبي الراقي الى الارتجاليات الأقرب الى أن تكون"تعليقاً"صوتياً مصبوغاً بالتهكم على الغناء أكثر مما هي تحدٍّ"استعراضي"في مساحات الصوت ومسافاته وألاعيب كما جرت العادة لدى أغلب المغنين في الماضي والحاضر. يمكن القول إن الارتجال في غناء جوزف صقر كان شبيهاً بالارتجال في مسرح زياد الرحباني ككل، حيث لا مجال لادخال جُمَل أو آراء لا علاقة لها بالنص الأصلي، بل المجال مفتوح لكلمات فقط أو قفشات ابنة ساعتها. في غناء جوزف صقر هذا النوع من الارتجال الذي لا يغادر"الموضوع"الغنائي، بل"يعلق"عليه بالصوت، وغالباً بالايحاء الساخر. وكان زياد الرحباني، أحياناً كثيرة، يتعمد تسجيل بعض"أجواء"الاستديو خلال تسجيل الأغاني عبر ضحكات عابرة ذات مغزى، أو حركات صوتية... الخ. وفريقه الفنِّي كان بارعاً في ذلك. وجوزف من ذلك الفريق، بل من أركانه الأوائل، وليس مبالغة قول زياد الرحباني، عند وفاة جوزف، أنه خسر جزءاً من نفسه. صوت جوزف صقر يعبر عن طريقة"خاصة"جداً في فهم الغناء كله. الغناء من أصله، ولقاؤه مع زياد الرحباني الذي اكتشف فيه هذه الخاصية الأدائية كان"ضرورياً"لجوزف ولزياد معاً. فجوزف كما يبدو في أعماله، غير مقتنع بالأداء"الرسمي"للأغنية، أي بالأداء المألوف أو المتعارف عليه، فيشطح ولكن ضمن الأصول، ويتفرّد ولكن ضمن المعقول. وينقل مناخ الأغنية نصاً وتلحيناً بما يناسبها من اللهو... المدروس، تماماً كزياد الرحباني الذي كان يلهو حتى في عزّ الثقل المسرحي، فكان المسرح الشعبي ? النخبوي الذي يلهو"بخربطة"المعايير الفنية باعتبارها ليست شأناً مقدساً، بل مجال اختبار لا ينتهي... في ذكرى رحيل جوزف صقر المغني والممثل، تُستعاد الخسارة، أو نستفيق مجدداً على الخسارة، كان صوتاً ونوعاً. واذا علمنا ان زياد الرحباني نفسه غادر تلك المرحلة بأدواتها الفنية الى غير رجعة، فسنعلم طبعاً أن جوزف صقر لن يستمر في أحد!