يسعى كثيرون الى الوقوف على حقيقة مفهوم الخصوصية في الخطاب الإسلامي المعاصر، من خلال توزيعه على الجماعات والتنظيمات والمؤسسات الإسلامية التي يموج بها الواقع، والتي تبدأ بالصوفي الإنكفائي إلى الثوري المفرط النشاط والانخراط. وهناك من يسلك سبيلاً مختلفاً ويتساءل: هل من الأفضل اختبار وجود المفهوم وحدوده عند هذه الجماعات والتنظيمات بعد تقسيمها قيمياً وبحسب التوجه والوضع القانوني إلى متطرف ومعتدل؟ أم رسمي /غير رسمي؟ أم مشروع /محظور؟ أم منتمون/ مستقلون؟ أم هل الأجدى أن ننظر إلى تطور المفهوم وتعيين حدوده زمنياً، في ظل المراجعات والتجديدات التي أدخلتها الحركة الإسلامية على الكثير من تصوراتها العامة والخاصة، الاستراتيجية والتكتيكية؟ أم يمكن أن نختار أسماء بعينها تمثل هذه التنظيمات كافة، أو تنوب عنها، ونختبر تصورها للخصوصية من خلال خطابها الشفاهي والمكتوب؟ هذه كلها طرق ومسارب يمكن أن يمضي فيها البحث، لكن يبدو من الأفضل اتباع الطريقة الأخيرة، التي تنقب عن الخصوصية، بمفهومها وحدودها وأشكالها، في ثنايا الخطاب الشفاهي الفكري. وهذا الاختيار ليس ارتياحاً للأسهل، ولا محاولة لاختزال الأمر، والهرب من التفاصيل، لكنه يبدو الأجدى نظراً لاعتبارات عدة، هي: أ - إن الفكر يمثل في كثير من الأحيان والأوضاع واسطة بين النص والممارسة، فهو الذي يضع للمعاني والمفاهيم والمضامين التي يحملها النص طريقاً للتطبيق في الواقع. ب - تبدو تجلية الخطاب في"الفكر"أوقع وأوضح من تجليته في الأنساق الأخرى، سواء كانت نصوصاً أو ممارسات أو حتى إشارات وتعبيرات رمزية غير لفظية. ج - غزارة الفكر الإسلامي وتبحره، حيث فاضت عقول لا حصر لها بالفهم الذي حصلته من قراءة النصوص وتفسيراتها، والوقوف على السنن وآثارها، وقراءة سير الرعيل الأول من المسلمين المشحونة بالأقوال والأفعال. وتراكم ما أنتجته هذه العقول حتى صار لدينا تل شاهق من المعرفة الإسلامية، لا يمكن أحداً أن يعتليه بمفرده، ولا يستطيع أي فرد أن يدعي الإلمام بجوانبه كافة، إلا في الخصائص العامة، والسمات الرئيسية. د - حالة التراكم هذه في المعرفة الإسلامية، شأنها شأن المعارف الأخرى، تجعل إنتاج المعاصرين من مفكري الإسلام متأثراً بما أنتجه السابقون، وقد يمثل، إن كان يحسن الجدل مع الواقع، ذروة لهذا التفكير. ه - إلى جانب التراكم هناك إعادة إنتاج لكثير من الأفكار التي قيلت أو كتبت في الزمن السابق. فحتى إن أراد البعض أن يصلوا إلى النص المؤسس القرآن الكريم مباشرة محاولين فهمه، فإنهم يستعينون بما جاد به من سبقهم بين علماء التفسير والفقه، وواضعي المذاهب الإسلامية. و - في ظل هذا التراكم والتشابه يوجد تنوع بات يسير داخل ثلاثة أضلاع أو بين ثلاثة خطوط متوازية، الأول سلفي ماضوي، والثاني وسطي يصل الماضي بالحاضر، والثالث عصري، يريد أن يتجه مباشرة إلى الواقع ليعالجه برؤى جديدة، تتعامل مع روح الإسلام وجوهر رسالته، غير عابئة بما قاله الأوائل، لأنهم"هم رجال ونحن رجال". ز - داخل كل نوع من هذه الأنواع هناك العديد من المفكرين والفقهاء والدعاة والخطباء، والفروق بين أصحاب كل لون طفيفة، وواحد منهم قد يغني عن البقية، حال التصدي لدراستهم بوصفهم ظاهرة، أو جماعة فكرية أو فقهية. وزيادة في التحديد، فإن من المفيد أن يقتصر البحث على المنتج الفكري لثلاثة ممن يعبرون عن الفكر الإسلامي المعاصر في مختلف صوره الحاضرة أمامنا، والماثلة لأذهاننا، وهم: 1 - الشيخ محمد حسان، كتعبير عن السلفية في تمسكها بالأصوليات، وإضفائها نوعاً من الاحترام الزائد الذي يصل إلى حد"التقديس"لعلم الرجال، أو ما أنتجه فريق بعينه من الأسلاف في الفقه والحديث. 2 - الشيخ يوسف القرضاوي، كتعبير عن الوسطية في اتزانها المعرفي والنفسي، وفي مزاوجتها بين الأصول، حيث التمسك بكثير مما ورد في تراث المسلمين وبين ما يقتضيه الواقع المعيش من تجديد الفقه وإعمال العقل والتفاعل الخلاق مع ما يجري، في وسطية جلية. 3 - جمال البنا، في نزعته العالية إلى التجديد، ورفضه الامتثال لكل ما أنتجه الأولون من فقه، وذهابه مباشرة إلى"النص المؤسس"وهو القرآن الكريم، والجزم بأن كل ما يقع خارج الثوابت الإيمانية يحتمل، بل يفترض، إعمال العقل نقداً واجتهاداً، والبحث عن المصلحة العامة للأمة. وفي رأي حسان فإن الخصوصية بوجهها العام مرتبطة ب"خيرية"الأمة الإسلامية، التي يوقن أنها"ليست ذاتية ولا عرقية ولا عصبية ولكنها خيرية مستمدة من الرسالة التي شرفت الأمة بحملها للناس أجمعين... ولم يكن هذا التكريم والتفضيل لهذه الأمة اعتباطاً... وإنما كان لأمة استقامت على دين الله وحولت الإسلام إلى منهج حياة، في جانب الاعتقاد وفي جانب التعبد، وفي جانب التشريع، وفي جانب المعاملات، والأخلاق والسلوك، وأقامت للإسلام دولة من فتات متناثر". أما"الخصوصية الثقافية"فينطلق حسان من تصور لها من دون أن يسميها أو يطرحها في صيغة هذا الاصطلاح يتبنى فيه قول أبو الحسن الندوي:"المسلم لم يُخلق ليندفع مع التيار ويساير الركب البشرى حيث اتجه وسار، بل خُلق ليوجه العالم والمجتمع والمدينة، ويفرض على البشرية اتجاهه، ويُملى عليها إرادته لأنه صاحب الرسالة وصاحب العلم اليقين، ولأنه المسؤول عن هذا العالم وسيره واتجاهه فليس مقامه مقام التقليد والاتباع، ولكن مقامه مقام الإمامة والقيادة، ومقام الإرشاد والتوجيه، ومقام الآمر الناهي، وإذا تنكر له الزمان، وعصاه المجتمع، وانحرف عن الجادة، لم يكن له أن يستسلم ويخضع ويضع أوزاره ويسالم الدهر، بل عليه أن يثور عليه وينازله ويظل في صراع معه وعراك حتى يقضي الله في أمره". لكن شيئاً من هذا لم يتحقق في الغالب الأعم، من وجهة نظر حسان، بفعل"الغزو الفكري"، الذي يراد له أن يقضي على"الخصوصيات الثقافية"للمسلمين، ليفعل فيهم ما أخفقت في فعله الآلة الحربية الغربية. ويرفض حسان كل ما يرد من ثقافات الغرب وطرق حياته ونظمه، وينهى الأمة الإسلامية عما يسميه"التسول على موائد الفكر الإنساني"، ويرى في تبني هذا الفكر خطأ كبيراً، فيقول: نحَت الأمة الإسلامية شريعة الله عز وجل وحكمت قوانين الشرق والغرب فخابت وخسرت. ونزلت من عليائها إلى هذا الدرك من الذل والهوان الذي وصلت إليه اليوم، بل أصبحت قصعة مستباحة للذليل قبل العزيز وللضعيف قبل القوي وللقاصي قبل الداني... وأصبحت غثاء من النفايات البشرية تعيش على ضفاف مجرى الحياة الإنسانية كدويلات متناثرة ومتصارعة. تفصل بينها حدود جغرافية ونعرات قومية مصطنعة، وترفرف في سمائها راية القومية وتحكمها قوانين الغرب العلمانية وتدور بها الدوامات السياسية فلا تملك نفسها عن الدوران، ولا تختار لنفسها المكان الذي تدور فيه". ويضرب حسان أمثلة على هذا الغزو الفكري أو الخطط و"المؤامرات"الغربية الرامية إلى النيل من الخصوصية الثقافية"للمسلمين، وهي في نظره: 1 - افتعال قضية المرأة: وهنا يقول:"حيث يحرص أعداء الدين على أن يوهموا الناس أن للمرأة قضية تحتاج إلى نقاش وذلك للانتصار لها، أو الدفاع عنها، ولذلك يكثرون الطنطنة والدندنة في وسائل الإعلام بكل صورها على هذا الوتر بأن المرأة في مجتمعات المسلمين في معاناة دائمة وأنها مظلومة وإنها شق معطلة ومهملة وأنها لا تنال حقوقها وأن الرجل قد استأثر دونها بكل شيء". 2- إضعاف مناعة المجتمع المسلم، حتى يفقد الغيرة على دينه والحمية لعقيدته، وذلك من خلال الصحف والمجلات المنافية للأخلاق التي تُظهر المرأة بصورة فاضحة مخزية لحد أصبح معتاداً جداً عند كثير من الناس بل أصبح الإنكار لهذا التهتك تهمة يؤخذ عليها بالنواصي والأقدام، ونشر الفكر المنحرف بصورة منتظمة إلى أن يعتاد كثير من الناس عليه عبر المسلسلات والأفلام والندوات والأخبار والمقابلات وغيرها، وتصوير البيت والأمومة وقوامة الرجل بصورة مشوهة تتقزز منها النفوس وتأباها الطباع، ومحاربة الحجاب بكل سبيل والدعوة إلى الاختلاط الفاحش المستهتر للزج بالطاهرات في مستنقعات الرذيلة والفتنة بحجة أن الأخلاق والتربية هما الأصل والأساس". ويحاول حسان أن يضع آليات لمواجهة الغزو الفكري هذا، فيبدأ أولاً بالاعتراف بوجود هذه"المشكلة"ثم يقترح ما يراه"انطلاقة صحيحة للقضاء على هذه العقبة"، وذلك ب"غرس العقيدة الصحيحة الشاملة من كفر بالطواغيت والأنداد والأرباب والآلهة وصرف العبادة بجميع أجزائها لله جل وعلا وحده، ومن ولاء وبراء. ولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، وبراء من الشرك والمشركين، ورد المسلم إلى هويته وانتمائه ليعتز بهذا الدين العظيم، ويكون على يقين أن دولة الإسلام وإن مرضت واعتراها الركود إلى فترات طويلة فإنها لا تموت بإذن الله، وبالعودة مرة أخرى إلى كل ميادين الحياة لتحويلها إلى واقع عملي حي يشهد للإسلام والمسلمين شهادة عملية وذلك بإعداد الكوادر المسلمة المتخصصة المتقنة في كل مواقع العمل وميادين الإنتاج". ثم يقترح حسان في موضع آخر ما يعتبرها وسائل مهمة لنقل الأمة الإسلامية من التبعية إلى الريادة، وهي: إقامة الفرقان الإسلامي لاستبانة سبيل المجرمين، وتصفية العقيدة، وتنقية الشريعة، وتهيئة الفرد المسلم الذي يحول العقيدة والشريعة إلى منهج حياة، وبعث آداب السلوك والأخلاق الإسلامية، وجعل الولاء للإسلام فقط دون سواه". ولا يختلف القرضاوي كثيراً عن حسان في رؤيته لشرور العولمة فيقول في إحدى خطبه:"العولمة صكها من صكها كمصطلح يغزون به عقلنا وأفكارنا. يقولون: الحداثة، وما بعد الحداثة، النظام العالمي الجديد، وبعدها العولمة. والعولمة في حقيقتها هي الأمركة. عولمة الناس أي أمركتهم حتى يصبحوا خاضعين للثقافة الأميركية والفلسفة الأميركية في عالم الاقتصاد، والثقافة والدين والأمن". ويفرق القرضاوي بين"العالمية"التي جاء بها الإسلام و"العولمة"الذي يدعو إليها الغرب عموما، وأميركا بخاصة، فبينما يدعو المسلمين إلى التفاعل الخلاق مع الأولى ينظر إلى الأخيرة على أنها"فرض هيمنة سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية من الولاياتالمتحدة الأميركية على العالم، وخصوصاً عالم الشرق والعالم الثالث، وبالأخص العالم الإسلامي". لكن القرضاوي يبدو أكثر واقعية من حسان، حين يشدد على ضرورة أن يتفاعل الخطاب الديني مع عصر العولمة من دون أن يغفل الجوانب المحلية والإقليمية، وذلك لسببين، أولهما: أن هذه هي طبيعة الدعوة الإسلامية، فهي ليست دعوة عربية، ولا دعوة شرقية، وليست دعوة عرقية ولا إقليمية بحال، بل هي دعوة للعالمين. وثانيهما أن العزلة الآن لم تعد ممكنة، ولم يعد في إمكان عالم أو داعية أن يغلق أبواب مسجده أو معهده على نفسه، وعلى مصليه أو تلاميذه ويقول لهم ما يود أن يقوله من دون أن يسمع به أحد، فقد تقارب العالم وصار"قرية صغرى". وعموماً يضع القرضاوي تصوراً رحباً لما يجب أن يكون عليه الخطاب الإسلامي في زمن العولمة، بما يجعله قادراً على الوصول إلى الناس، بإقناع عقولهم واستمالة قلوبهم. ويجمل خصائص هذا الخطاب في خمس عشرة نقطة هي: يؤمن بالله ولا يكفر بالإنسان - يؤمن بالوحي ولا يغيب العقل - يدعو إلى الروحانية ولا يهمل المادية - يعني بالعبادات الشعائرية ولا يغفل القيم الأخلاقية - يدعو إلى الاعتزاز بالعقيدة وإلى إشاعة التسامح والحب - يغري بالمثال ولا يتجاهل الواقع - يدعو إلى الجد والاستقامة ولا ينسى اللهو والترويح - يتبنى العالمية ولا يغفل المحلية - يحرص على المعاصرة ويتمسك بالأصالة - يستشرف المستقبل ولا يتنكر للماضي - يتبنى التيسير في الفتوى والتبشير في الدعوة - يدعو إلى الاجتهاد ولا يتعدى الثوابت - ينكر الإرهاب الممنوع ويؤيد الجهاد المشروع - ينصف المرأة ولا يجور على الرجل - يصون حقوق الأقلية ولا يحيف على الأكثرية. وبالنسبة لتأثير العولمة في الخصوصية الثقافية يرى القرضاوي أن أميركا تريد فرض ثقافتها الخاصة التي تقوم على فلسفة المادية والنفعية وتبرير الحرية إلى حد الإباحية، وتستخدم أجهزة الأممالمتحدة لتمرير ذلك في المؤتمرات العالمية". ويقدم القرضاوي أدلة تبرهن على احترام الإسلام للخصوصيات الثقافية والاجتماعية، فيؤكد أن الإسلام يعترف باختلاف الأمم، وحقها في البقاء، حتى لو كانت أمة من الحيوانات، فما بالنا بأمم من البشر. كما لا ينسي الخطاب الإسلامي البعد المحلي، فالأقربون أولى بالمعروف والشفعة. ويصل تفاعل القرضاوي مع العطاء الفكري والحضاري للآخر ذروته في الجوانب السياسية والحقوقية، فيقول: لقد انتهى حصاد تجارب إنسانية من مختلف الإعصار ومختلف البيئات، تتمثل في"ضمانات"أساسية لحماية حق الشعوب ضد طغيان الحكام وأهوائهم، مثل المجالس النيابية، وما لها من حق مراقبة الحكومة ومحاسبتها، بل إسقاطها، ومثل الدساتير، التي تحدد علاقة الحاكم بالمحكوم، وتصون حريات الأفراد، وتحد من طغيان السلطات الحاكمة، ومثل حرية الصحافة، وتعدد الأحزاب، وتكوين النقابات، وحق الإضراب. ويجب علينا - نحن المسلمين - أن نعض بالنواجذ على هذه الضمانات، التي كسبتها الإنسانية بالجهاد الطويل مع الفراعنة والجبابرة والطغاة، وأن نعتبر الحفاظ على هذه الضمانات والمكاسب فرضاً دينياً، لا يجوز التفريط فيه، لأن العدل والشورى والنصيحة، وأداء الأمانات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التي أوجبها الإسلام لا تتم إلا بها، وما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب". ولا يختلف جمال البنا عن سابقيه في نظرته للعولمة، إذ يرى فيها آخر صيحة أو مدى وصل إليه النظام الرأسمالي، كان فصلها الأول هو الغزو العسكري لنهب موارد المستعمرات، وفصلها الثاني هو الشراكة في إقامة المؤسسات الصناعية والتجارية بين الطرفين، أما الثالث فهو العولمة"التي جندت ثلاثة فيالق لا يمكن لأي دولة أن تقف أمامها وهي اختراق البورصات والانتقال المفتوح لرؤوس الأموال، وغزو السلع والمنتجات أسواق العالم في ظل الغات وبنود منظمة التجارة العالمية، والإعلام المعتمد على الأقمار الاصطناعية، والذي يقوم بالغزو الفكري والنفسي لفلسفة العولمة، بحيث يمكن في النهاية أن يأكل العالم كله الهامبورغر، ويشرب الكوكاكولا، ويلبس الجينز، ويشاهد الأفلام الأميركية". لكن البنا لم يقع في فخ التشاؤم حيال العولمة على غرار ما جرى لحسان، ولم يخف منها بالقدر الذي يخيف القرضاوي، إنما يؤكد"أن كل الأديان والنظم عجزت عن توحيد العالم كله، وأن قوى الدين واللغة والتراث والخصائص ستقف أمام طوفان العولمة، بحيث لا يمكن الاستحواذ على الإنسان الأفريقي أو الآسيوي، وبوجه خاص الإنسان المسلم، الذي يقدم له الإسلام أكبر حصانة من الإذابة". ويتفاعل الخطاب الفكري لدعوة الإحياء الإسلامي التي أطلقها جمال البنا مع كثير من الأفكار التي أنتجها الغرب، فيؤكد أن الدور الذي قامت به الاشتراكية في التاريخ الإنساني لا يمكن إغفاله، ويتوقع أن يكون لها جولة أخرى، لأن وجودها أمر جدلي بالنسبة للرأسمالية. وينطبق المسار نفسه في نظره على القومية التي رزقت عوامل مواتية جعلتها تشغل الساحة، وتظفر في بعض الحالات بالصدارة. أما العلمانية فيدعو البنا إلى التصالح معها، ولا يرى أي تعارض بين العلمانية والإسلام في بعض الجوانب، ويؤكد أنها إن اختلفت مع الإسلام في أمور، لكن تظل لها أهمية حتى لا يطغى التدين الأخروي على التدين الدنيوي. لكن البنا لا يرى في أي من المذاهب الثلاثة بديلاً عن الإسلام، ف"الأديان أغنى وأثرى من أي فكر إنساني"، ويرد القومية والاشتراكية والعلمانية إلى أصلها الأوروبي، ويرى فيها نبتاً لأرض غير أرضنا، لكنه يدعو إلى أن"نستوعب بعض دروسها التي تتلاءم معنا، ونعكف عليها لتعربيها". ويتعمق البنا في تفاعله مع العطاء الفكري والثقافي للآخرين فيقول:"نحن من دعاة إحكام اللغات الأجنبية والإطلاع على الثقافة الأوروبية، ولكن هناك فرقاً بين أن نحكمها لحساب ثقافتنا الخاصة، وبين أن نحكمها على حساب ثقافتنا الخاصة. والمفروض أن نلم بكل الثقافات والمعارف، لأنها جزء من الحكمة التي هي هدفنا، والتي تدخل في مكونات الإسلام". ويجعل البنا من"الحكمة"التي تقوم في جزء منها على اقتباس المفيد من ثقافة الغير، مصدراً من مصادر الفقه، علاوة على أنها في نظره"أصل من أصول الإسلام"، ويعيب على الفقهاء إهمالهم لها. ويتبنى البنا تعريفاً للحكمة مفاده أنها"العقل والعلم والفهم وإدراك روح الإسلام ومقاصده وقيمه"، ليدعونا إلى أن"ننهل من كل معين لحكمة، من علوم وفلسفة وآداب وفنون دون حرج ... فلا يكون هناك احتكار للمعارف ولا سدود قائمة تحول دون الإفادة من ذخائر الحضارة الإنسانية"، ويقول:"ثورة المعرفة في العصر الحديث وتدفقها من أربعة أركان العالم، ووصولها عبر المطابع والقنوات الفضائية والإنترنت وخدمات التصنيف، وضع تحت أيدي البحاث كل كنوز العالم القديم، وكل مستجدات العصر الحديث، بحيث أصبح الكتاب أي القرآن يمثل دليل العمل والإطار العريض للخطوط الرئيسية، أما ما يملأ الحياة فهي هذه العلوم والفنون والمعارف التي تتدفق فيما يشبه الفيضان من كل الدول المتقدمة، وأصبحت رمز ثروة وقوة العصر الحديث"، الذي يدعو البنا إلى الانخراط فيه والتفاعل معه. * كاتب مصري