اقتصرت أغلب المقاربات التي أنجزت خلال العقود الثلاثة الأخيرة بالنظر إلى الآخر من مستوى سياسيّ أيديولوجيّ"في حين انطلق الجابري في مقاربته لعلائق الإسلام والغرب من الفلسفة عبر تحليل مسألة"الغيرية"و"الوعي بالآخر"، ومناقشة"المسألة الثقافية"بين العالمين، وصولاً إلى تحديد جملة من الصعوبات التي تحول دون إنجاز الحوار بين كلا الجانبين. والواقع أننا في حالة الجابري بالذات نجد أنفسنا إزاء مثقف موسوعي يمتلك نسقاً فكرياً خاصاً به بحيث يسهل بالنسبة لقارئه تعقب جذور المسألة لديه وتطورها، فيما تبقى معالجة الآخرين للقضية رهناً بمناسبة ثقافية ما ? عادة ما تكون المقالات المنشورة عبارة عن ورقة شارك بها كاتبها في ندوة أو مؤتمر، أو جزءاً من كتاب، أو فصلاً من أطروحة جامعية قيد الإعداد...إلخ- ما يمنح إسهاماته قدراً كبيراً من الأهمية، بخاصة ما يتعلق منها بتفكيك مقولة"الإسلام والغرب"بصورة فلسفية متميزة. والحال أن العقود الأخيرة من القرن الماضي - منذ اندلاع الثورة الإيرانية بصفة خاصة - عرفت اهتماماً متزايداً بموضوع الإسلام والغرب. وقد بدأ هذا الأمر في أوروبا وأميركا أكثر منه في البلاد العربية والإسلامية حيث عقدت، إلى جانب ما ينشر في كبريات الصحف والمجلات بمختلف اللغات الأوروبية، العديد من الندوات وورش العمل والمؤتمرات. ثم تطور الأمر بعد ذلك وتوسع الكلام في هذا الموضوع ليندرج أخيراً تحت ما أسماه هانتنغون ب"صراع الحضارات"، وهو الصراع الذي يتركز عنده على محور"الغرب والإسلام"، بحيث يجعل منه الصراع الرئيس الذي سيسود - بحسب زعمه - في المستقبل المنظور. وعند هذا الحد - أي في إطار محاولة الجابري القيام بنوع من التفكيك لعبارة"الإسلام والغرب"- تستلفته ملاحظتان مهمتان: الملاحظة الأولى: مفادها أنّ التقابل الذي يُراد تضمينه لهذه العبارة غير مبرر ولا مشروع، ابتداءً. لأن الأمر يتعلق هنا بمقولتين مختلفتين في"الطبيعة"، بحيث لا تقوم بينهما علاقة تقابل أصلاً: فالغرب مقولة جغرافية، والإسلام دين. والتقابل إنما يكون بين المختلفات التي تندرج تحت جنس واحد ك"الشرق والغرب"، و"المسيحية والإسلام"، ومع أنّ هذه الحقيقة تبدو كما لو كانت أقرب إلى البديهية"فإن أحداً لا يشعر اليوم ? في بلاد الغرب كما في بلاد الإسلام- بوجود مفارقة عند الجمع في الخطاب الواحد بين هاتين المفردتين"الغرب"و"الإسلام"، وهو ما يرده البعض إلى كثرة التكرار الذي يعمل في العادة على التخفيف من حدة الأشياء، المادية والمعنوية على السواء، بحيث يجعلها من المألوف اليومي الذي لا يثير تساؤلاً ولا نقاشاً. على أن الجابري لا يكتفي بذكر التبرير أو الذريعة السابقة وإنما يتبناها من حيث المبدأ ثم يحورها لتصب في اتجاه آخر ? وفي ذلك تكمن عبقريته - حيث يقول:"إذاً، الأمر يتعلق بتكرار من نوع آخر: تكرار المخاوف والرغبات بفعل مؤثرات ودوافع تَجِدُ مصدرها في قراءة معينة لأحداث معينة، قراءة المتشابه من الحوادث بواسطة أفكار يتلقاها الناس خلفاً عن سلف، أو بتوجيهٍ من أحكام مُسَّبَقة". والواقع"أن التقابل الذي يتم في تلك الصيغة ما بين مفهومين غير متكافئين- نظرياً على الأقل- يجعل منها صيغة غير محايدة تماماً، ليس فقط لأنه تقابل بين مفهوم يحيل إلى عقيدة إلى الإسلام باعتباره ديانة تعلن أنها تصحح وتتدارك نواقص الديانات الأخرى ومفهوم يشير إلى فضاء جغرافي مشحون بدلالة حضارية تستند إلى التراث الإغريقيّ الرومانيّ المسيحيّ، ثم تراث النهضة الأوروبية بمختلف مكتسباتها. أما الملاحظة الثانية"فتتعلق بأنّ المقولتين كلتيهما الغرب والإسلام، تخضعان عند وضعهما متقابلتين لوحدة أيديولوجية تخفي [في داخل كل واحدة منهما] النسبية والتعدد على صعيد الماهية. فلا الغرب واحداً بطبيعة الحال، ولا الإسلام كذلك أعني في تجليه الثقافي وتوزعه الجعرافي، ومن ثم فالتعدد يفرض نفسه على المقولتين على رغم التعميم الأيديولوجي الذي يطالهما بهدف إبراز علاقة التقابل بينهما كعلاقة مقبولة ابتداءً. ويخلص الجابري من خلال استعراضه لمعنى كلمة"إسلام"في القواميس الغربية إلى أنها تنصرف إلى ثلاثة أمور رئيسية هي: الدين الإسلامي"والبلدان والشعوب الإسلامية"والحضارة الإسلامية، مؤكداً أن القواميس الغربية لم تستق تلك المعاني من نظيرتها العربية الإسلامية"فهي خالية من هذا التعدد ولا تعرِّف الإسلام إلا بكونه الدين المعروف بهذا الاسم، وإنما تشير تلك المعاني الغربية للإسلام إلى"أطراف"وُضعت ليكون كل منها كالمقابل لأحد المعاني التي تحملها كلمة"الغرب"في المرجعية الأوروبية. وهكذا فالغرب مسيحي والإسلام دين إسلامي، والغرب أقطار وشعوب، والإسلام أقطار وشعوب كذلك، والغرب حضارة، والإسلام حضارة كذلك. بمعنى أن الإسلام هنا هو الآخر/المرآة التي يرى فيه الغرب ذاته! ومن ثم يُسقط عليه تعدديته وتقسيماته ويجعل منه الآخرَ لكل وجه من وجوهه: فالإسلام آخر على مستوى الديانة"وعلى مستوى البلدان والشعوب، وعلى مستوى الحضارة كذلك! وهكذا يتحدد الإسلام في مرجعية الغرب، لا بما هو نفسه، بل بما هو آخر للغرب ذاته في ضرب من التقابل الذي به تتحد العلاقة بين"الأنا"و"الآخر"، معبراً عن"الغيرية الضدية". أما في الحقل البياني العربي فلا تفيد عبارة"الإسلام والغرب"شيئاً آخر غير ما تفيده عبارات:"المسلمون والنصارى"،"المسلمون واليهود"، أو"الإيمان والكفر"...إلخ. أي كعلاقة تشابه أو اختلاف بين شيئين من أشياء العالم وليس كعلاقة بين"الأنا/الإسلام"و"الآخر/ الغرب". بقيت هنالك نقطة أخيرة تتعلق بمركزية الأنا الغربية ورؤيتها للأخر في إطار من التضاد والتناحر. ذلك أن الآخر يتم تعريفه في قواميس الفكر الأوروبي ومصطلحاته الفلسفية باعتباره مقابلاً للذات Le Mگme أو الأنا التي لا معنى لها سوى أنها المقابل ل"الآخر"Autre. وبالتالي فإن ما يؤسس مفهوم"الغيرية"Altگritگ في الفكر الأوروبي ليس مطلق الاختلاف، كما هي الحال في الفكر العربي، بل إنها مقولة رئيسية تؤسسها فكرة"السلب"، أو النفي La Nگgation، حيث"الأنا"لا يفهم إلا بوصفه سلباً، أو نفياً، للآخر!! وإذا كان الغرب ينطلق في تصوره ل"الأنا"كمبدأ للسيطرة، بحيث يتحدد موقع"الآخر"بالنسبة له كهدف للسيطرة، أو باعتباره عدواً، أو بوصفه قنطرة للتعرف على الذات من خلاله - بحسب مقولة سارتر:"أنا في حاجة إلى توسط الآخر لأكون ما أنا عليه [بالفعل]"-"فإن الكيفية التي يعي بها الفكر الأوروبي المعاصر العلاقة بين الإسلام والغرب يمكن الوقوف عليها من خلال مقالة للباحث الاجتماعي الفرنسي المعاصر بيرتراند بادي جاء فيها: "إننا نتحدث دائماً عن الآخر، خصوصاً عندما لا نحبه [ومن ثم نعتبره عدواً لنا]، أو عندما نخافه [ربما لأنه يعتبرنا أعداء له]، أو عندما يكون فاتناً ساحراً. ... والغيرية من هذه الزاوية يمكن اعتبارها"غيرية متخيلة"أو وهمية. وهذا التعريف ل"الآخر"يخلق وضعيات مصطنعة من التوترات والنزاعات، كما يخلق في الوقت نفسه مناسبات تُستغلُ [سياسياً واجتماعياً واقتصادياً] لتأكيد الذات وتبرير التصرفات [العنصرية إزاء الآخر] وفرض الإرادة [السياسية: مَن ليس معنا فهو ضدنا!!]، أو الظهور بمظهر الضحية [ذرائع الحرب على الإرهاب نموذجاً!]، ففي هذا المستوى من التحليل يمكن الحديث بكل اطمئنان عن غيرية استراتيجية. غير أن هذه الأخيرة التي تشيدها تمثلات وافتراضات ومصالح لا يمكن النظر إليها مع ذلك كغيرية مخترعة ابتداءً، ذلك أنها تتغذى من قراءة لتاريخ عُزِلَ بصورة تعسفية عن تواريخ أخرى... وبالتالي يمكن النظر إليها بوصفها غيرية منهجية". ويخلص الجابري إلى أن هذه الأنماط الثلاثة من الوعي بالآخر موجودة في القرآن ذاته! حيث ينطلق موقف القرآن من النصارى ? بحسبه- من الاعتراف بهم، لا ك"آخر"بالمعنى الأوروبيّ للكلمة، وإنما كواحد من"آخرين"يَعترف بهم كأهل دين، وهم جميعاً ? بما في ذلك الإسلام ذاته الأنا- متساوون أمام الله. يقول تعالى:"إن الذين آمنوا [المسلمون] والذين هادوا [اليهود] والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون"البقرة: 62. ويُطلق الجابري على هذا الموقف اسم"الغيرية الإيجابية"الذي اعتبر فيه القرآن النصارى أقرب مودة إلى المسلمين من اليهود والمشركين بحسب الآية الكريمة:"لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون"المائدة: 82. وفي القرآن ضرب آخر من الغيرية أشبه بالغيرية النهجية ظهرت حين برزت الحاجة إلى تحديد الهوية وهي تؤكد الانفصال والاختلاف الماهوي، كما في قوله تعالى:"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين"المائدة: 51. وأخيراً تأتي سورة التوبة لتقرر"غيرية"أخرى إزاء أصناف"الآخر"التي تعاملت معاً: إزاء المشركين من قريش، الذين كانت تربطهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم معاهدات نقضوها، وإزاء اليهود والنصارى الذين صاروا خصوماً معلنين: إنها"غيرية البراءة"، وهي غيرية استراتيجية لا لبس فيها وقد عبّر عنها القرآن الكريم في غير ما آية من السورة المذكورة، ومن ذلك قوله تعالى:"وقالت اليهود عُزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون..."التوبة: 30-33. وهنا يتساءل الجابري: هل تعود تلك الازدواجية إلى طبيعة الوعي ذاته، أم إلى موضوعه؟ ليصل إلى نتيجة مفادها أن الأمر يتعلق قبل كل شيء وبعد كل شيء بغالب يمارس الغلبة، وبمغلوب ينتفض ضدها. وإذا كان هذا الانتفاض يُمارَس بطرق ووسائل لاعقلانية، فلأن غلبة الغرب الاستعمارية كانت دوماً غير عقلانية، فضلاً عن أنها تمت وتتم بوسائل غير أخلاقية! * كاتب مصري