كيف يمكن أن يتحدد الآخر - والآخر هنا هو الغرب بشكل عام - بالنسبة لفقيه مغربي، سواء تشبع بثقافة صوفية أو حرّكته نزعة إصلاحية أو حفّزه هاجس الكتابة؟ ما هي العناصر التي يستند اليها وعي هذا الرجل أو لا وعيه في طريقة ادراكه للاختلاف الديني والثقافي؟ للاقتراب من هذه الأسئلة نود التوقف قليلاً عند التصور الإسلامي العام للآخر أولاً، ثم نستعرض بعض ما ينفلت من خطاب ابن الموقت المراكشي عن أوروبا والمدنية الغربية ثانياً. تتكىء مرجعيات النظر العربي الإسلامي للآخر، أولاً وقبل كل شيء، على قاعدة دينية تأسيسية. فالدين عند المسلم، سواء كان فقيهاً أو متكلماً هو الذي يمنح المعنى للأشياء، للظواهر وللآخرين. لذلك فإن البحث عن ملامح الاخر يفترض العودة، بكيفية ما، الى النص المرجعي الذي يزوّد النظر ببعض عناصر الإدراك والوعي أو يطعّم المتخيّل بما يحتاج اليه من صور وأشكال ورموز. وما دام الإسلام يحمل تصوراً للعالم وللإنسان، وما دام النص القرآني يمثل تكثيفاً للكلام الرباني وتعبيراً عن تجليات المقدس، فإنه يشكل مصدراً للرؤية وقاعدة معيارية للجماعة، وذلك ما يظهر في الاستشهادات القرآنية المتكررة في نصوص ابن الموقت. وهكذا إذا كان الآخر، باعتباره مختلفاً دينياً أو ثقافياً، يشكل أفقاً للذات، وأحياناً جزءاً من النظرة الى الذات، فإنه يغدو حاضراً، بكيفية وجودية، في المجال العام للوعي. وتتقدم "ذاتية" المسلم في التصور القرآني بوصفه انساناً يمتلك وعياً خاصاً بهويته وبالآخرين، سيما وان الذاتية الإسلامية تتحدد بالنفي نظراً للعلاقة الضدية التي تأسست بين المشروع الإسلامي والواقع الفسيفسائي على الإصعدة الاجتماعية والعقائدية. ولأن الدعوة تحركت، منذ البداية، ضمن مناخ مناوىء وعدائي، فإن ذلك انعكس على أسلوب النظر الى الآخرين، وهذا ما جرى مع اليهود والنصارى والجماعات الأخرى. واعتباراً للاختلاف المبدئي الذي قام بين المشروع الإسلامي واليهود، والصراع الوجودي العنيف الذي تمخض عنه، بدأت الصور السلبية تتشكل وتعبّر عن نفسها. فاليهود لا يمكن الاطمئنان الى صداقتهم او الى أقوالهم، والجشع المميز لسلوكهم يجعلهم مشدودين الى الاعتبارات المصلحية المادية الآنية، يقدسون المال بكيفية تنسيهم ايمانهم، يتصرفون بغطرسة عدوانية بدعوى الأفضلية التي منحها الله لهم، هذا في الوقت الذي يجسدون فيه أكثر أشكال الجبن، مما يدفعهم الى سلوك أساليب التآمر والغدر والخيانة. لا التزام لهم ولا عهد يمكن الدخول فيه معهم، لهم نزوع نحو بثّ الفوضى وخلق الفتن، فضلاً عن أنهم يتصرفون بوقاحة وبسفاهة نادرة. ويتضمن النص القرآني، في هذا السياق، عشرات الآيات التي تؤكد هذه الأحكام. في حين عبّر القرآن عن ادراك عميق لأهمية الانجيل ولصورة عيسى ومريم. فالمسيح نبي مؤيد بروح القدس، والنصارى اعلنوا عن مودة وتعاطف مثيرين. لكن الالتزام المشترك بالجذر التوحيدي يفترض، في نظر القرآن، التحرر من الإيمان بأن "الله هو المسيح ابن مريم". المهم هو ان اقامة الإسلام ل"نظام عالمي جديد"، وقتئذ، قد تمت من خلال اقصاء كل السلط التي كانت تزاحمه وتعاديه أو تهدده. وبقدر ما حدد رسالته عقائدياً، في سياق الدين التوحيدي أسّس، بالمقابل، كيانه ضد الآخرين سواء ب"التي هي أحسن" أو بالحزم الاضطراري. وفرض انتشار الواقعة الإسلامية، عبر مناطق وقارات مختلفة ومتنوعة الثقافات والاعتقادات، على الفضول العربي الإسلامي، في صيرورة التمدد والفتح، استحضار صور متعددة للآخر سواء من منظور اعتباره "ذمياً" يخضع لمنطق "دار الإسلام" أو نصرانياً ينفلت لإرادة القوة الإسلامية، أو "آخراً" تلفه كثير من مظاهر الغرابة. نظرة بروديل يرى "فرنان بروديل" ان الحضارات تتميز بخاصيتين أساسيتين، تتمثل الأولى في كون الحضارات تجسد وقائع ضمن حقب طويلة، والثانية في أنها تتجذر، بقوة، في فضائها الجغرافي بحيث تبرهن عن حضور في المكان والزمان ولا تخضع للحضارة الأقوى الا من حيث المظهر. لذلك تلعب الحرب ويلعب الحقد دوراً كبيراً في صنع الحضارات، في تغذيتها وفي تزويدها بعناصر الحياة. ومن منطلق فهمه لمعنى الحضارة اعتبر "بروديل" ان الإسلام مثّل "غرباً مضاداً"، وفرض ارادة جديدة للقوة على المسيحية الأوروبية حيث اتخذا من البحر المتوسط مجال مواجهتهما ومن الرموز رهان التعبئة ووسيلة لاستنفار المتخيل الجمعي. من هنا لعب المتخيل دوراً حاسماً في تشكيل النظرة المتبادلة الى الآخر، بكل ما يمكن لهذه الملكة الإنسانية الخاصة من انتاجه من صور وأحكام وخلقه من مشاعر وأحاسيس في سياق الاحتفال بشؤون الذات والاستخفاف من صور الغير. فالحضارة لا تقاس بما تنتجه من صنائع ومن عمران فحسب، بل بما تولده من صور وأحكام على الآخرين كذلك. للعوامل الاقتصادية والسياسية دور بارز، لكن للرأسمال العاطفي، أيضاً، وظيفة في صنع الحضارة أو في انحطاطها خصوصاً إذا تم شحن هذا الرأسمال بمكونات موقف ضدي من الآخر. ومهما كانت الأحوال والملابسات فإن الخطاب العربي الإسلامي عن الآخر يتقدم الينا في صيغ بالغة الالتباس والتوزع. وإذا ما استثنينا التصور القرآني للآخر الذي كان يكثف موقفاً محدداً في الزمان والمكان من الديانتين التوحيديتين اللتين كانتا، على الرغم من الانتماء السلالي العقدي المشترك، تتنافسان مع الإسلام، فإن الواقعة الإسلامية، بمختلف مراحلها السياسية والتاريخية، وبتنوع اجتهادات مثقفيها، لم تتمكن من تكوين نظرة محددة الملامح عن أوروبا اللاتينية. نعثر على صور مشتتة عن الرومي والافرنجي، وعلى أحكام عامة على الأوروبي النصراني، لكن المرء يشعر بخيبة ازاء النقص المثير الذي يميّز الإدراك العربي الإسلامي للغرب اللاتيني. وسواء احترمنا التراث العقلاني أو استنطقنا مخزونات المتخيل، أو نظرنا اليهما في تفاعلهما وتشابكهما بخصوص النظر الى الآخر، فالمرء يندهش من الخصاص المثير في استحضار الآخر الأوروبي اللاتيني، ومن هلامية الصور التي عمل البعض على تقديمها عنه، سواء من المؤرخين أو الجغرافيين أو الرحالة أو الكتّاب أو الفقهاء. والظاهر ان الفكر العربي الحديث ما زال يتأرجح في المجهودات التي تبذل قصد فهم الآخر. صحيح أن المرء يواجه أسئلة من نمط مختلف، لكن للمتخيل قدرة خارقة على تخطّي الأزمنة وتكسير الحدود. فسؤال الآخر، كما يتجلّى في ارادة القوة الغربية منذ حملة نابوليون على مصر سنة 1798 الى الآن، لم يعد سؤالاً خارجياً بقدر ما أصبح هاجساً مركزياً في الثقافة العربية الحديثة، بل وعاملاً مولداً للأسئلة الكبرى التي تطرحها على ذاتها ووجودها وماضيها ومستقبلها. هل تمكّن الفكر العربي الحديث والمعاصر من صياغة تصور محدد الملامح واضح الصور للغرب، باعتباره اخراً يمثل ارادة جارفة للقوة وجموحاً غير منقطع لمعرفة الآخر؟ ما السر الذي يدفع الغرب لاتخاذ المعرفة هاجساً دائماً ومن الفهم قضية كبرى لترتيب شروط التدخل والفعل، في حين ان العالم العربي يركن الى نوع من التعالي أو الى ردود افعال اما بالالتجاء الى التبرير، في الماضي والحاضر، أو الهروب من مواجهة الواقع؟ يصعب تفادي أسئلة من هذا النمط ونحن نود الاقتراب من موقف فقيه مغربي من الآخر في الثلاثينات من هذا القرن، ارتبط ذهنياً ووجدانياً بالمرجعية القرآنية وبالمصادر التأسيسية للنظر الإسلامي للآخر، وجعل منها الأفق الوحيد للرؤية وللحكم. هاجس نهضوي تندرج كتابة ابن الموقت في "الرحلة المراكشية" و"اصحاب السفينة" ضمن هاجس نهضوي بارز، وهو هاجس "ملتبس" في منطلقاته ومضامينه. فهو إذ يعبّر عن ادراك حاد بالفرق بين الوضع المغربي ومكتسبات المدنية الأوروبية، ينظر الى الواقع من منظور أقرب الى "الافتراضية" منها الى الواقعية. فالواقع لا يتقدم كموضوع في واقعيته وإنما كمجال لإسقاط نظرة معيارية مشدودة الى مرجعية قدسية أو الى نظرة مقارنة فيها درجة عالية من التعسف. يفهم الرجل، بحكم التدخل العنيف للآخر في الواقع وفي الذات، ان هناك انقلاباً في النظر، سببه التخلّي عما هو إيجابي في الذات واستنساخ ما هو سطحي لدى الآخر. يقول "وقد رأيت من عجيب انقلاب المدارك في هذه الأمة الإسلامية اليائسة انها تحرص على العادات الضارة وتحافظ عليها لدرجة التهالك، أما الأخلاق الكريمة التي يخرج ينبوعها من معين الشرع الصحيح، فهي لا تحافظ عليها الا كما يحافظ الغربال على الماء، وقد صار شأنها كذلك فيما تنقله عن الأمم الغربية من العادات، تراها من سفساف الأمور مما تلده المدنية الكاذبة اسرع التقاطاً من آلة التصوير، فإذا حملت على تقليد النافع من العادات مشت اليه مشي السلحفاة". يبرز ابن الموقت وعياً حاداً بالفارق بين النموذج المرجعي الذي حمله في ذهنه ووجدانه وبين الواقع الإسلامي من جهة وبين هذا الواقع، كما يتراءى له، ومظاهر حضور الآخر فيه من جهة ثانية. وهو في هذه الحالة لا يخرج عن التراث النهضوي العربي الإسلامي الحديث في فهمه لجدلية الانحطاط والنهضة. فالشقاء السائد يعود الى انفصال مزدوج عن المرجعية السلفية في تجلياتها المطلقة والمتخيلة، وعن الحضارة الإنسانية في تعبيراتها الإيجابية المتقدمة. والسبب، عنده، راجع الى خصاص بنيوي في الوعي والى نزعة ذاتية تدميرية، إذ "تضافر الكثير، وتضامن جم غفير من أبناء الملة الإسلامية على خراب بيوتهم بأيديهم وأيدي غيرهم... فتراهم الآن ويا للأسف! يفعلون في أنفسهم بأنفسهم ما لا يستطيع أن يفعله فيهم عدوّهم ولو حاول دهراً طويلاً". وهو وان حمّل المسؤولية الكبرى للمسلمين، وانتقص من قدرة الآخر على فعل ما فعله المسلمون بذواتهم، فإنه يقر، مع ذلك بتحكم الآخر فيهم. لكن محاكمة ابن الموقت للمسلمين تبقى ثابتة ومسؤوليتهم اكيدة فيما وصلت اليه أوضاعهم من سوء وجمود وانحطاط، بل انهم "أموات غير أحياء، وهم في وجودهم كالعدم". الانحطاط والجمود، الموت والعدم، الخذلان والتواكل، التقاعد وقصر النظر، التخبط والجهل، العسف والذل... الخ قاموس غني من الصفات السلبية التي لا يكف ابن الموقت عن اطلاقه على المسلمين، وهو في استنكاره لواقعهم لا يخرج، من حيث الاطار العام الذي يحكم تفكيره، عن انتفاضة الوعي لدى النهضويين المسلمين، ولا سيما السلفيين منهم. ففي بعض فقرات "الرحلة المراكشية" يشعر القارىء بتشابه مثير في آليات المقارنة بين المسلمين والأوروبيين عند محمد عبده وابن الموقت، وفي اعتبارهما ان صفات النظام والرقي والعقلانية والاستقامة والتعاون والعمل... إلخ التي يتقدم بها الأوروبيون الى العالم تمثل التجسيد العملي للتعاليم الإسلامية. فابن الموقت يقول عن فرنسا: "كنا نرى ونسمع في التاريخ وهو الأستاذ الخبير عن الدولة الفرنسية انها بلغت من التقدم والحضارة ما هو مشهور حتى فاقت جميع الدول الأوروبية، وكان سبب ذلك انها لا تختار للمناصب السنّية، والوظائف الجلية، الا الرجال الأكفاء، ذوي الخبرة والاطلاع، والنزاهة عن الاطماع، وبذلك امكنها ان تعيش عيشة راضية كما تشاء، وتحيا حياة سعيدة مثل ما تريد، لا سيما وان أكثر قوانينها موافقة للشريعة الإسلامية، وكان من لوازم رجالها المذكورين الوقوف مع القوانين والسير بسيرها بحيث لا تتعداها ولو بقلامة ظفر، إذ وقوفها مع القوانين يقتضي الاستقامة في الأمور كلها والاستقامة هي صلاح الذوات والدنيا، بل هي روحها". غير أن نص الرحلة تتفاوت فيه مستويات السرد وتختلف الأحكام والمواقف. فمن اسلوب حواري الى خطاب مقارن الى نداء درامي... إلخ، تتنوع أساليب الكتابة عنده تبعاً للشحنة الانفعالية التي تتحكم فيها وتتباين الأحكام أحياناً من الإيجابي الى السلبي على الآخر. وهكذا عن سؤال يتعلق برحلة الناس الى بلاد الافرنج يجيب ابن الموقت على لسان الشيخ عبدالهادي "كان عمل الناس في القديم انه لا تشد الرحال الا الى ثلاثة مساجد: مسجد المدينةالمنورة، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ثم صار عمل جل الناس اليوم على خلاف ذلك، فجعلوا كعبتهم أوروبا يقصدونها لأخذ علوم الفلسفة والطبيعة وعلوم الجدل، وفنون الغش وأنواع المكر والخداع، ويلقنون المذاهب المنافية لروح الإسلام ومدنيته، ويأتون ساخطين على الدين وأهله، ويعيبون على من تمسك بقواعد الدين الحنيف...". وبقدر ما تتفاوت مستويات السرد في كتابة ابن الموقت واتجاه أحكامه، تتنوع التسميات التي ينعت بها الآخر. فتارة يستعمل صيغة قرآنية من قبيل "أهل الكتاب"، ويستخدم تارة أخرى لفظة "الافرنج"، وهي لفظة ذات حمولة "اثنية"، ومرات أخرى يتحدث عن الدول الأوروبية أو المدنية الأوروبية، وحتى الحضارة الغربية... إلخ. وكثيراً ما تتداخل دلالات هذه التسميات في لفظة أو صيغة واحدة، كأن يتحدث عن "كثرة المناكر، ومشاركة الناس بعضهم بعضاً في ارتكاب الكبائر، والتزيي بزي أهل الكتاب في الظواهر والسرائر، أو ان يدعو المسلمين لتجنب أطعمة أهل الكتاب "لأنهم أهل الغش والخديعة والعداوة البالغة" وينعتهم بالكفر ويدعو المسلمين الى الابتعاد عن مجال تأثيرهم أو التعامل معهم، لأنه يجب "على كل مؤمن ان يستحضر بغض كل كافر لنبينا ومولانا محمد صلعم، ويستحضر عظيم عداوتهم لنا، وطعنهم علينا في ديننا، وان كل كافر منهم ولي الشيطان اللعين العدو المبين، قد استحوذ عليه فأخذ بعقله ومجامع قلبه، وقاده من ناصيته حتى لا يتحرك بحركة، ولا يتكلم بكلمة إلا عن رأيه، فيرى كل مؤمن حيئذ بنور ايمانه ان كل يهودي او نصراني انما هو ابليس بعينه فيفرّ منه يدينه حتى لا يغتاله بقربه من حيث لا يشعر به". اذا كان ابن الموقت يمنح لأهل الكتاب من يهود ونصارى صفات شيطانية فإنه ينعت "أصحاب السبت"، أي اليهود ب"اخوان القردة"، ورأى ان التشبه بأهل الكتاب "ضلال فاحش، وتشبه متفاحش وطريقة محرومة، ومتابعة مذمومة". لذلك يتعيّن تجنب كل ما يحيل على نماذجهم، كيفما كانت تعبيراتها ومجال تطبيقها. فتقليدهم مرفوض ويستحق الذم والاستنكار، في كل شيء، وابن الموقت إذ يؤكد على ذم تقليد الافرنج، وباستعمال قاموس درامي بل وتهديدي حتى، فلأنه استشعر خطورة الاختراق الذي مارسته النماذج الأوروبية في نمط حياة المسلمين. فهو يرى ان كثيرين "سرقت قلوبهم بفتنها مدنية الغربيين فغيّروا الميزة الإسلامية واختاروا عوضاً عنها الميزة الكفرية" بل انهم "تهافتوا على هذه الحضارة الغربية فتفرنجوا وأسرفوا في التفرنج والاندماج، حتى غمر التفرنج والاندماج منهم كل شيء وحتى لا تبقى عليهم سمة من سمات الإسلام، ولا بقي ما يصح أن يتسمّوا به مسلمين". يعبّر ابن الموقت عن وعي ضدي حاد بالآخر، وعن نزعة استبعادية لافتة، فإدراكه العميق بالتحدي الثقافي والحضاري الذي فرضته الحالة الأوروبية على الإسلام جعله يركن الى موقف رافض لصور الآخر، كيفما كانت طبيعتها ومضامينها وأبعادها، فأهل الكتاب والافرنج والمدنية الغربية كلها تنويعات، بالنسبة اليه، لتسمية واحدة تحيل على الكفر والخداع والخيانة والمكر والخسة والانحلال، ولا مجال للتعايش أو التفاعل مع هذا الآخر الذي لا يمكن أن يستحق، بالنسبة لهذا الفقيه المغربي، سوى الاقصاء، لا فرق عنده بين الذمي والكافر أو بين النصرانية العربية والمسيحية الأوروبية، بل ولا يستحضر هذا الفرق نهائياً في ثنايا كتابته. يختزل الآخر مثل الكفر، وما يفترضه من صفات مرفوضة، ويصب جام غضبه على أهل وقته بسبب جمودهم وانحطاطهم وبسبب تشبههم وتقليدهم للافرنج. فالعودة الى السلف هي مصدر الحقيقة وأفق الرؤية، أما ما يتقدم الى مجال الادراك فلا يستحق سوى التجنب والاستنكار. لا الواقع يلتقط في واقعيته ولا الاخر في موضوعيته، حتى بالقياس الى المرجعية الإسلامية نفسها. وفي الأول والأخير لا مجال للتواصل، بل موقف تراجيدي من الذات ومن الواقع ومن الآخر. * باحث مغربي.