هل هناك قاسم مشترك ما، بين جنازة جون كنيدي، في واشنطن، وجنازة ليونيد بريجنيف في موسكو، بعد ذلك بنحو ربع قرن؟ أجل... الموسيقى التي عزفت في الجنازتين، أو بتحديد أدق: المارش الجنائزي الذي عزف، وهو مارش فردريك شوبان الذي يشكل، أصلاً، الحركة الثالثة في السوناتا الثانية للبيانو، من مؤلفات فنان بولندا الأشهر. ونعرف طبعاً أن مارش شوبان الجنائزي هذا كان يعزف في كل جنازات الزعماء السوفيات، لكنه في أميركا، ارتبط في شكل أساسي بجنازة كنيدي، الذي كان - بحسب ما قال البعض لاحقاً - يفضله على أي لحن جنائزي آخر، من دون أن يدري طبعاً، أنه سيعزف باكراً في جنازته. مهما يكن فإن هذا المارش يعتبر الأشهر في الموسيقى الكلاسيكية، ولا سيما منذ أعاد الموسيقي وقائد الأوركسترا الانكليزي السير ادوارد الغار الاشتغال عليه لتحويله عملاً أوركسترالياً كاملاً، عام 1939، ومختلفاً الى حد كبير عن الشكل الذي عزف به يوم دفن شوبان نفسه في مقبرة"الأب لاشيز"الباريسية قبل ذلك بزمن طويل. كما قلنا، يشكل هذا"المارش الجنائزي"جزءاً فقط من سوناتا شوبان المذكورة، بيد أن الذي حدث هو أن شهرة المارش طغت على شهرة السوناتا بحيث صارت كلها تعرف به وباسمه. ومعروف في تاريخ الموسيقى ان شوبان ألف هذا المارش، قبل زمن من كتابته لأجزاء السوناتا الباقية، حين كان يقيم في بلدة نوهان بالقرب من شاتورو في فرنسا. غير أن ما هو معروف أقل، كان أن تأليف شوبان للمارش أتى منطلقاً من مزحة ركّبها صديق له ذات يوم عاصف فيما كان شوبان والصديق ومجموعة من الفنانين الآخرين مجتمعين يشربون ويتمازحون. وهذا الصديق هو الرسام زييم، الذي حكى ذات يوم في مذكراته، حكاية المزحة... وبالتالي حكاية ولادة المارش. يقول هذا الرسام في حكايته أنه كان ذات مساء مجتمعاً مع شوبان وعدد من الأصدقاء في منزله... وكان المرح سيد الموقف في محترف الرسام، حيث كان ثمة ثلاث سجادات معلقة تقسم الغرفة الى ثلاثة أقسام. وفي واحد من هذه الأقسام كان ثمة هيكل عظمي"كنت اعتدت بين الحين والآخر أن أعلق عليه بعض الثياب... وكان هناك أيضاً بيانو، متواضع الى درجة أنه يبدو هو الآخر هيكلاً عظمياً بعد أن استخدمت ألواحه الخشبية لأرسم عليها بعد أن انتزعتها. وذات لحظة، إذ وجدت نفسي في هذا القسم من المحترف وحيداً مع صديقي ريكار، اتتني فكرة مزحة عملية وغرائبية. وهكذا حملت الهيكل العظمي وغطيته بأقمشة كان ريكار قد انتزعها من غطاء للبيانو، ورحت أحرك الهيكل من وراء السجادة أمام أنظار الأصدقاء الذين كانوا جالسين في قسم آخر من الغرفة. وراح الجميع يضحكون فيما نهض واحد من الرفاق وأجلس الهيكل العظمي أمام البيانو عازفاً بأصابعه بعض النوتات... وكان المنظر مدهشاً: هيكل عظمي لرجل يعزف على هيكل عظمي لبيانو. وفيما غرقنا بالضحك أمام هذا المشهد، نهض شوبان وقد بدا لنا أن الهاماً مفاجئاً قد استبد به، وتحرك نحو البيانو ليزيح الرفيق الجالس هناك والهيكل العظمي، وليبدأ بارتجال، عدد من النوتات التي سرعان ما كونت مارشاً جنائزياً... وفي وقت راح التأثر العميق يغلب علينا، كان صديقنا البولندي الكبير، ينجز ذلك الارتجال، الذي صار هو نفسه لاحقاً، المارش الجنائزي الأشهر في تاريخ الموسيقى، ضاماً اياه لاحقاً الى الحركات التي ألف معها السوناتا الثانية للبيانو...". هكذا إذاً، وبحسب حكاية زييم، ولد من فرحة ووسط ضحكات لا تتوقف ذات ليلة عابثة، ذلك اللحن الذي سيكون شوبان أول من يودع به الى مثواه الأخير، ثم سيصبح اللحن الذي يرافق جنازات الكبار. وهذه الحكاية رواها زييم عام 1850، أي بعد شهور من رحيل شوبان، ومن عزف المارش تحية له. أما بالنسبة الى السهرة التي يتحدث عنها الرجل فهي على الأرجح، كانت عام 1837... علماً بأن التاريخ الرسمي المسجل للسوناتا هو عام 1839، ما يعني أن تأليف المارش سبق ظهور السوناتا بعامين. أما السوناتا نفسها، والتي سرعان ما أعطاها المارش اسمه، فتتألف من أربع حركات، أولاها حركة مزدوجة"دوبيو موفمنتو"، والثانية"سكيرزو"فيما تتألف الثالثة من المارش الجنائزي، وحركته البطيئة، لتستعيد السوناتا سرعتها في الحركة الأخيرة. ولئن كانت الحركتان الأولى والثانية تتميزان بشاعرية طاغية تلي افتتاحية عاصفة. فإن الحركة الثالثة، تبدأ وتنتهي بالمارش الجنائزي، مع فاصل هادئ يفصل بين البداية والنهاية. ولئن كان بعض مؤرخي الموسيقى ينقلون عن شوبان قوله ان لديه احساساً بأن ثمة تحاوراً موسيقياً، بين أداء اليد اليمنى وأداء اليد اليسرى، يظهر كالهمس بعد انتهاء المارش، فإن ثمة آخرين يلاحظون عادة ان الحركة الرابعة تبدو أشبه بريح تدور، بعد الدفن من حول حجارة القبر. وإذا كانت هذه السوناتا قد أثارت اعجاباً دائماً، فإن الأمر لم يخل من نقاد أعلنوا انها غير متماسكة بين حركاتها الأربع... أما روبرت شومان فقد قال عنها انها تبدو وكأن شوبان قد ألصق فيها كيفما اتفق أربع مقطوعات غير متجانسة. غير أن نقاداً أكثر دقة وجدية، أشاروا دائماً الى أن ثمة في افتتاحية هذه السوناتا ما يحيل الى سوناتا بيتهوفن للبيانو الحاملة الرقم 32، وهي آخر السوناتات من هذا النوع، التي كتبها بيتهوفن. كما يرون أن المقطع الأخير من السكيرزو، وبعض مقاطع المارش وجزءاً من الخاتمة، فيها تكرار لبعض أجواء سوناتا البيانو رقم 12 لبيتهوفن. ومهما يكن من أمر فإن شوبان لم يكن يخفي أبداً اعجابه الفائق بسوناتتي بيتهوفن هاتين. ويبدو أن اعجاب شوبان بسوناتات بيتهوفن في شكل عام، كان له تأثير، ليس فقط على هذه السوناتا التي نحن في صددها، بل على انتاجه الموسيقي ككل، إذ من المعروف أن شوبان، كان دائماً بين قلة من المؤلفين كرست جزءاً كبيراً من عملها، بل حياتها الفنية بأسرها، لإنتاج أعمال للبيانو. وفي هذا الإطار تقول كل سِيَر شوبان، انه كان لا يتوقف عن التأليف الارتجالي للبيانو حيثما حل وارتحل. كان يلحن وهو يلعب وهو يأكل وهو يتمشى وهو يحزن وهو يحب... أما الصعوبة الأكبر بالنسبة اليه فكانت حين يضطر لاحقاً، أي بعد ارتجال القطعة الى كتابة النوتة لها. ولعل الحكاية التي يرويها زييم عن ارتجال شوبان للمارش الجنائزي، في تلك الليلة، انطلاقاً من مزحة لا أكثر، تعطي صورة واضحة عن هذا النوع من الكتابة الذي كان من خصائص الفنان البولندي، حتى وإِن كنا نعرف أنه كتب أيضاً أعمالاً للبيانو وللأوركسترا وغير ذلك، فهو كان غزير التأليف أيضاً. لعل غزارة تأليفه هي التي جعلته يستصعب تدوين أعماله بعد ارتجالها، غير أن هذا لم يكن من شأنه أن يمنعه، كما سوف يقول آلغار لاحقاً، من الموافقة على تحويل بعض أعماله الى أعمال أوركسترالية، كما كان الأمر بالنسبة الى المارش الجنائزي، الذي بعدما نُسي انتماؤه الى سوناتا البيانو الثانية، صار عملاً مستقلاً وأوركسترالياً بامتياز... وحتى من قبل تدخل آلغار في تحويله. من هنا يمكن الموافقة دائماً مع أولئك الذين يقولون ان شوبان هو واحد من أعظم المؤلفين للبيانو في تاريخ الموسيقى الكلاسيكية. وهو الذي عاش بين 1810 و1849، كان ابناً لفرنسي هاجر باكراً الى بولندا حيث عمل في التدريس، ولأم بولندية مثقفة. وقد ترعرع شوبان في وارصو حيث درس الموسيقى باكراً، ثم ألف مقطوعات وهو بعد في سن المراهقة، ومن بينها مازوركات وروندو وبولوتيزات ظلت حية دائماً وتعزف... وهو كان في حوالى العشرين حين بدأ يقدم حفلات عزف في فييينا ووارصو، قبل أن ينتقل الى باريس عام 1831، لأسباب سياسة وفنية، ولا سيما حين اشتد الضغط على أصحاب الأفكار الوطنية في بولندا. ولقد ألف شوبان في العاصمة الفرنسية بعض أقوى ألحانه التي تعتبر اليوم ارثاً قومياً في بولندا، كما ارتبط بعلاقات غرامية شهيرة منها طبعاً علاقته بجورج صاند أورو - دوديفان. وهو توفي في فرنسا اثر زيارة عمل قام بها الى لندن، وشارك في جنازته التي سارت من كنيسة المادلين الى مقبرة"الأب لاشيز"أكثر من 3000 شخص. [email protected] نشر في العدد: 16811 ت.م: 14-04-2009 ص: 30 ط: الرياض