بدا من اللحظة التي لامست فيه أنامل الموسيقي اللبناني الفرنسي عبدالرحمن الباشا مفاتيح البيانو لعزف السوناتا D. 568 لشوبرت، انه عازف رفيع الموهبة والتميز. واستقبل الجمهور، وكان غالبه من العرب، العرض الذي قدمه الباشا بحماس بالغ. وبرهن العازف اللبناني الفرنسي على جدارته بالجوائز الموسيقية الكثيرة التي حظي بها وكذلك بالثناء الذي وجهه النقاد دوما الى عروضه الحية وتسجيلاته. قام بتنظيم الحفلة أول من أمس في قصر "ليتون هاوس" في لندن السيد جورج زعني و"المنظمة الثقافية للشرق الأوسط" ميكو. ما لا شك فيه ان مواهب الباشا الموسيقية ترتبط بصفاته الشخصية. ولعزفه اعماق تتجاوز مهاراته التقنية الفذة لتصل الى روحه. ويبدو أثناء العزف وكأنه من عالم آخر، بوجهه المعبّر الوسيم وجبهته العالية وشعره الأسود الكث المرجع الى الوراء الذي يعطيه براءة الطفل وانفتاحه. يختلف الباشا عن بعض الموسيقيين في بعده التام عن مظاهر الاعتزاز بالذات والحركات الدرامية، بل يتصل بالجمهور مباشرة من خلال الموسيقى. وكان من المثير ان نراه يجلس هادئا الى البيانو ويعزف بحركات متأنية. أظهر العزف للمقطوعة الأولى في العرض، السوناتا من شوبرت، ما لمؤلفها من غنائية وجمال، اضافة الى الجانب الآخر من شخصيته الذي يعبر عنه في مقاطع توحي بالألم. سجل الباشا خلال السنين الماضية كل سوناتات بتهوفن. وكانت القطعة الثانية في حفلة الجمعة سوناتا رقم 23 المعروفة باسم "أباشوناتا". انها قطعة سمعتها مرارا كثيرة من عدد كبير من العازفين، لكن شعرت انني اسمعها للمرة الأولى، بمفهوم جديد لها مليء بالتعبير والتلوين، وصولا الى خاتمة مذهلة في قوتها وسرعتها. وأظهر عزف الباشا دفأه والعمق الروحي الهاديء الذي يكمن تحت الدفق الموسيقي الصاخب. بعد الاستراحة قدم الباشا سوناتا رقم 354 من تأليف الموسيقي اللبناني بشارة الخوري، الذي يسكن فرنسا ايضا. ونشرت هذه القطعة للمرة الأولى في 1985 وهي على الطراز الحداثي القلق البالغ السرعة وتتطلب جهدا من العازف والمستمع. ثم عزف "غاسبار دو لا نوي" لرافيل، المكونة من ثلاثة مقاطع، وهي من الموسيقى الجميلة، الحالمة في اجزاء منها، والمليئة بالتصعيدات القوية في اجزاء اخرى. تتطلب القطعة استخدام كل مفاتيح البيانو، واحيانا مرور اليمنى واليسرى عبر بعضهما اثناء العزف. في نهاية العرض طالب الجمهور بالمزيد. وعزف الباشا قطعة من تأليفه باسم "ماري"، امتازت بالغنائية والايحاء باصداء من الموسيقى اللبنانية والروسية. وقال العازف اللبناني الفرنسي لپ"الحياة" ان ماري صبية توفيت وعمرها 15 سنة وهي ابنة عائلة صديقة. وختم العرض بقطعة من شوبان بعنوان "تذكار لباغانيني". ويعرف ان الباشا سجل ايضا الأعمال الكاملة لشوبان، وذلك على تتابعها الزمني. الحفلة هذه ستبقى في ذهني زمنا طويلا، ولا اشك ان هذا يصح على بقية المستمعين.