رولفو مات. لكن ساسكند حيّ. أين يقضي ساسكند أيامه؟ حتى لو كان مقيماً في ميونيخ لا نعرف أين مكانه: في أي عالم خيالي أضاع نفسه؟ لماذا كفّ عن تأليف الروايات ونشرها؟ كيف يستطيع كاتب حقيقي وساسكند كاتب حقيقي أن يتوقف عن الكتابة؟ ألا يفقع قلبه؟ ألا يحطّمه الوقت فراغ الوقت؟ رولفو ? من قبل ? فعل ذلك. لم ينشر غير"بيدرو بارامو"ومجموعة قصص "السهب الملتهب" ثم انصرف الى صمته. كان يقول انه يكتب رواية أخرى "سلسلة الجبال" لكنه يفعل ذلك متمهلاً. مرّت العقود وغادر العالم ولم ينشر الرواية. كان يكتب؟ كان ساكتاً عن الكتابة؟ كيف تحمل ذلك الصمت اللانهائي؟ رولفو كاتب حقيقي. إذا قرأت"بيدرو بارامو"مرة واحدة تدرك ذلك. إذا قرأتها مرتين أنت مهدد: قد تدمنها كما فعل غابرييل غارسيا ماركيز أسماء كثيرة تعبر من كومالا ? قرية رولفو ? الى ماكوندو. ملكيادس مثلٌ واحد. سر واحد يجمع الاثنين: المخيلة. صحيح أن الأدب كله هذا سرّه، لكن في حال رولفو أو ساسكند يبدو ذلك باهر الوضوح. الاثنان يملكان مخيلة استثنائية. صمدت"بيدرو بارامو"أمام امتحان الزمن اكثر من نصف قرن مرّ عليها. ولا ندري هل تصمد"عطر"و"حمامة"، وهاتان من ثمانينات القرن العشرين. الوقت هو الفحص، ومرات قد لا يُعطى الكاتب النتيجة. أحياناً كثيرة يقضي قبل ذلك، ولعل هذا ضروري للحصول على حكم نزيه. نعثر على سلف للإثنين في كافكا. ليس كافكا الروايات وكلها غير مكتملة وكلها كانت تضيع لولا تدخل ماكس برود، بل كافكا الرسائل واليوميات والقصص القصيرة. لعل كافكا الحقيقي الكاتب الحقيقي موجود هناك: ليس في الروايات غير المكتملة ولكن في الرسائل واليوميات والقصص. علينا التفكير في الصدفة الغريبة: لماذا لم تكتمل رواياته؟ لماذا لم يكملها الى السطر الأخير والنقطة الأخيرة؟ فقط أكمل"التحول"أو"المسخ". وهذه أقرب الى قصة طويلة ماركيز قال انه عرف قدره وهو يقرأ جملتها الأولى. لم يكمل كافكا"المحاكمة"ولا"القلعة""القصر". الروايات غير المكتملة أعطته الشهرة في القرن العشرين المجنون. فجأة، بين ليلة وضحاها، تطابق العالم الواقعي مع كوابيسه. لكن كوابيس كافكا الأشد فتنة واكتمالاً أدبياً أيضاً موجودة في يومياته وقصصه القصيرة ورسائله."سور الصين العظيم"مثل واحد مكتبة بابل"لبورخيس من هنا خرجت."مستعمرة العقاب"وپ"طبيب الأرياف"و"تقرير الى الأكاديمية"قصص غريبة الخيال وواقعية مثل حياتنا. في رسائله من مصحات المسلولين حيث قضى السنوات الأخيرة من حياته لا يشبه كافكا إلا نفسه. انخفض وزنه من 65 كيلوغراماً الى 49 كيلوغراماً. في هذه الظروف، بينما السلّ يلتهم حنجرته، كتب"المغنية جوزفين": الفأرة التي تغني للحشود. كانيتي الذي يعرف كافكا وكتب عن رسائله يعرف أيضاً السرّ الذي يدفع بعض الكتّاب الى المكان البعيد. أين هو ذلك المكان البعيد؟ لماذا يختار الكاتب الفرد بين حين وآخرٍ أن يبتعد عن العالم الجماعة؟ أليس هذا انتحاراً وقتلاً للأدب؟ كسينغيان خاف ان يتنسك فيفقد لذة الأدب وصحبة البشر، نار المطبخ ونار الحديث. تولستوي في المقابل خاف على الأقل في سنواته الأخيرة أن يصرفه العالم البشري عن سلامه الداخلي. كافكا وجد عالماً في رأسه. باكراً كتب الى صديق الدراسة أنه أمام خيارين: إما يكتب ما في رأسه أو يتصدع. قيمة كافكا هوسه بالكتابة وخياله الذي يغذي هذا الهوس. في أسوأ الأوقات الحرب الكبرى مثلاً كانت طاقته تتدفق ويكتب أجمل ما فيه. سكت رولفو. وساسكند ساكت. وكافكا مات. لعل ساسكند يقع في النسيان بعد سنين. من يعلم هذه الأشياء؟ لعلنا بعد قرن ننسى كافكا أيضاً! هوميروس ما زلنا نقرأه. تولستوي أيضاً. لكن هل نقرأ تولستوي بعد ألف سنة؟ هل يقرأه أحفاد الأحفاد؟ في هذه الأزمنة لا أحد يفهم شيئاً. نركض وراء كتب قد تختفي بعد أسابيع. ولعلنا لا نفعل إلا ما يفعله الجميع: نغرق في التفاهة. هل نجد في هذه النقطة سرّ اعتزال رولفو، وسكوت ساسكند؟ هل هرب الاثنان من الحشود؟ الأدباء أيضاً حشد، لا؟ يريد الكاتب أن يكون نفسه. وإذا هدّد المحبّون هويته فرادته فأين النجاة، أين الخلاص؟ هل عجز رولفو عن العثور على التوازن المنشود؟ كافكا دمّره السل،ّ لكنه قال إنه بنفسه استدعى المرض القاتل: وهو يسهر الليل! كافكا الرسائل دليلنا الى فرد يصارع كي يكون هو: بينما يفعل ذلك أعطانا عالماً. نشر في العدد: 16783 ت.م: 17-03-2009 ص: 26 ط: الرياض