دعاة إبرام الصفقات بأي ثمن بذريعة شراء الاستقرار انما يدفنون رؤوسهم في الرمال مهما اختالوا كالزرافة أو تخيّل لهم أن الرئيس الأميركي باراك أوباما جاهز للتضحية بالعدالة من أجل الاستقرار أو لمباركة التطرف كي يرفع شره عنه. هذا الشهر بالذات سيكون مرآة لعلاقة السياسة بالعدالة في إدارة أوباما عندما يصدر قضاة المحكمة الجنائية الدولية قرارهم الذي يتوقع أن يصادق على طلب المدعي العام إصدار مذكرة اعتقال بحق الرئيس السوداني عمر البشير بتهمة ارتكاب مجازر في دارفور. حينذاك سيتضح لكل من يهمه الأمر أن لا مجال بعد قرار القضاة للصفقات مع الرئيس السوداني مهما تصوّر الاتحاد الافريقي أو جامعة الدول العربية العكس. ولذلك من مصلحة السودان والمنطقة عدم دفن الرؤوس في الرمال. كذلك الأمر عندما تنطلق المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في اليوم الأول من الشهر المقبل لتسجل سابقة المحاسبة على الاغتيالات السياسية وتضع منطقة الشرق الأوسط على مسار إنهاء الإفلات من العقاب. فكل من يعتقد أن تلك المحكمة ستنقرض في الصفقات السياسية لحماية نظام ما باسم الحفاظ على الاستقرار وكسب تعاونه في سبيل حجب دعمه للتطرف، انما يفترض خطأ أن إدارة أوباما جاهزة للاستغناء عن العدالة التي جعلت منها حجر أساس لها. فالمسألة أكثر تعقيداً والمحكمة قد تكون مليئة بالمفاجآت. حتى الذين يعتقدون أن الإدارة الأميركية ستمنع وتعرقل أي تحقيق دولي حول ما حدث في غزة يتسرعون، فلو أفضت الجهود المدروسة قانونياً الى التحقيق، لن تقف إدارة أوباما في وجهه بغض النظر إن دان اسرائيل وحدها أو إن دانها ودان"حماس"معها لتجاوزات القانون الانساني الدولي ضد المدنيين الأبرياء. ومهما تهيأ للمحتفين باستعداد اميركا للحوار كوسيلة لمعالجة الاختلافات مع أي كان ومن دون شروط مسبقة، فزمن الصفقات ليس دعوة مفتوحة لأنظمة كالنظام الايراني للمساومة على الاستقرار - أو ضربه - بمكافآت اميركية نووية او بالتصديق على الهيمنة الاقليمية. فالصفحة الجديدة التي يفتحها أوباما مع العالم هي صفحة تعاون وحوار وشراكة في صنع الاستقرار انما ليس على حساب العدالة. بعد حوالي اسبوع، ستصدر المحكمة الجنائية الدولية قراراً يعد سابقة، إذا صادقت على مذكرة المدعي العام لويس اوكامبو الداعية الى اعتقال عمر البشير، إذ أن تلك ستكون المرة الأولى التي يصدر فيها مثل هذا القرار ضد رئيس ما زال في السلطة. إدارة باراك أوباما لن تتساهل في هذه المسألة بل انها جعلت من دارفور قضية أساسية لها ولمحت الى استعدادها للتعاون مع - وربما لاحقاً للانضمام الى - المحكمة الجنائية الدولية. فهي ليست متعاونة مع الجهود الافريقية والعربية لتأجيل تطبيق قرار المحكمة الجنائية الدولية لفترة سنة بموجب قرار لمجلس الأمن يعتمد على المادة 16 التي تسمح بالتأجيل، ورسالتها الضمنية هي: استفيقوا. ماذا سيحدث للرئيس السوداني بعد صدور قرار دولي باعتقاله، وماذا سيحدث للحكومة السودانية الملزمة بتنفيذ أوامر الاعتقال؟ هذه هي الأسئلة الأساسية في هذه المرحلة بعدما فات الأوان على تحرك في مجلس الأمن للتأجيل قبل صدور قرار القضاة. لذلك لا يفيد العرب الذين يطالبون المحكمة الجنائية الدولية بإجراء تحقيق في خروقات اسرائيل للقانون الانساني الدولي في حربها الأخيرة على غزة ان يشنوا حملة تجريح بهذه المحكمة وبالمدعي العام الذي يملك مفاتيح اجراء مثل ذلك التحقيق. فأوكامبو يدرس الطلب الذي تقدمت به السلطة الفلسطينية ليرى كيف يمكن له أن يتجاوز عرقلة تنبثق من الموقع القانوني للسلطة الفلسطينية - كدولة - علماً بأن مثل هذا الطلب تلبيه المحكمة الجنائية الدولية إذا جاء من دولة تنتمي الى الدول الموقعة على إنشاء المحكمة الجنائية الدولية. لا يفيد العرب ولا الأفارقة الهروب الى الأمام في مسألة العلاقة بين النظام السوداني والمحكمة الجنائية علماً أن قرارات مجلس الأمن هي التي أوكلت الى المحكمة الجنائية التحقيق في التجاوزات في دارفور. مكابرة الرئيس السوداني على المحكمة الدولية ورفضه تنفيذ قراراتها القاضية باعتقال مسؤولين سودانيين هما اللذان أديا الى الوضع الحالي المهين. فالرئيس عمر البشير ضرب بعرض الحائط قرار المحكمة بل أوكل الى وزيره المطلوب من المحكمة ملف الاشراف على المساعدات الدولية والمنظمات الدولية في دارفور فأضاف الاهانة الى الجرح العميق. حتى الآن، وجه عمر البشير وحكومته الى المحكمة وكل من يدعمها تهم التآمر على السودان، وواجه قرارات مجلس الأمن بالتصعيد السياسي والعرقلة. واليوم، يشكل التهديد المباشر بإطلاق الشارع السوداني لينتقم انما يرفع الوتيرة الى خطورة أكثر على السودان نفسه. فلقد سبق لرؤساء أنظمة عربية ان وضعوا النظام قبل البلاد فدفعت البلاد الثمن الغالي جداً. وقد فات الأوان الآن على صفقة تنقذ الرئيس السوداني من المحاسبة. وإذا كان أمامه من خيار ينشله من أين أوصل نفسه إليه، فهو خيار الإقدام على الاستقالة قبل القرار وتسليم البلاد الى الحكومة عساها تتلقن درساً وتحسن إدارة البلاد. هذا مستبعد في العالم العربي والافريقي، انما قد يكون هذا هو أسلم الطرق للسودان وأفضلها لعمر البشير. فليبادر الرئيس السوداني الى وضع السودان قبل نفسه ويبادر الى الاستقالة ومغادرة البلاد ليحل ضيفاً في مكان هادئ في دولة عربية أو افريقية - انقاذاً للسودان. فكل دعاة الصفقات والمزايدات سيختفون وتخمد أصواتهم بعد صدور قرار المحكمة الجنائية وبعدما يتضح أن الأصوات التسعة اللازمة في مجلس الأمن للتأجيل الى سنة غير متوافرة. وهكذا، قد يكون عمر البشير وحده في عين العاصفة مهما تهيأ له الآن أن له حلفاء. كذلك في ما يخص المحكمة الدولية لمحاكمة الضالعين في الاغتيالات السياسية في لبنان وفي مقدمها العملية الإرهابية التي أودت بحياة رئيس الحكومة اللبنانية السابق رفيق الحريري ورفاقه قبل أربع سنوات. كثيرون راهنوا على احباط إنشاء المحكمة، ولم يصدقوا عندما قيل لهم إن قطار المحكمة غادر المحطة. انهم يتصورون الآن - كما تصوروا أمس -أن الصفقات السياسية ستنقذهم من المحاسبة وستمّن عليهم بالإفلات مجدداً من العقاب. وسيخطئون، كما سبق وأخطأوا. فالمحكمة الدولية ستصدر القرارات الظنية وتسمي أسماء. والمحكمة الدولية ستبقى سيفاً فوق رؤوس الذين ارتكبوا الاغتيالات السياسية الإرهابية في لبنان حتى وهم في صفقات سياسية أو يماطلون على أنغام الحوار والانفتاح في دمشق أو في طهران. العراقيل ستتراكم أمام العزم على انفتاح أميركي - ايراني سيلي توافق الرئيس الأميركي مع الرئيس الايراني محمود احمدي نجاد على حوار مباشر مبني على"الاحترام المتبادل". شروط الحوار بحد ذاتها موضع خلاف وملامح اطالته واضحة كاستراتيجية ايرانية لا سيما أن احمدي نجاد يريد تغييراً استراتيجياً في الفكر والنمط والتعامل الأميركي مع ايران فيما يعبر أقطاب النظام الآخرون في طهران عن ميل الى مطالبة أميركا بالاعتذار قبل الحوار. فريق أوباما يريد"مؤشرات"من أركان الجمهورية الاسلامية في ايران تفيد برغبتهم واستعدادهم ل"التصرف بطريقة مختلفة". واقع الأمر ان هذا الطلب بحد ذاته يساهم في عملية إطالة الحوار ونقله الى خانة حوار مفتوح بلا آفاق زمنية. وهذا يخدم الملالي في طهران ولا يخدم الغايات الأميركية من الحوار. البعض يعتقد أن الانتخابات الايرانية ستفرز"معتدلين"يمكن لواشنطن التعاطي معهم، وبعض الأوروبيين يدعو أوباما الى تشجيع صعود الاعتدال في صفوف الملالي ورجال الثورة الايرانية التي أتى بها آية الله الخميني قبل ثلاثين سنة وتحكمت بإيران. ما سيستنتجه باراك أوباما وإدارته قريباً هو أن حلم تصدير الثورة الايرانية ما زال يراود حكام إيران ولذلك لن يساوموا - سوى شفوياً وللاطالة - على الأدوار التي يلعبونها في العراقولبنان وفلسطين بدعمهم"حزب الله"و"حماس". حسناً يفعل الرئيس الأميركي بطرحه جميع هذه المسائل على طاولة الحوار سوية مع المسألة النووية. لكن الحذاقة والحنكة الايرانية التي سيتعرف إليها عن كثب عند الحوار ستعمل، استراتيجياً، على تفريغ الحوار من فحواه وعناصره الاقليمية ليبقى عنواناً عائماً بلا نتيجة. كذلك في ما يخص المسألة النووية، قريباً سيدرك الرئيس باراك أوباما وفريقه أن ايران لن تتخلى عن طموحاتها النووية تحت أي ظرف كان ان تربع على سدة حكمها"معتدل"أو"متطرف"من الملالي وأركان الثورة الخمينية. حتى وإن جاءت مفاجأة موافقة طهران على تعليق تخصيب اليورانيوم - وهو الطلب الذي تشترطه الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن زائداً المانيا - كمدخل إلى رزمة المكافآت فإن الجمهورية الإسلامية لن تتخلى عن طموحاتها النووية. فأما أن ترسم إدارة أوباما سياسة استراتيجية تبارك فيها - ضمناً أو كأمر واقع - هذه الطموحات بكل ما تنطوي عليه من ابعاد وعواقب ايلاء قيادة منطقة الشرق الأوسط إلى الجمهورية الإسلامية الإيرانية لمصلحة التطرف والممانعة. أو تدرس إدارة أوباما بعمق معنى مثل هذا القرار الاستراتيجي وتدقق في خريطة الاعتدال والتطرف لترى أين تكمن المصلحة الوطنية الأميركية ومصلحة العالم، في دعم الاعتدال أو في دعم الهيمنة وامتلاك القدرات النووية لدولة لن تكف عن تصدير نموذجها القائم على كبت الحريات وايديولوجية التزمت؟ اليوم، هناك تلاق بين تطرف إيران وتطرف إسرائيل. كلاهما يحتاج الآخر ليبرر تطرفه، وكلاهما مرتاح في تعاون الأمر الواقع بينهما لضرب الاعتدال العربي وللحؤول دون بروز قوة عربية على خريطة موازين القوى الاقليمية. كلاهما استفاد من ابعاد العراق عن تلك الموازين، وكلاهما يخشى أن تتسلم السعودية مفاتيح قيادة اقليمية تؤثر جذرياً في موازين القوى. كل هذا لا ينفي مسألة أساسية هي أنه في داخل إسرائيل وداخل اللوبي اليهودي في الولاياتالمتحدة وأوروبا هناك انقسام جذري حول كيفية التعاطي مع إيران، إنما يخطئ من يفترض أن ذلك يترجم عملياً بمباركة أميركية لإيران نووية. وما يريده فريق أوباما، في هذا المنعطف، هو السير في سكتين متوازيتين هما سكة التحاور وسكة تشديد العقوبات على ايران بمساعدة أوروبية وبشراكات غير تقليدية. ثم إن أنظار الرئيس الأميركي الجديد ليست منصبة حصراً على الملف النووي، وإنما هو مصر على تناول أدوار ايران في المعادلات الاقليمية. كثيرون يتنافسون على ابلاغ واشنطن أنهم قناة الحوار وعنوان الصفقات لا سيما من أقطاب في محور"الممانعة"يبعثون رسائل ملفتة في تلميحاتها الى الاستعداد للاستغناء عن الآخر في خضم صفقات الاستقرار مقابل ثمن التأهيل لدى الإدارة الأميركية. إنهم يدفنون رؤوسهم في الرمال اذا تخيل لهم أن الرئيس باراك أوباما سيكافئ الابتزاز والاغتيال ويتخلى عن العدالة في السودان وفي لبنان أو أنه سينزوي في خانة الانصياع لما يعده له الملالي في ايران. ما يحتاجه الرئيس الأميركي هو إبلاغ المتهافتين أنه ليس في حاجة إلى صفقات العناوين والقنوات لأنه اتخذ العدالة والاعتدال عنواناً دائماً لواشنطن في عهده مهما دار من حوار وانفتاح. نشر في العدد: 16751 ت.م: 13-02-2009 ص: 15 ط: الرياض