بقلق وبإحباط، تودع منطقة الشرق الأوسط العقد الأول من القرن الواحد والعشرين وتستهل العقد الثاني منه، بمزيج غريب من تشييد الأحلام ومن الهلع من احتمال اندلاع حروب إقليمية ومحلية، مباشرة وبالوكالة. انزلاق الثقة – الأمل بقدرة الرئيس الأميركي باراك أوباما على صنع السلام الفلسطيني – الإسرائيلي يواكبه اليوم الخوف من نموّ التطرّف الإسرائيلي والعربي والإسلامي وانحسار الاعتدال. في الوقت ذاته، هناك نتائج ملموسة مشجعة للاعتدال الذي يدب الذعر في معسكر التطرف مثل ما يسمى ب «الانتفاضة الناعمة» أو عبر تمكين الشعب الفلسطيني من بناء مؤسسات الدولة الفلسطينية للإطاحة بالاحتلال. الاستطلاعات تفيد بأن الفلسطينيين أقل تشاؤماً بمستقبلهم من اللبنانيين، والأسباب متعددة. فواضح اليوم أن المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية في إيران، علي خامنئي، قرر قطع الطريق على مساعي التهدئة والصفقات الإقليمية في شأن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان معتبراً أي قرار لها «لاغياً وباطلاً»، فزاد من حشر «حزب الله» في الزاوية وأعلن – عملياً – أن لبنان ورقة من أوراق الجمهورية الإسلامية في إيران، وبعث رسائل مبطنة فائقة الأهمية لكل من سورية والمملكة العربية السعودية، ودب الذعر في قلوب معظم المواطنين اللبنانيين. حتى السودانيين أقل ذعراً من اللبنانيين على رغم حالتهم التعبة جداً في ظل الخوف الداهم من تقسيم للسودان يرافقه العنف الدموي، ومن حكومة تتوعد بالتشدد في تطبيق الشريعة الإسلامية لأن انفصال الجنوب، في رأي الرئيس السوداني عمر البشير، يلغي حجة التعددية. وإذا كانت التعددية شعاراً رفعه رجال العراق وهم يتفاوضون على اقتسام السلطة وما تأتي به عليهم، نسوا أن المرأة في العراق هي التي تحمّلت أعباء وآثار الاستبداد والاحتلال والإرهاب والتعسف الديني والطائفي – فتناسوها. ولم يتقدم رجال القيادات العراقية سوى باسم امرأة واحدة مرشحة لمنصب وزير دولة، فقهقهوا مهنئاً بعضهم بعضاً ونسوا ماذا فعلت نساء العراق في أيام الحروب وحتى في طوابير الانتخابات. والمرأة في منطقة الخليج العربي بعامة تزحف زحفاً الى قليل من حقوقها الشرعية والمشروعة تدعمها في ذلك مجرد حفنة من الرجال المتنورين هنا وهناك. هذا في الوقت الذي ترتفع ناطحات السحاب في الصحراء وتنجح حكومات ورجال ونساء في القطاع الخاص بتشييد الافتخار بالإنجازات وكذلك تشييد الأحلام بتناقض ساطع على أصعدة ومستويات عدة. فالتقصير على الساحة العربية – من حقوق الإنسان الى إلغاء الأمية الى تقليم أظافر الطائفية – إنما هو تقصير عربي بالدرجة الأولى. لكنّ هناك لاعبين آخرين يريدان صقل منطقة الشرق الأوسط بما يخدمهما ويجدان قاسماً مشتركاً بينهما يتمثل بالكراهية والعداء لما هو عربي ومعتدل، هما: الحكومة الإسرائيلية المتطرفة والقيادات العنصرية فيها التي تريد إسرائيل «دولة يهودية» حصراً، والجمهورية الإسلامية في إيران التي تريد تصدير «ولاية الفقيه». الأيام والأسابيع والأشهر المقبلة مليئة بشرارات الانفجار وعبوات تفجير الاستقرار. لبنان يبقى المرشح الأول كساحة للحروب المباشرة والحروب بالوكالة، لأن «حزب الله» ومرشد الجمهورية الإسلامية في إيران أوضحا رفض قرارات المحكمة المكلفة مقاضاة الضالعين في اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري ورفاقه الاثنين والعشرين وأي اغتيالات سياسية أخرى يثبت التحقيق ارتباطها مع اغتيال الحريري. وكلاهما هدد علناً وصراحة بنسف الاستقرار في حال عدم إذعان الأطراف اللبنانية الأخرى لأوامرهما بالتملص من المحكمة وقراراتها. بحسب المؤشرات، سيتسلم القاضي التمهيدي في المحكمة في لاهاي، طلب المدعي العام دانيال بلمار بالنظر في إصدار قرارات ظنية اتهامية ضد عدد من الأفراد – ربما ثمانية – في الأيام المقبلة أو في الأسبوعين الأولين من شهر كانون الثاني (يناير). بعد ذلك، يتفحص القاضي التمهيدي الحالات المطروحة أمامه. ويقرر على ضوء المعطيات التي يدعمها بلمار قانونياً اما أن يصدر القرار الظني في شأن جميع الأفراد أو أن يعيد الى بلمار الملفات ويطلب منه العودة اليه إذا رأى القاضي أن أحد الملفات ناقص أو ضعيف. المهلة الزمنية لموعد إصدار القرارات الظنية والكشف عن الأسماء قد تستغرق بضعة أسابيع – ربما ستة اسابيع من موعد تسلم الملفات إذا كانت كاملة وجاهزة بلا حاجة الى إعادتها الى بلمار، او أطول إذا كانت ناقصة. البعض يعتقد أن «حزب الله» سينفّذ وعيده بنسف الاستقرار في لبنان حالما يُسلِّم المدعي العام ملفاته الى القاضي التمهيدي. إنما، منطقياً وواقعياً، لن تكشف المحكمة رسمياً أسماء الذين سيصدر القرار الاتهامي بحقهم إلا بعد استكمال القاضي التمهيدي دراسته الملفات. فعندئذ فقط يُكشَف عن الأسماء. وهذا، نظرياً، قد يتم في شهر كانون الثاني (يناير) وقد لا يتم قبل حلول شهر آذار (مارس). هذه الفترة الزمنية ليست بالضرورة إذاً، فترة تصعيد وعدّ عكسي الى المواجهة العسكرية. لربما هي فترة إعادة التموضع وبعث رسائل تلميح بالاستعداد للخوض في تفاصيل الصفقات. ولربما هي، من ناحية أخرى، مرحلة كشف الأوراق والكف عن تنسيق الأدوار. وزير خارجية العراق هوشيار زيباري قال لنا في حديث خاص ب «الحياة» يوم الجمعة الماضي إن التوجه الأميركي العام في العلاقات مع إيران هو في «اتجاه التهدئة وليس مع تصعيد أو تأزيم الأوضاع والعلاقات». هو ذا كان بيت القصيد. ما اختارت جهات لبنانية التركيز عليه بدلاً من هذه الجملة المهمة هو ما قاله زيباري استطراداً «هذا ما نتلمسه بخصوص الملف النووي، بخصوص المحكمة. حالياً، هناك توجه نحو تأجيل إصدار الحكم (القرار الظني) بسبب مطالبات، ربما حتى لبنانية»، إنما هذا تأجيل الى «فترة لاحقة وليس الى ما لا نهاية. فبدلاً من أن يصدر في هذا الشهر، ربما في الشهر المقبل مثلاً». هذه الجهات اللبنانية قررت عمداً أن تسوّق كلام زيباري كما تشاء فحوّلت الأنظار عن رسالة «التهدئة» وعدم التصعيد أو «تأزيم الأوضاع والعلاقات» واعتبرت كلامه دليلاً على «تسييس» أميركي للمحكمة لأنها ستفلح في تأجيل إصدار القرار الظني. وفي الأمرين مغالطات، أولاً، لأن ما قاله زيباري هو أن التهدئة الأميركية مع إيران هي بخصوص الملف النووي وليس فقط المحكمة، وثانياً، قال إن التوجه هو لتأجيل إصدار القرار الظني بسبب مطالبات «ربما حتى لبنانية» من الشهر الحالي الى الشهر المقبل – وهذا كان أساساً أمراً معروفاً وبديهياً ولا جديد فيه. وزير خارجية إيران، منوشهر متقي الذي تحدث معنا في «الحياة» في المنامة لربما في آخر حديث خاص أدلى به قبل إقالته بصورة غير ديبلوماسية، قال: «نحن نعتقد أن مسار المحكمة يجب أن يكون بعيداً من الصراعات السياسية والحزبية ومن المسار الذي كان قائماً قبل سنوات أربع أو سنوات عدة. ويجب أن يكون المسار هو المسار القضائي والقانوني البحت». وشدد متقي حينذاك على «أننا لن نتدخل في تفاصيل لبنان. نحن نعتقد ولدينا هذه القناعة بأنه ينبغي للقادة والفصائل اللبنانية، في إطار حوار، أن يصلوا الى اتفاق...» وفي العدد ذاته بتاريخ 5 كانون الأول (ديسمبر) تحدث وزير خارجية تركيا داود أوغلو معنا في المنامة أيضاً قائلاً إن «المحكمة الدولية يجب النظر إليها حصراً كقضية قانونية ويجب عدم تسييسها من أي من الطرفين. ونحن نأمل في أن يكون هناك توازن بين العدالة والاستقرار السياسي في مسألتي المحكمة الدولية والمسائل الأخرى كتل المعنية بشهود الزور. فيجب التعامل معهما بصورة مناسبة». وشدد على أن «الصيغة السعودية – السورية، وفق ما نعلم، توفر أرضية مثل هذا التوازن في الأهداف» وتسعى الى «المزاوجة بين العدالة والاستقرار». كل ذلك كان قبل إصدار مرشد الجمهورية الإسلامية في إيران شبه «فتوى شرعية» الى «حزب الله» لاستكمال حربه على المحكمة الدولية مع أنه يعرف تماماً أن من المستحيل الآن إسقاطها. كان قبل أن يوضح المرشد أنه يريد التصعيد وليس التهدئة، يريد أن يكون لاعباً مباشراً وليس لاعباً ثالثاً يلي اللاعبين السعودي والسوري، يريد أن يقول إن لبنان ورقة إيرانية قبل أن يكون ساحة نفوذ سعودي أو سوري أو تركي. ففي الساحة اللبنانية يجرى ذلك الحوار الأخرس بين الجمهورية الإسلامية في إيران وبين إسرائيل. والمرشد أراد توجيه الرسائل المهمة الى جميع المعنيين الإقليميين والى اللاعبين الدوليين، وعلى رأسهم الولاياتالمتحدة. جاء هذا ما بعد استكمال الجزء الأساسي من تشكيل الحكومة العراقية بعد 9 أشهر من مخاض وطهران لعبت أدوارها في تعطيل الاتفاق وفي تسهيله جاء قبيل صدور القرار الظني الذي يقول «حزب الله» إنه سيسمي أفراداً منه بتهمة تنفيذ عملية اغتيال الحرير على رغم أن المحكمة لم تقل ذلك بعد على الإطلاق. جاء في خضم التوقعات بنجاح «صيغة» ما سعودية – سورية لاحتواء التوتر ولشراء الهدوء وتفادي نسف الاستقرار في لبنان جاء كلام المرشد ليضع النقاط على الحروف ويقول: نحن هنا، «حزب الله» لنا، والسلاح سلاحنا وسيبقى باسم «مقاومة» إسرائيل وضد من «يقاومنا». إسرائيل تريد أن يسيطر «حزب الله» على لبنان كما سبق وأرادت أن تسيطر «حماس» على غزة. فإحدى برقيات السفارة الأميركية في إسرائيل، كما كشفها موقع «ويكيليكس»، قالت إن رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية عاموس يدلين قال قبل سيطرة «حماس» على غزة في 2007 إن سيطرة «حماس» ستتيح لإسرائيل التعامل مع القطاع «ككيان عدو». وهكذا هو الأمر في ما يتعلق بنظرة إسرائيل الى سيطرة «حزب الله» على لبنان. عندئذ يصبح لبنان «كيان عدو» لإسرائيل يتم التعامل معه «كتنظيم» يسيطر على بلد وليس «كدولة». إسرائيل تحبذ وضوح «عدو» كهذا إذ يوفر لها الذريعة للبطش بلبنان بلا محاسبة إذا ما سيطر «حزب الله» على لبنان في حربه على المحكمة الدولية والعدالة. فإسرائيل لا تخشى القوة العسكرية والصواريخ بقدر ما تخشى نجاح الاعتدال في إحداث التغيير على الساحات العربية. إنها تخشى «الانتفاضة الناعمة» في إشارة الى لجوء الرئيس الفلسطيني محمود عباس الى الشأن القانوني بدلاً من الشأن العسكري لسد الفجوة التي تركها فشل إدارة أوباما إقناع حكومة إسرائيل بمجرد تجميد الاستيطان غير الشرعي. تخشى مؤسسات الدولة الفلسطينية التي يشيدها رئيس الحكومة سلام فياض. تخشى قدرة الفلسطينيين العرب في إسرائيل على المثابرة بالتمسك بأرضهم تحت أي ظرف كان. وتخشى إقبال دول العالم على الاعتراف بدولة فلسطين بموازاة مع استكمال بنائها في غضون سنتين. فالهلع إسرائيلي بقدر ما هو عربي. وبكل تأكيد إنه هلع إيراني أيضاً بامتياز. والكل يفتح نافذة يشتم من خلالها روائح الصفقات العابرة ويلوّح منها بمزيج من المكابرة والاستدعاء الى الصفقات.