يذيّل صنع الله ابراهيم روايته"القانون الفرنسي"الصادرة حديثاً عن دار"المستقبل العربي"في القاهرة بالعبارة الآتية:"لأن هذه الرواية تقوم على التخيل، فإن المؤتمرين المذكورين لم يعقدا في الحقيقة، وإن كان عقدهما وارداً، كما أن مؤتمرات مماثلة قد عُقدت فعلاً، بالمثل فإن الشخصيات المذكورة أيضاً هي شخصيات روائية...". ويمكن النظر إلى هذه العبارة على أنها جزء من نسيج الرواية، لأن صنع الله إبراهيم يوظف كل ما يورده بين دفتي كتابه في شكل حرفي واضح. عنوان الرواية يشير إلى القانون الذي تقدم اثنان من نواب الجمعية الوطنية الفرنسية في آذار مارس 2003 بمشروعه، ويقضي ب"الاعتراف العام بالعمل الايجابي للفرنسيين الذين عاشوا في الجزائر أثناء الوجود الفرنسي". ولم تلبث أن ثارت حوله ضجة من الاتجاهات كافة، فهناك من وافقوا وهناك من رفضوا أو تحفظوا على بعض مواده، ومع ذلك تمّ إقراره في 10 شباط فبراير 2005، فظهرت معارضة شديدة له، وأعيد النظر فيه مرة أخرى، وتم تعديله، وحذفت مادته الرابعة، ووافق المجلس الدستوري عليه بطلب من رئيس الوزراء دومينيك دوفيلبان في 31 كانون الثاني يناير 2006. في هذه الرواية يفتح صنع الله إبراهيم قوس الاستعمار الفرنسي على مدى قرنين، وبطله هنا، كما في غالبية رواياته مرتبك، وهو هنا بطل رواية"أميركانلي"نفسه،"شكري"أستاذ التاريخ المقارن. يذهب"شكري"إلى فرنسا، ليعرض في مؤتمر أكاديمي مخطوطة كتبها تلميذ مفترض للمؤرخ عبدالرحمن الجبرتي، وهذا التلميذ - ذاته - هو عاشق آخر لعشيقة نابليون بونابرت"بولين"التي كانت شخصية أساسية في رواية"العمامة والقبعة"التي أصدرها صنع الله ابراهيم قبل نحو عام. وقبل أن يصل"شكري"إلى مكان إقامته في مدينة بواتييه حيث يعقد المؤتمر يتكرر شعوره بعنجهية الذين كان مضطراً للتعامل معهم. يظل"شكري"يطرق أبواباً مغلقة، ويستعين بأشخاص يمرون أمامه، فلا يدلونه على شيء، بل يتعاملون معه بقدر من السخرية. وعندما يصبح في أجواء المؤتمر، يصطدم باستفزازات مشاركين عرب ووجود أحد موظفي السفارة الاسرائيلية في فرنسا ضمن المشاركين في المؤتمر نفسه، فضلاً عن انكشاف بعض الباحثين المتعاونين مع اسرائيل في شكل سافر. لذلك عندما قدم"شكري"عرضه حول المخطوطة كان متوتراً، لكن قوة حججه أنقذته من هذا التوتر. حتى عندما شكك أحد الباحثين الفرنسيين في صحة هذه المخطوطة، مؤكداً أن لديه المخطوطة الأصلية، كان"شكري"بارعاً في عقد مقارنات بين المخطوطتين، ليثبت أنهما أصليتان، وأن مخطوطته هي الأكثر دقة. تكمن قيمة المخطوطة في الرواية في كونها تثير حواراً عنيفاً بين أشخاص هم في الأصل ممثلون لتيارات فكرية وسياسية متضاربة، وكأن الراوي يعرض الأفكار المعادية للاستعمار من زاوية، والآراء التي تتحدث عن أن هذا الاستعمار هو الذي صنع تقدم الشعوب التي استعمرها ورسّخ قيمها من زاوية ثانية. وهذا الجدل لا يدور بين عرب وفرنسيين فقط، بل بين عرب وعرب أيضاً، لكنه يجد مبالغة ومغالاة لدى الفرنسيين، حتى أن إحدى المشاركات قامت، وهي تتلفت يميناً ويساراً وقالت:"أنا متعجبة لما يدور من حديث، لقد فقد ابني حياته في افريقيا في خدمة العلم الفرنسي، وأشعر بالفجيعة على التضحيات التي قدمها الفرنسيون وراء البحار في سبيل تحرير السكان المستعبدين، فرنسا طلبت من ابنائها المقدامين نشر إشعاعها في ما وراء البحار، وبكل شجاعة وحماسة وإصرار نفذوا ذلك، فأصلحت الأراضي وحاربت الأمراض ونفذت سياسة تنموية حقيقية، والآن يقال لنا إنهم أشرار، كنت أفضّل بدلاً من ذلك أن تتم إدانة الإرهاب الذي تعرضت له القوات الغازية والمتعاونون معها من السكان المحليين". تحضر وجهات النظر المعارضة لهذه الفكرة بقوة في الرواية، ولذلك يستدعي الراوي عدداً هائلاً من الاسماء والمراجع والكتب، لباحثين عرب وغربيين على حد سواء ليقدموا أفكاراً أخرى، حول الدمار الذي أحدثه الفرنسيون، والاستعمار عموماً في بلاد الشرق، وأن الفرنسيين دخلوا مصر بالمدافع قبل أن يدخلوا بالمطبعة، وعندما انسحبوا أخذوا معهم المطبعة، وتركوا المدافع، وقدراً كبيراً من الدمار الذي لم يمح أثره حتى الآن. وهكذا دان الراوي في شكل واضح الاحتفالات التي قامت لمناسبة مرور مئتي عام على وصول الحملة الفرنسية إلى مصر، وفي هذا السياق - بالطبع - تستند وجهات النظر إلى مستندات متعددة لإثبات صحتها. وعلى سبيل المثل، عرضت احدى الباحثات لوحات لفنانين مجهولين، تصور الرضا الذي بدا على مشايخ المصريين، أمام نابليون بونابرت، وهو يسلمهم أوسمة ونياشين، كمكافآت لهم على تعاونهم معه. لا يتوقف طرح فكرة الاستعمار وقصرها على مراحل سابقة خاصة بالفرنسيين فقط، بل تتم مناقشة الأمر في أوسع قدر يتيحه السرد في الرواية، فنجد الراوي يقتطع بعض الآراء من كتب كثيرة، مثل اقتطاعه فقرة من كتاب للمفكر الفرنسي مانوني يقول فيها:"ليس هناك احتلال طيب واحتلال شرير، وإنما الاحتلال إبادة وتشريد ونهب واستنزاف". ويقول مفكر آخر هو ألكسي دي توكيفيل:"لقد جعلنا المجتمع العربي أكثر بؤساً وأكثر فوضى وأكثر جهلاً وأكثر وحشية مما كان عليه قبل أن يعرفنا". وبالطبع هناك من يرد على هذه الآراء حتى من العرب أنفسهم، فعندما عرض الباحث فكرة تقول:"إن الفلسطينيين يقدمون اليوم نموذجاً حياً من المقاومة في قتال غير متكافئ وهم بذلك يلجأون إلى أكثر وسائل المقاومة تضحية وأقصد بذلك عمليات الشهادة"، نجد أن فلسطينياً شاباً يرد عليه بكلمة يستشهد فيها بجملة محمود درويش:"ارحمونا من هذا الحب القاتل"- هكذا أوردها صنع الله بدلاً من القاسي - إذاً فالحوار يدور في شكل واسع وقاطع ايضاً من الأطراف كافة، ولا توجد نقاط التقاء على الاطلاق. بعد مؤتمر"بواتييه"ينتقل الراوي/ البطل إلى باريس ليحضر مؤتمراً ثانياً، وهناك يلتقي باحثة فرنسية تدعى"سيلين"يتعلق بها، لكنها تصده بلطف مرة وبخشونة مرة أخرى. وعندما يظن"شكري"أنه على وشك أن ينالها، تصده"سيلين"بعنف مفاجئ فيصعد إلى غرفته في الفندق محبطاً، وفي الصباح يجد ورقة برنامج المؤتمر التي أعطاها إلى"سيلين"مرمية على الأرض، بعد أن كتبت الأخيرة عليها"ردي أنك بالضبط انسان ساذج ومتخلف". هذه وجهة النظر"الغربية"التي عاد بها الباحث من رحلته إلى فرنسا، فلا يوجد حياد، ولا توجد أدنى أشكال التماهي أو التعاطف أو التساند المعروضة علينا من وجهة نظر المستعمر، فنحن في نظره نعاني سذاجة مفرطة، وتخلفاً مقيتاً. لذلك تريد الرواية أن تقول إن لا لقاء بين الطرفين لتصنع في الأخير ذروة جديدة في مسار صنع الله ابراهيم الأدبي الممتد منذ ستينات القرن الماضي. نشر في العدد: 16738 ت.م: 31-01-2009 ص: 36 ط: الرياض