مساء الثلثاء المقبل 20 الجاري يطل الرئيس الأميركي الجديد باراك أوباما مع زوجته ميشال، على حشد ضخم يتجاوز عدد افراده المليون نسمة، وذلك للاحتفال بمناسبة تدشين ولايته. ومع انه سيستقبل في هذا الاحتفال الاستثنائي أكثر من مئة نجم سينمائي وموسيقي واقتصادي وسياسي، إلا أن أوباما حرص على توجيه الدعوات الى المئات من محازبيه وأنصاره وانسبائه في كينيا واندونيسيا وهاواي. وربما تكون جدته"سارة"الكينية 86 عاماً آخر شاهد من عائلته على روعة الاحتفال بذلك السيناتور الذي زارها في مزرعتها المتواضعة صيف 2006 ليحدثها عن طموحاته السياسية. ومن المؤكد ان الرئيس سيتذكر ويفتقد خلال ليلة الاحتفال والده"حسين"الذي مات بحادث سيارة. كما يفتقد ايضاً والدته"آن"التي يعتبرها في كتابه"أحلام من أبي"الملاك الحارس الذي رافقه في طفولته ورعى مسيرته التربوية والثقافية. تحت عبارة"المساواة في الاحتفالات... كالمساواة في الانتخابات"، وضع أوباما هذا الشعار كمعيار للشراكة بين الفقراء والأغنياء... بين السود والبيض... بين سكان الضواحي وموظفي وول ستريت في نيويورك... بين الأسياد و"العبيد". لذلك، دعا الى المشاركة في احتفالات تنصيبه رئيساً للجمهورية، مختلف الطبقات، خصوصاً الفئة المهمشة التي تشكل 13 في المئة من مجموع الشعب الأميركي. ويرى رجال ادارته انه يحرص من خلال هذه البادرة المستحدثة، على تذكير المواطنين البيض بأن أميركا التي ولد فيها سنة 1961 لم تكن تحترم قوانين المساواة بين الرعايا البيض والسود، بل كانت تمارس قوانين التمييز العنصري. وهذا ما دفع القس جيسي جاكسون الى تصوير فوز الرئيس الرابع والأربعين أوباما بالنبوءة. فقد صرح لدى سماعه نبأ الانتصار بأن لوثر كينغ أخبره قبل يوم من اغتياله بأنه رأى في الحلم الأرض الموعودة، وهو يقف فوق قمة الجبل. وفسر جاكسون رؤيا كينغ بالقول:"إن المواطن الأسود الذي عمل عبداً في مزارع الرجل الأبيض، قد أُعتق من العبودية عقب فوز باراك حسين أوباما". واللافت ان أوباما ينظر الى عملية فوزه بمنصب رئاسة الجمهورية، كحدث سياسي فريد يفصل تاريخ الولاياتالمتحدة الى مرحلتين مختلفتين. لذلك حرص على تأدية صلاة الشكر أمام تمثال ابراهام لينكولن، معتبراً ان انتخابه جاء تحقيقاً لأمنية قتل من أجلها مثله الأعلى. وهذا ما يفسر انفجار موجة البكاء الهستيري لدى السود الذين قرأوا في انتصار مرشحهم محواً لكابوس عاش في ذاكرتهم وذاكرة أجدادهم عشرات السنوات، وبين الرموز الشهيرة التي رصدتها كاميرات التلفزيون وهي تجهش ببكاء الفرح، كان القس جيسي جاكسون، أول مرشح اسود لرئاسة الجمهورية، وأوبره وينفري، صاحبة البرنامج التلفزيوني المميز، والممثلة هال بيري. اختارت ادارة تحرير مجلة"تايم"الاميركية، باراك اوباما"شخصية سنة 2008"معللة اسباب الانتقاء بسلسلة انجازات جاء في مقدمها ما حققه من فوز ساحق كأول مرشح اسود يدخل الى البيت الأبيض. ومن أجل إظهار شعبيته، جمعت المصورة المعروفة آن سافيج 5700 صورة معبرة لوجوه أناس شاركوا في المهرجانات الانتخابية للحزب الديموقراطي. ثم اخرجت صور الوجوه ضمن لوحة فسيفسائية ابرزت من بين ظلال تعاريجها الملونة ملامح وجه أوباما. وقالت المصورة أثناء عرض اللوحة: الأميركيين لم ينتخبوا رئيساً وإنما صنعوا ايقونة سياسية. لذلك اطلقت عليه كارولين ابنة الرئيس جون كينيدي لقب"كينيدي الاسود"لكونه أحدث اختراقاً في المؤسسة الرسمية الأميركية، وأزال نظام المحاصصة والاحتكار من البيض البروتستانت الانغلو - ساكسون. في ضوء هذه الخلفية السياسية المعقدة يطل سؤال محيّر يتعلق بطبيعة"التغيير"الذي جعله أوباما شعاراً أساسياً لحملته الانتخابية: هل هو تغيير في صورة الرئيس ولونه، أم هو تغيير في الرؤية السياسية للتوجه الأميركي حيال القضايا الشائكة التي ورثها عن سلفه الجمهوري جورج بوش؟ في مقابلة أجرتها شبكة تلفزيون"اي بي سي"مع الرئيس أوباما، وعد بسرعة التحرك بشأن قضيتي الشرق الأوسط والملف النووي الإيراني. وتحدث عن تشكيل فريق يتولى عملية السلام من خلال خطة تلبي طموحات الإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء. وهذا ما كررته وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون أمام الكونغرس هذا الأسبوع، مؤكدة اهتمام الرئيس بمعالجة الأزمة مع إيران. ووعدت بمشاركة الحلفاء الاقليميين قبل وضع التصور النهائي لمباشرة التفاوض مع طهران. ويبدو أن حكومة أحمدي نجاد لم ترتح للحديث الذي أجراه أوباما، خصوصاً عندما وصف الملف النووي الإيراني بأنه"يمثل أحد أكبر التحديات أمام إدارته". وعلى الفور علق الناطق باسم الخارجية حسن قشقاوي بالقول: إن بلاده تتمنى ألا يردد الرئيس الأميركي الجديد أكاذيب سلفه جورج بوش. وكان قشقاوي بهذا التنبيه يحذر أوباما من مخاطر اعتماد موقف الإدارة السابقة، كأنه يطلب منه التراجع عن اتهام ايران بالسعي إلى حيازة أسلحة نووية. علماً بأن شخصيات رسمية إيرانية كانت قد رحبت بالرئيس الأسود لأسباب عدة، بينها: أولاً، لأنه يسعى إلى محاورة خصومه، بعكس الرئيس بوش الذي يصنف معارضيه ب"جماعة الشر". ثانياً، لأن اسم والده"حسين". وهذا من أحب الأسماء وأقربها إلى قلوب الإيرانيين والشيعة في العالم. ثالثاً، كلمة"أوباما"باللغة الإيرانية تعني"هذا واحد منا"... والثابت أن مفعول خطب المهرجانات الانتخابية ينتهي فور دخول الرئيس الفائز إلى البيت الأبيض. ولهذا تتوقع طهران حصول بعض التقدم في العلاقات، لأن إدارة بوش نسفت كل جسور الحوار، خصوصاً أن الرئيس الجديد أعلن عن رغبة الحزب الديموقراطي في وقف الحروب التي يشنها الجمهوريون. وكان بهذا التلميح يشير إلى دور الرئيس بيل كلينتون في انهاء حرب العراق التي جرت في عهد بوش الأب. وهو الآن مستعد لمعالجة تداعيات الحرب التي شنها بوش الابن في أفغانستانوالعراق. يأمل الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي أن تستعاد العلاقات السياسية - الاقتصادية التي قطعت بين واشنطنوطهران قبل ثلاثين سنة. وربما تساعد الأجواء الانتخابية الرئيس محمود أحمدي نجاد على كسب أصوات الليبراليين والشبان الذين ينتخبون محمد خاتمي عادة. ويتوقع الرئيس الفرنسي ألا تكون اقتراحات أوباما أكثر تشدداً من الاقتراحات التي قدمتها الدول الست. أي الاقتراحات التي اعتبرت إيران شريكة في إدارة الأزمات الاقليمية، بدءاً بالعراق... مروراً بلبنان... وانتهاء بغزة. ويستدل من المواقف التي أعلنها مرشد الثورة علي خامنئي، أنه واثق من ترجيح كفة المصالح لدى الدول المهتمة بالشأن الإيراني. ذلك أن المانيا طلبت توسيع حجم تجارتها مع طهران، مثلما طلبت تركيا امتيازات إضافية لتطوير حقول الغاز. وهي بذلك تريد أن تُمنح امتيازات مساوية لامتيازات روسيا في عملية تطوير حقول النفط في محافظة خوزستان، والشيء نفسه ينسحب على الصين التي وقعت عقداً بأكثر من عشرين بليون دولار للتزود بالنفط الإيراني. في حين توشك الهند على توقيع اتفاق لمد أنبوب غاز من الحقول الايرانية بكلفة بلايين الدولارات. وبناء على هذه الاتفاقيات التجارية، يشعر الرئيس نجاد بأن مصالح الدول الكبرى هي التي ترسم حدود التعاون مع بلاده، كما يشعر بأن أوباما سيعتمد على تقرير بيكر - هاملتون الذي أوصى بضرورة التعاون مع ايران وسورية من أجل التوصل الى حلول مرضية لأزمات الشرق الأوسط. عندما أعلن باراك أوباما عن استعداده لمحاورة ايران من دون شروط مسبقة، انتقده"اللوبي اليهودي"لأنه قدم تنازلات قبل الحصول على أي ثمن، كذلك هاجمته الصحف الاسرائيلية لأنه في نظرها، اضعف حجة أميركا بتجديد العقوبات، كما أضعف موقف اسرائيل الداعي الى استخدام القوة. ومعنى هذا ان الدعوة الى فتح الحوار ستشل قدرة اسرائيل على حشد تأييد دولي بهدف منع ايران من حيازة قنبلة نووية. أعلنت هيلاري كلينتون ان مساعي الانفتاح على ايران تسبقها مشاورات مع حلفاء أميركا الثابتين في الخليج العربي، وهي بهذا الكلام تريد تطمين جيران ايران الى ان استئناف العلاقات السياسية - الاقتصادية لن يكون على حساب علاقاتهم معها، ولن يخل بميزان القوى في المنطقة. ويرى بعض الدول العربية ان عودة العلاقات مع طهران ستوسع نفوذ ايران، الأمر الذي يفرض رسم توازنات جديدة في المنطقة خوفاً من سقوط التوازنات القائمة على الاحترام المتبادل. علماً بأن هناك ثلاث دول في الخليج عزفت عن المشاركة في انتقاد التحرك الأميركي، لأنها تريد البقاء على الحياد. تقول مصادر مقربة من إدارة أوباما ان جورج بوش تجاهل مبادرة السلام العربية، في حين يعمل الرئيس الجديد على جعلها قاعدة انطلاق لاستراتيجيته الخارجية. وقد اختار من أجل تنشيط هذه المهمة ثلاثة مبعوثين سوف يعملون تحت إشراف دنيس روس وتوجيهاته. وبخلاف سياسة بوش التي قامت على فصل الأزمات، واحدة عن الأخرى، فإن أوباما يسعى الى احياء كل المسارات المجمدة بحيث تتم معالجة كل القضايا المتشابكة بطريقة متوازية. وفي هذا يقول روس ان واشنطن لن تنتظر تخلي ايران عن مشروعها النووي كي توافق اسرائيل على الانسحاب من الضفة الغربية. أو تنتظر قيام دولة فلسطينية من أجل إعادة رسم الحدود. قال أوباما في إحدى خطبه الانتخابية، انه ليس من المفيد لأميركا وحلفائها، إبقاء أزمة العراق محور اهتمام سياستنا الخارجية، كما انه ليس من مصلحة أميركا استنزاف نشاطها الديبلوماسي والعسكري في موقع أفرز إرهاباً جديداً لم يكن موجوداً إلا في افغانستان. وعليه يرى انه من الضروري اعادة ترتيب المنطقة على نحو يحتوي النزاعات القائمة ويمنع انفجار نزاعات جديدة. ومثل هذا التصور المثالي لا يتحقق إلا إذا كان الرئيس الأميركي حراً من قيود حلفائه، وواثقاً من قوة بلاده واقتصادها، ومؤمنا بأن اسرائيل تخضع لإرادته لا لإرادة"اللوبي"الذي أرغمه على التزلف عبر خطاب بدأه بهذه العبارة:"عندما أصبح رئيساً لن أساوم على أمن اسرائيل، وسأحافظ على تفوقها النوعي وسأعمل على عزل"حماس"واتخذ كل التدابير لمنع ايران من الوصول الى السلاح النووي!". * كاتب وصحافي لبناني نشر في العدد: 16724 ت.م: 17-01-2009 ص: 17 ط: الرياض