في ضغطه المتواصل على الأعصاب السياسية والاقتصادية والثقافية للعالم المعاصر يصنع الغرب، قاصدا أو غير متعمد، ظواهر في أماكن شتى، متكئا على إمكاناته المادية والمعنوية الهائلة، الممتدة من الأسلحة الأكثر فتكا إلى أجهزة الإعلام الأعلى صوتا. وبحجة دفاعه عن مصالحه الاستراتيجية استمرأ الغرب فكرة وعملية اتخاذ دول العالم الثالث حقل تجارب لنظرياته في العلوم الإنسانية، والتي أنتج آخرها ظاهرة القرصنة التي يعاني العالم بأسره منها حاليا. ففي مطلع تسعينات القرن المنصرم سكّت الولاياتالمتحدة مصطلح"التدخل الحميد"الذي رمت منه إلى إعادة الأمن والاستقرار لربوع الصومال، لكنها قصرته على الجانب العسكري، فانتهى بفشل ذريع، تجسد في عملية انسحاب القوات الأميركية من هناك تلبية لنداء الشعب الأميركي نفسه الذي روعه مشهد تقاذف أقدام بعض الصبية الصوماليين رأس جندي أميركي مقطوع. وبعدها تفكك الصومال، وانتقل من"الدولة"إلى"الكيان الاجتماعي العشوائي"الذي يضربه العنف والضعف والفقر المدقع، حتى جاءت"المحاكم الإسلامية"فراحت تعيد تجميع أوصال الصومال، وترد إليه قوة"الضبط الاجتماعي"القاهرة، والمرجعية السياسية الحاكمة، والآليات المؤسسية التي إن كانت ضعيفة أو جنينية فهي على كل حال أفيد وأجود من الغياب التام لأي تنظيم إداري أو قانوني. لكن من سوء طالع"المحاكم الإسلامية"هذه أن الولاياتالمتحدة كانت بدأت تفكر في تجريب نظرية جديدة أطلقت عليها"الفوضى الخلاقة"والتي نبتت في ركاب استراتيجية"مكافحة الإرهاب الدولي"وهي من تداعيات حدث 11 أيلول سبتمبر الرهيب. وما جعل واشنطن معنية بمد تصوراتها تلك إلى الصومال أن المحاكم نفسها لم تبرأ من عيوب جسيمة وارتكاب أعمال مشينة سواء ضد المجتمع الصومالي البسيط أو ضد دول الجوار الإقليمي، ناهيك عن مساندتها الملموسة للكثير من التنظيمات التي تناصب الولاياتالمتحدة وحلفاءها العداء جهارا نهارا، وفي مطلعها تنظيم"القاعدة". ولهذا اتسعت الحملة الأميركية ضد"الإرهاب"لتطوي الصومال، إذ قامت واشنطن بدفع أديس أبابا إلى شن حرب بالوكالة لاقتلاع"المحاكم الإسلامية"ومطاردتها، كما سبق أن اقتلعت حركة"طالبان"من حكم أفغانستان، وأسقطت نظام صدام حسين في العراق. ورغم أن الإثيوبيين مطالبون، بوصفهم قوة احتلال، بإدارة الصومال وحماية سواحله، فإنهم تراخوا في أداء هذه المهمة، لاسيما بعد تمكن قوات"المحاكم"من تجميع أشلائها، ومعاودة الهجوم على الكثير من المدن الصومالية لاستردادها، ومهاجمة القوات الإثيوبية ذاتها في أكثر من مكان، حتى باتت أديس أبابا تشعر بالحرج البالغ والثمن الباهظ لاحتلالها الصومال، ومن ثم تفكر في الرحيل عنه. عند هذه النقطة عادت الصومال مرة أخرى إلى مرحلة ما قبل الدولة، حيث التشرذم الاجتماعي والتطاحن السياسي وغياب سلطة القانون، وأصبحت الأوضاع هناك تسير في اتجاهين، كلاهما يغذي الميل إلى ارتكاب الجرائم المنظمة ومنها القرصنة، الأول يرتبط بتحول أراضي الصومال إلى ساحة لتصفية بعض الصراعات الإقليمية، ومكان مثالي لنشاط العصابات الدولية، والثاني يتعلق بتحلل الشعور بوجود سلطة محلية وطنية جامعة تتجاوز الهويات والانتماءات القبلية والعشائرية والمناطقية الضيقة، واستبداله بشعور مغاير يتأسس على"الخلاص الفردي"و"الاستحلال"والتصريف اليومي للأمور، والبحث عن أي سبيل يجعل قطاعات من الصوماليين تستمر على قيد الحياة. وزاد على ذلك أن"المحاكم الإسلامية"وجدت نفسها في حاجة ماسة إلى تدبير كل الركائز المادية التي تؤهلها لإخراج الإثيوبيين من أراضي الصومال، ومنها شراء السلاح، وتوفير أجور المرتزقة، واستمالة بعض وجهاء العشائر ومشايخ التيارات الدينية التقليدية. ومن ثم فليس هناك ما يمنع من أن تستغل المحاكم ظاهرة القرصنة في تحقيق مكاسب مادية لها، سواء باقتسام الغنيمة مع القراصنة، أو بالتصدي لهم نظير مقابل تدفعه القوى الدولية التي تمتلك سفنا تسير في المحيط الهندي وتسلك قناة السويس. ومواجهة هذه الظاهرة"السرطانية"لا يجب أن تقوم على تجريب نظريات سياسية واستراتيجية غربية جديدة، ومنها إعادة احتلال الصومال كاملا، أو دفع أساطيل بعض الدول الكبرى إلى المياه الإقليمية لهذا البلد الصغير المفكك، أو توجيه ضربات مكثفة إلى مناطق ومواقع محددة في الصومال تتركز فيها"المحاكم الإسلامية"على وجه الخصوص. فمثل هذه الأساليب لا يمكنها أن تأتي بثمار طيبة، بل قد تزيد الطين بلة، وتوسع دائرة"الفوضى الهدامة"على أرض الصومال، وتجعل قطاعا عريضا من الصوماليين يفضل الانتحار في عرض البحر عن الموت جوعا ومرضا فوق الأرض القاحلة، ومن هنا تتسع دائرة القرصنة، وتجد لها جذورا اجتماعية بعد أن كانت ترتبط بالتشكيلات العصابية والإجرامية. ويبقى الحل الأنجع في النهاية هو إعادة الدولة الصومالية إلى قيد الحياة مرة أخرى، بإيجاد سلطة مركزية ضابطة، وتوفير الدعم المادي والمعنوي لها، بما يمكنها من السيطرة الكاملة على حدود الصومال وسواحله، ويجعلها في موضع مساءلة دولية إن قصرت في أداء هذا الدور وتلك المهمة. وهذا الأمر يتطلب استبدال سياسة المواجهة والحسم العسكري للمحاكم أو غيرها بسياسة التيسير والاحتواء، أو استعمال الخيار العسكري لخدمة هدف واحد وهو استعادة مركزية الدولة في الصومال، وهي مسألة يجب ألا تكون بعيدة عن أذهان القوى الإقليمية المتضررة من استفحال ظاهرة القرصنة وفي مقدمها مصر والسعودية واليمن، وعليها أن تقنع القوى الدولية الساعية بكل قوتها إلى الحفاظ على تدفق النفط إليها بتبني هذا التصور، الذي يبدو أنجع وأقل كلفة من الخيارات العسكرية الانتقامية. پ * كاتب وباحث مصري.