جاء السطو المسلح على سفن تجارية عدة في المياه الدولية في خليج عدن، ومن جماعات صغيرة للقرصنة، كاشفا فجأة عن مدى الخلل الأمني الذي يهدد المنطقة الممتدة من المحيط الهندي إلى خليج عدنوالبحر الأحمر. فقبل أيام تم اختطاف سفينة يمنية كانت متجهة إلى جزيرة سقطرة اليمنية في المحيط الهندي. قبلها جرى في 18 من هذا الشهر اختطاف سفينة تستأجرها إيران وعليها 36 ألف طن من القمح. مع ذلك استمر حادث السطو المسلح الذي قام به القراصنة الصوماليون على ناقلة بترول سعودية في 15 من الشهر هو الحدث الأكبر الذي كثف إشارات الخطر في المحيطين الإقليمي والدولي. كانت ناقلة البترول العملاقة هذه"سيريوس ستار"تحمل 318 ألف طن من البترول، وطولها 330 مترا، ووزنها يفوق حاملة طائرات أميركية. لقد جرى السطو عليها على مسافة 800 كيلومتر إلى الجنوب الشرقي من ميناء مومباسا في كينيا، إذ كانت متجهة إلى غرب إفريقيا عبر رأس الرجاء الصالح. لم يكن لافتا فقط أن حمولة الناقلة من البترول تتجاوز قيمتها مئة مليون دولار، ولا أن القراصنة يطلبون 25 مليون دولار للإفراج عنها. لكن الدلالة تكمن في أنها تمثل أكبر صيد للقراصنة على الإطلاق وأن موقع السطو كان في المياه الدولية وهو ما يوضح مدى الخطورة التي بلغتها عمليات القرصنة هذه التي تمارسها تلك العصابات المنطلقة من الصومال. الدلالة الأخرى هي أن عمليات القرصنة تلك تصاعدت حيث أنه منذ كانون الثاني يناير الماضي فقط تعرضت 83 سفينة أجنبية على الأقل للهجوم قبالة السواحل الصومالية في خليج عدن والمحيط الهندي، من بينها 33 تعرضت للخطف ولا تزال 12 سفينة و300 من طواقمها في أيدي القراصنة. هذه العمليات قفزت بحوادث القرصنة في تلك المنطقة لتصبح أكثر من ضعفي حوادث قرصنة أقل نطاقا خلال السنوات الثلاث الأخيرة مجتمعة. وفي 31 عملية نجح القراصنة في الخروج بمكاسب مالية. ويقدر وزير خارجية كينيا أن هؤلاء القراصنة حصلوا في العام الماضي فقط على 150 مليون دولار من خلال ابتزازهم للشركات والدول المالكة للسفن التي اختطفوها. الدلالة الأكثر إثارة للتأمل هنا هي أن تلك العمليات من القرصنة البحرية تجري في منطقة يوجد فيها ما لا يقل عن 14 سفينة حربية امتدادا من خليج عدن وبالقرب من الصومال، من بينها أربع سفن حربية لحلف شمال الأطلسي وعدد أكبر من السفن الحربية التابعة للأسطول الخامس الأميركي، بالإضافة إلى قاعدة حربية أميركية - فرنسية مشتركة في جيبوتي. بل إن أميركا أقامت أخيراً قيادة عسكرية إقليمية مستجدة خاصة بإفريقيا أفريكوم وفوق ذلك لأميركا وجود مدني في مدن كينيا الساحلية وعلى امتداد القرن الإفريقي، وهو وجود يتم تحت إشراف وزارة الدفاع الأميركية وتصرف عليه من ميزانيتها. الأهم من هذا كله أن أميركا سبق لها أن دعمت غزوا عسكريا إثيوبيا لأراضي الصومال في 2006، وأصبح بحد ذاته سببا إضافيا للفوضى التي يعاني منها الصومال منذ العام 1993 على الأقل. فوضى جعلت الساحل الصومالي 3900 كيلومتر مستباحا لتنطلق منه عمليات القرصنة المتصاعدة هذه. كانت تلك العمليات بدأت على استحياء مع انهيار سلطة الحكومة المركزية الصومالية في أعقاب الغزو الأميركي ثم بدرجة أكبر مع الغزو الإثيوبي. بدأت العمليات باستخدام الصيادين الصوماليين للسلاح دفاعاً عن شواطئهم الغنية بأسماك التونة ضد الأساطيل التجارية الأجنبية الكبيرة التي بدأت تأتي لاستغلال ثروات منطقة لم تعد فيها سلطة دولة. لم تعد هناك سلطة منقسمة ولا دولة مفككة فقط وإنما توجد أيضا قوات إثيوبية لا تزال تراوغ في الانسحاب من الأراضي الصومالية. لكن العمليات التي بدأت بصيادين يستخدمون السلاح لفرض أتاوات على سفن الصيد الأجنبية الكبيرة تصاعدت وتطورت لتصل إلى اختطاف سفينة بترول سعودية من المياه الدولية بما طرح خطرا داهما يهدد كل مسار التجارة الدولية في تلك المنطقة. ولاحظ المراقبون أخيراً أن هؤلاء القراصنة أصبحت لديهم زوارق سريعة مزودة بقوة نيران إضافية بما فيها مدافع 14.5 مم مضادة للطائرات ورشاشات وقاذفات صواريخ تمثل تهديدا خطيرا حتى لأكبر السفن التجارية. وتقول صحيفة"لوفيغارو"الفرنسية إن تلك الزوارق السريعة التي أصبح القراصنة الصوماليون يستخدمونها في عملياتهم مزودة بالهواتف المتصلة بالأقمار الاصطناعية وكذلك بقاذفات مضادة للدروع وبنادق هجومية. أما أبو بكر القربي وزير خارجية اليمن فيقرر أن هؤلاء القراصنة"لديهم أجهزة اتصال عبر الأقمار الاصطناعية التي تراقب حركة كل سفينة لتتعرف على المعلومات حول خطوط السير الخاصة بها، والدليل على ذلك عندما استولوا على قارب يمني وحاولوا أن يستغلوه في عمليات القرصنة قبل أن تقوم البارجة البريطانية بتحريره". ربما من أجل هذا طالب الرئيس اليمني علي عبدالله صالح الدول الكبرى ودول الجوار بالتعاون مع اليمن من أجل حفظ أمن واستقرار البحر الأحمر وخليج عدن والمحيط الهندي، مشيرا في لقاء تلفزيوني بثته قناة"روسيا اليوم"إلى"استعداد بلاده للتعاون مع أي أساطيل غربية تصل لتأمين المنطقة"ومشددا على أن ظاهرة القرصنة هذه لن تنتهي من دون أن تبذل الأسرة الدولية جهودا لإعادة بناء الدولة الصومالية وإعادة هيكلة مؤسساتها. في الواقع لم تنتظر أطراف دولية عديدة تلك الدعوة، فالاتحاد الأوروبي مثلا قرر للمرة الأولى تشكيل قوة بحرية ستعمل في المنطقة اعتبارا من 8 من الشهر المقبل، بقيادة بريطانية، لمواجهة عمليات القرصنة. وكان حلف شمال الأطلسي أرسل إلى المنطقة في نهاية الشهر الماضي أسطولا صغيرا من أربع بوارج حربية. الآن سيتولى الاتحاد الأوروبي المهمة عنه بإرسال خمس أو ست سفن حربية مدعومة بطائرات خاصة بالدوريات البحرية. في الوقت نفسه تدفقت إلى المنطقة سفن حربية من فرنسا وإسبانيا وروسيا والهند وكوريا الجنوبية. وكل هذا اضافة الى السفن الحربية الأميركية الموجودة سابقا في المنطقة كجزء من الأسطول الخامس، وأيضا إعلان قائد البحرية الروسية قبل أيام عن نية بلاده إرسال سفن حربية إضافية لكي توجد في تلك المنطقة بصفة منتظمة. لكن الجمعية الدولية لأصحاب ناقلات البترول التي تتخذ من لندن مقرا لها بدأت تلح أخيرا على فكرة فرض حصار بحري على السواحل الصومالية قبل أن تتضاعف الانعكاسات الخطيرة للقرصنة على التجارة الدولية التي تعتمد بنسبة تسعين في المئة على النقل البحري. في الواقع إن تداعيات تلك الأخطار بدأت فعلا بقيام شركات التأمين بمضاعفة معدلاتها التأمينية التي تتقاضاها من السفن العابرة للمنطقة. كما أن المنظمة الدولية للملاحة البحرية حذرت في 21/ 11/ 2008 من سلسلة التداعيات السلبية إذا اضطرت السفن لتغيير مسارها والدوران حول جنوب إفريقيا بدلا من عبور قناة السويس المصرية لتجنب التعرض للقرصنة في خليج عدنوالبحر الأحمر. ربما من أجل هذا قام وزير خارجية مصر أحمد أبو الغيط بتشكيل مجموعة عمل مختصة بمتابعة التطورات المتلاحقة نتيجة حوادث القرصنة تلك. وبعد تحضير هادئ استضافت وزارة الخارجية في القاهرة في 20 /11/ 2008 مؤتمرا تشاوريا للدول العربية المطلة على البحر الأحمر السعودية - الأردن - السودان - مصر - جيبوتي - اليمن زائدا مشاركة من الحكومة الانتقالية في الصومال والجامعة العربية. وبدا أن الفكرة من هذا الاجتماع التشاوري الأول، والاجتماع التالي المماثل في اليمن في شهر كانون الثاني المقبل، أن لا تصبح الساحة خالية للتدخل الدولي. بالطبع ليست واردة هنا أي حلول عسكرية لمشكلة القرصنة وإن يكن التصدي المسلح المنسق غير مستبعد من بعض الأطراف الدولية، وهو ما يوضحه مشروع القرار الذي تسعى أميركا إلى استصداره من مجلس الأمن توسيعا لسلطات التدخل الدولي التي كفلها القرار 1816 الذي صدر في حزيران يونيو الماضي. إنما الحل الجذري يظل هو التعامل مع أساس المشكلة قبل نتائجها. والأساس هو العمل الجاد لوقف حال الانهيار القائمة في سلطة الدولة الصومالية وهو ما يفرض - ضمن عوامل أخرى - انسحاب قوات الغزو الإثيوبية من الصومال، وبناء توافق وطني صومالي بدعم إقليمي ودولي يعيد للدولة الصومالية وحدتها وسلطتها المركزية وبالتالي قدرتها على حماية سواحلها الممتدة. المشكلة بدأت من هنا والحل يجب أن يبدأ من هنا. وفي المستوى الإقليمي سوف نعرف مدى الجدية في السعي إلى هذا الحل وشيكا من خلال مؤتمر القمة الإفريقي المقبل المقرر انعقاده في إثيوبيا في كانون الثاني المقبل. إثيوبيا هي ذاتها التي قامت - وبدعم أميركي - بغزو وتفكيك الصومال قبل سنتين. وهي أيضا التي لا تزال ترفض الانسحاب منه. فإذا كانت القضية الملحة الآن هي استعادة وحدة الصومال وسلطته المركزية وحماية سواحله لأن هذا هو أقصر الطرق لقطع دابر القرصنة، يصبح السؤال المحوري هو: هل تصبح إثيوبيا جزءا من الحل أو جزءا من المشكلة؟ في اجتماع القمة الإفريقية بأديس أبابا في شهر كانون الثاني يناير المقبل سنعرف الإجابة. لكن حتى من قبل أديس أبابا، إذا لم تسارع الدول العربية المطلة على البحر الأحمر الى استكمال واجباتها التي بدأتها باجتماعها التشاوري في القاهرة فإن الأساطيل الدولية ستصبح لها اليد العليا في استثمار واستغلال خطر القرصنة. * كاتب مصري نشر في العدد: 16676 ت.م: 30-11-2008 ص: 17 ط: الرياض