أدت الحرب العالمية الأولى الى سقوط امبراطوريتين قديمتين وتوزيع بقية ممتلكاتهما على المنتصرين بأشكالٍ وصيغٍ متعددة. الإمبراطوريتان المنهارتان هما النمسوية والعثمانية. وقد أرغم الرئيس الأميركي وودرو ويلسون الفرنسيين والبريطانيين المنتصرين على تنظيم التقاسم داخل أوروبا وخارجها من طريق اعطاء الشعوب الإثنيات؟ حقّ تقرير المصير. وبذلك، ومن خلال الانحلال والحرب والاضطراب ظهرت بين عامي 1918 و1921 عشرات الدول وأشباه الدول، وتحت مسميات مختلفة مثل التحرير والاتفاقيات والمعاهدات والانتداب والوعود المحققة أو المؤجَّلة. وثارت مشكلات ما وجدت حلاً مثل الإثنيات الصغيرة والمتوسطة الحجم في البلقان، والأرمن والأكراد واليهود. وما نجحت محاولات البريطانيين والفرنسيين؟ آنذاك لتفكيك الإمبراطورية الروسية. فصحيح ان الثورة الشيوعية في روسيا القيصرية عام 1917 حرمت روسيا من أن تكون بين المنتصرين بعد خروجها من الحرب في صلح برست ليتوفسك مع المانيا، لكن تلك الثورة حافظت وبالقوة على مواريث روسيا القيصرية وطوَّرتها ووسعتها عندما خرجت من الحرب الثانية منتصرةً، وصارت إحدى القوتين الأعظم في العالم. عملت روسيا السوفياتية في اطارين: إطار الموروث القيصري، في آسيا الوسطى والقوقاز وشرق أوروبا والبلقان ? وإطار الانتصار في الحرب العالمية الثانية، من خلال إيجاد حلف وارسو، وفيه تحت السيطرة الروسية عشرات الدول المستقلة، لكن التابعة للاتحاد السوفياتي، بالعنوان الأُممي. وكانت الولاياتالمتحدة، التي بدأ التجاذب بينها وبين روسيا حليفتها في الحرب، عام 1947، قد أوجدت حلف الأطلسي، وهو إطارٌ عسكريُ وأمنيٌ، هدفه بالأساس حماية أوروبا الخارجة مثخنة من دمار الحرب الثانية، من تغوُّل الاتحاد السوفياتي المتوسع أفقياً ورأسياً. أما منطقة البلقان، فقد بقيت فيها مشكلاتٌ على رغم السيطرة السوفياتية على جزءٍ منها. ذلك أن شعوباً عدة صغيرة أو اثنيات جرى استيعابها داخل يوغوسلافيا الاشتراكية، لكن اليوغوسلاف بقوا خارج حلف وارسو، وأنشأوا ما يشبهُ منطقةً عازلةً بين الشرق والغرب. وسلَّم، الطرفان الغربي والشرقي بذلك بصعوبة، حرصاً على الاستقرار في تلك الأقاليم المضطربة منذ القرن السابع عشر. انفجرت الحرب ? التي سُمّيت باردة لأنه لم يحصُل فيها صدام مباشر بأسلحةٍ غير تقليدية ? بين الجبارين في الشرق الأقصى، في كوريا. ومع مجيء العام 1951 كان العالم قد انقسم بوضوحٍ الى معسكرين. ثم جاءت مبادرة دول عدم الانحياز، والحياد الإيجابي، بدءاً بمؤتمر باندونغ عام 1955، والتي قادتها مصر الناصرية، وهند نهرو، ويوغوسلافيا تيتو وإندونيسيا سوكارنو، والصين التي حضر منها شو إن لاي، من دون أن تستطيع إحداث تغيير استراتيجي باتجاه منع الحروب في العالم الثالث، ولا باتجاه صنع عالمٍ آخر غير صراعي من خلال المؤسسات الدولية. في أواسط الخمسينات من القرن الماضي، كانت دول التحالف الغربي بقيادة الولاياتالمتحدة قد بلورت استراتيجيةً لمواجهة الاتحاد السوفياتي تقومُ على ملف الحرية والديموقراطية للشعوب والدول، وبداخل الشعوب والدول. وواجهها الاتحاد السوفياتي بملفّ التحرر من الاستعمار والإمبريالية. وبين الخمسينات والسبعينات ظلّ الاتحاد السوفياتي في موقع الهجوم، على الأرض، وفي الإيديولوجيات من خلال الثوران على الاستعمار، وحروب التحرير، والحريات الاجتماعية والاقتصادية، وفي سائل أنحاء العالم، انما في شكلٍ رئيسي في قارتي آسيا وافريقيا، وأميركا الجنوبية والوسطى. وبلغ من نجاح هذه الاستراتيجية أنها وصلت الى الحديقة الخلفية للولايات المتحدة في كوبا وأميركا الوسطى. وبلغ من نجاح هذه الاستراتيجية أيضاً أنها أنست العالم الطابع الإمبراطوري لروسيا، وسيطرتها السياسية والعسكرية على عشرات الشعوب والإثنيات ضمن الموروثات القيصرية، وضمن دول حلف وارسو. وفي حين كان للاتحاد السوفياتي مجالٌ للنفوذ في كلّ دول العالم من خلال الأحزاب الشيوعية، ما استطاع التحالف الغربي الاختراق لا من خلال تحركاتٍ إثنية وقومية كان يُراهن عليها، ولا من خلال أحزابٍ مواليةٍ له في دول حلف وارسو ذات الحزب الواحد، ولا في الدول المتحررة حديثاً من الاستعمار الأوروبي القديم. وفي حين انحفظ التوازن بعض الشيء بانفصام التحالف السوفياتي الصيني أواسط الستينات، وعدم حصول اختراق في أوروبا الغربية، واستمرار سيطرة الغرب في مجلس الأمن، فإن السوفيات مضموماً اليهم دول عدم الانحياز سيطروا على الجمعية العامة للأمم المتحدة. وبنتيجة هذا الموقف الصراعي في كل مكان، تعطلت المؤسسات الدولية في الحقيقة، والتسويات القليلة التي أُجريت تمت بين الجبارين، ومن خارج تلك المؤسسات. وبرزت توافقاتٌ واستثناءاتٌ قليلة: عدم إحداث اضطراب في أوروبا، وظهور"إجماع"على تحرر جنوب إفريقيا، وعلى عدم تهديد أمن اسرائيل. التوافقُ في أوروبا سببهُ السلاحُ النووي/ الصاروخي المتقابل، والحرص على الاستقرار البلقاني من خلال الوجود القوي والمتوازن ليوغوسلافيا تيتو. وفي جنوب إفريقيا بسبب صعود القوة السوداء في الولاياتالمتحدة، والعداء العالمي لسياسات التمييز العنصري. أما اسرائيل فلاستمرار الاقتناع من الطرفين بأنّها الحلُّ الوحيدُ الممكن للمشكلة اليهودية العالمية، بعد المذابح الهتلرية. وبدأت الولاياتالمتحدةُ هجومها المستأنف أواخر السبعينات من القرن الماضي من خلال اضافة الإيمان الى الحرية في مقولتها الاستراتيجية منذ أواخر الأربعينات. وحصل الانكشافُ الروسي في زمنٍ متقاربٍ أواخر السبعينات في بولندا وأفغانستان. في بولندا دانزيغ حصل تمردٌ عماليٌ/ كاثوليكي، ما أمكن قمعه بالقوة كما حدث في هنغاريا في الخمسينات، وفي تشيكوسلوفاكيا في أواخر الستينات. وفي أفغانستان انتصر الروسُ لانقلابٍ شيوعيٍ في رأس السلطة، وأدخلوا قواتهم المسلحة لدعمه. وردًّ الأميركيون في المكانين بسرعة: في بولندا بالتحالف مع البابا الجديد يوحنا بولس الثاني صاحب شعار الإيمان والحرية. وفي أفغانستان بإرسال متطوعين من أنحاء العالمين العربي والإسلامي للجهاد ضد الشيوعيين الكَفَرة! والى جمود القيادة الروسية وعجزها، أضاف رونالد ريغان"حرب النجوم"في سياق سباقٍ للتسلح عديم النظير من قبل، لإسقاط الشيطان الأكبر. وفي أواسط الثمانينات من القرن الماضي، كانت ثلاث دياناتٍ كبرى: البروتستانتية والكاثوليكية والإسلام، تناضلُ معاً من أجل"الإيمان والحرية". وما شكلت البريسترويكا فرصةً لالتقاط الأنفاس، لارتفاع الأصوات داخل روسيا، بأن الشيوعية ومسؤولياتها العالمية صارت عبئاً على روسيا ? وزاد الطين بلّةً وفاةُ جوزيب تيتو آنذاك، وصعود النزعة القومية الصربية لتغيير نظام الاتحاد، والاستيلاء على جمهورياته وإثنياته ومناطق الحكم الذاتي فيه بالقوة! ومن دون تفاصيل كثيرة صارت معروفة، انتهت الحرب الباردةُ عام 1990 بسقوط الاتحاد السوفياتي وحلف وارسو، وسقطت معها بعضُ نتائج الحرب الأُولى، وبعضُ نتائج الحرب العالمية الثانية، بل وبعضُ أجزاء روسيا القيصرية. وظهرت أهمُ تلك النتائج خلال خمس سنوات 1989 ? 1994: توحيد المانيا من جديد، وبروز دول آسيا الوسطى الإسلامية، ودول القوقاز، ودول بحر البلطيق الثلاث، وروسيا البيضاء وأوكرانيا، والتفكك المأسوي للاتحاد اليوغوسلافي... وأخيراً وبعد عشر سنواتٍ من الاضطراب تغيير حدود صربيا نفسها من خلال استقلال مقاطعة كوسوفا عنها بعد الجبل الأسود. ونظر الغربُ الى هذه العملية التاريخية، أو الولاياتالمتحدة على الأقلّ، باعتبارها انتصاراً كاملاً في حربٍ عالميةٍ ثالثةٍ كان اسمها الحرب الباردة. لذا وبدلاً من الاكتفاء بالاتحاد الأوروبي وتوسيعه، وتقوية منظمة الأمن والتعاون داخل القارة وجوارها، عمد أيضاً وبإصرارٍ من الإدارة الأميركية أيام كلينتون وبوش الى تقوية حلف الأطلسي العسكري الطابع، وبدأ يضمُّ دولاً كانت في حلف وارسو. وكانت آخر الأعمال المجيدة قبل أيام بدء نشر شبكة صاروخية دفاعيةّ في بولندا. وما استطاعت روسيا الغارقة في البؤس والفوضى في التسعينات الإجابة عن هذا التحدي الاستراتيجي، باستثناء شنّ الحرب القاسية على المتمردين الشيشان، وإبقاء القبضة العسكرية والأمنية على دول آسيا الوسطى التي أقامت الولاياتالمتحدة قواعد عسكرية في بعضها بحجة ضرورة ذلك للحرب في أفغانستان!. لكن الثوران الإثني والقومي والديموقراطي؟ ما كان من الممكن ايقافه، لأنه كان يعبر عن نفسه بانتخاباتٍ واستفتاءاتٍ شعبيةٍ وتظاهراتٍ حاشدة. وعندما حاولت صربيا ايقاف الثوران بالقوة في البوسنة وكوسوفا، تدخلت قوات حلف الأطلسي لضرب الهجمات، وإرغام الصرب على الانسحاب، باسم القانون الدولي الإنساني، لارتكاب الصرب جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، قيل مثلها عن روسيا في الشيشان! واستعادت روسيا توازُنها الداخلي خلال السنوات العشر الماضية، في عهود الرئيس بوتين. وعادت الى المسرح الأوروبي والدولي بقوة. وبدا للوهلة الأولى أنها لا تريد العودةً الى الحرب الباردة، وانما تريد شراكةً مع العالم الغربي، في الوقت الذي صحّحت فيه أيضاً علاقاتها مع الصين الناهضة. ويبدو أن الأوروبيين، الذين أذهلتهم اندفاعات الأوحدية القطبية الأميركية، وميولها الى استخدام القوة العسكرية، كانوا يميلون الى التقابل واللقاء مع روسيا المجاورة، من ضمن استراتيجيات الاعتماد المتبادل. وكان بينهم من قال إبان الاضطراب الديموقراطي في أوكرانياوجورجيا، إنه لا يجوزُ تحميلُ روسيا ما لا تحتمل في حديقتها الخلفية، وفي البحر الأسود بالذات. لكنهم عجزوا أمام الإصرار الأميركي من جهة، وبروز الميول الروسية الى المزيد من"تصحيح"نتائج نهايات الحرب الباردة. الأميركيون يُصرون في كل مكانٍ في داخل روسيا ومن حولها في العالم الأرثوذكسي والبلقاني، على رعاية الثوران الإثني واحتضانه بحجتي حق تقرير المصير، والحرية... وأحياناً الإيمان! والروس يُصرون على أن عندهم مصالح استراتيجية في شرق أوروبا والقوقاز والبلقان لا يمكنُ تجاهلها وإلا تهدد أمنهم القومي. وقد أمكنَهم تجميدُ التوازنات الإثنية والقومية والدينية في آسيا الوسطى بالتحالف مع الأنظمة المسيطرة هناك وحمايتها ? وفي تركستان وما وراءها بالتعاون مع الصين، التي تخشى هي بدورها الانفصاليات الإثنية والدينية. وفي العملية التي قاموا بها ضد جورجيا لمصلحة الأوسيتيين والأبخاز وهما إثنيتان صغيرتان كانتا دائماً ضمن الدولة الجيورجية قالوا للأميركيين والغربيين إن الملفّ الإثني هو عملةٌ ذات وجهين، ويمكن استخدامهُ ضدهم أيضاً. وكان الروس أنفُسُهم مع الإيرانيين قد ساعدوا أرمينيا ضد أذربيجان في الاستيلاء على اقليم ناغورنو كاراباخ، من دون أن يقولوا بضمّ الإقليم الى أرمينيا أو استقلاله لعدم الدخول في لعبة تغيير الحدود. أما الغربيون فقد أجمعوا على استقلال كوسوفا عن صربيا، على رغم وجودها فيها منذ القرن الثالث عشر الميلادي. ويردُّ الغربيون بأنّ 90 في المئة من الكوسوفيين هم من الألبان، وقد أعلنوا عن رغبتهم في الاستقلال باستفتاءٍ شعبي حاشد. وعلى رغم الرغبات الجارفة لدى شعب كوسوفا بالانضمام الى ألبانيا، فإن الغربيين وللخروج من مسألة تغيير الحدود لمصلحة دولةٍ أخرى، ناصروا الاستقلال، وليس الانضمام. وعلى رغم أن الأكثرية في جمهورية الجبل الأسود مونتينغرو صربية، فإن الاستفتاء الشعبي هناك أدّى الى الاستقلال بسبب سياسات صربيا القمعية في كلّ مكان! وفي الخلاصة، هناك ثورانٌ إثني وديني في أنحاء واسعة من العالم. وقد كانت وستكون له تداعياتٌ على الدول والحدود والسياسات. وحتى الآن كان الثورانُ في شرق أوروبا والقوقاز والبلقان لغير مصلحة روسيا التي لا تزال تعجُّ بالإثنيات والقوميات الجريحة أو القلِقة. لكن نماذج ناغورنو كاراباخ وكوسوفا وجورجيا وأبخازيا وأوسيتيا، وربما الأكراد والبلوش والأويغور وكشمير والأمازيغ... الخ تشير الى أن هذا الملفّ، يمكن استخدامه بطرائق مختلفة ومتناقضة، بحسب مصالح القوى الكبرى، فإما أن تعمل تلك القوى على التهدئة وحلّ المشكلات بالتعاون ضمن الكيانات القائمة، أو تحدث صراعاتٌ وحروبٌ أهلية، أين منها حروب وپ"صراعات الحضارات"! * كاتب لبناني.