استبق خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، نهاية محادثات سائر الفصائل الفلسطينية في القاهرة، بالتصريح أن محمود عباس الرئيس الفلسطيني يصبح منصبه فارغاً في 9/1/2009، والواقع أنه وسط الخلاف الفلسطيني المستشري والذي تجاوز الانقسام السياسي الى الاقتتال الدموي، فإن خلو منصب الرئيس يتهدد بقايا الشرعية المعترف بها عربياً ودولياً للفلسطينيين. ولذلك كان من ضرورات التفاوض والإسراع فيه التوافق على حدٍ أدنى مثل الاتفاق على انتخابات رئاسية ونيابية مبكرة، أو الاتفاق الآن على العودة لحكومة الائتلاف الوطني التي تنظم عمليات انتقال السلطة وتداولها. إذ هناك الآن حكومتان، والمجلس التشريعي معطل، وحماس تعترف بمحمود عباس من الناحية الشكلية فقط، فقد أصروا على الدخول الى مقرة في غزة مراراً من أجل التفتيش والتخريب. إنما السؤال الآن هو لماذا صرح خالد مشعل بما صرح به متجاوزاً أو مستبقاً التفاوض؟ الراجح أن يكون قد فعل ذلك لإفشال الحوار، إذ يخشى أن تُحرج حماس وتضطر الى تنازلاتٍ للسلطة تحت ضغط مصر والفصائل الأخرى. وهم لا يريدون أن يحرموا من مناعم السلطة من جهة، أو لأنهم يريدون أكثر مما تعرضه عليهم الأطراف العربية والدولية؟ ومرةً أخرى: أين القيم والأخلاق وليس القانون والدستور، فقد تجاوزهما الطرفان! في هذا التصرف الذي أدى الى قيام"دولتين"وليس دولةً فلسطينيةً واحدة، وكل منهما تحت الاحتلال! وفي حين تسود التهدئة مع اسرائيل من الطرفين، لا هدوء من جانبهما تجاه بعضهما بعضاً، والغزوات مستمرة، مرةً بالقتل، ومرةً بالسلب، ومرةً بالاعتقال! وإذ سألت أياً منهما يزعم أن الآخر هو الذي بدأ. وهكذا، وبعد ان تفكك أي وعي سياسي لدى الطرفين، علت المسؤولية أو نزلت الى حدود الأخلاق! والاحتكام الى المسؤولية الأخلاقية لدى الفلسطينيين ضروري اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى، لأن النزاع داخلي، ولأن إسرائيل هي التي تستفيد منه إن لم تكن هي التي أثارته! فماذا سيقول الناس والتاريخ عن محمود عباس وعن خالد مشعل وأمثالهما إن بقي الوضع على ما هو عليه الآن؟ أحسن ما يمكن أن يُقال عن محمود عباس إنه رئيس فاشل. وعن خالد مشعل إنه أسهم اسهاماً رئيسياً في إضعاف قضية الشعب الفلسطيني. ولو كان النزاع مع اسرائيل للجأنا الى المؤسسات الدولية أو القرارات الدولية، كما نفعل منذ ستين سنة. إنما هذه المرة الانقسام داخلي، والاحتلالات المتبادلة داخلية. وفي الدول المستقلة يلجأون في حالات النزاع السياسي المستحكم الى الانتخابات الرئاسية أو النيابية المبكرة. فالتسوية الأخلاقية لا السياسية فقط في مثل هذه الحال تتمثل في إجراء انتخاباتٍ رئاسيةٍ وتشريعية، وليأتِ من يأتي، ويتحمل عندها الشعب الفلسطيني مسؤولية خياراته. أما البقاء على هذا الانقسام، وعلى هذا التجاذب الدموي، فهو أمر غير أخلاقي بالفعل، إذ إنه يضيّعُ خمسة عقودٍ من نضال الشعب الفلسطيني ودمه، ويترك ملايين الناس تحت رحمة إسرائيل. أما الملف الآخر العربي، والذي بلغ حدود الأزمة الأخلاقية، فهو الملف اللبناني. فاليوم ينعقد الحوار الوطني من جديد في القصر الجمهوري، وفي أجواء تهدئةٍ وليس أجواء حلولٍ أو حتى تسويات. الحل ذو البعد أو الأفق الأخلاقي يقتضي أن تسود سلطة الدولة الأمنية والعسكرية على سائر الأراضي اللبنانية، وذلك في ضوء تجارب عقود عدة مع الأمن المستعار والأمن المهزوز والاغتيالات والوصايات والاضطرابات الأمنية. بيد أن الكلام الوارد على ألسنة عدة ليست كلها قريبةً من حزب الله في العادة، يقول بأحد خيارين لا ثالث لهما: إما"التنسيق"بين الجيش وحزب الله، وبقاء كلٍ منهما على سلاحه ? أو"الإفادة"من الخبرة القتالية للحزب. والتنسيق لا نعرفُ طبيعته، كما أن الإفادة لا نعرفُ معناها بالضبط، لكن كلا الأمرين ليس فيه حلٌّ طبعاً، كما ان لا تسوية فيه. الحل هو في سلطة الدولة وحدها تجاه المواطنين وتجاه العدو، وهو غير مقصودٍ بالحوار الحالي في ما يبدو. والتسوية حدها الأدنى الأخلاقي سلام كل اللبنانيين وسلامتهم. ولا سلام ولا سلامة ما دام الطرف المعني على سلاحه، ولا ضمان ولا ضمانة لعدم استخدامه في الداخل كلما حلا لهم، والمعذرة حاضرة ليس على لسانهم فقط، وليس على لسان الجنرال عون فقط، بل وعلى ألسنةٍ أخرى ما كانت مع ذلك السلاح في العادة. والواقع أن سلاح حزب الله ليس هو المشكلة الوحيدة ذات الأبعاد السياسية والأمنية والأخلاقية في لبنان. لكن كما تعطلت السياسة =التسوية في ما يتصل بسلاح الحزب، تعطّل مسارُ المؤسسات أو أعيق اعاقاتٍ شديدةً لأسبابٍ مختلفة، وبسبب تعمق الانقسام السياسي بعد حرب تموز، جرى اختزال المسائل والمشاكل بحيث تركزت كلها حول سلاح الحزب. وعندما دخل الحزب أخيراً الى بيروت بالسلاح، صار تبرير هذا التركيز سهلاً، وبخاصةٍ بعد تصاعد التوتر الطائفي والمذهبي. ومن الأمثلة على تردي الأخلاقيات السياسية في الشهور الأخيرة هذا العجن والطبخ في التوطين، كأنما حُلت كل القضية الفلسطينية إلاّ هذه المسألة، كأنما لا عمل للفلسطينيين في لبنان اليوم إلا التخطيط للتوطن النهائي في هذا البلد الخالد والزاهر! وبلغ الأمر في هذا الشأن حدود الهذر عندما عمد بعض ممارسي العمل السياسي الى استحداث وظيفة جديدة لسلاح الحزب هي منع التوطين! وقبل أن أُغادر الملف اللبناني الشائك، والذي زاد من تعقيده وأبلغهُ حدود الأزمة الأخلاقية التوتر الطائفي والمذهبي، أُشيرُ الى أن النقاش في الكواليس وفي العلن يتجه الى محاولة تغيير دستور الطائف، الذي تعطل تطبيقه على أي حالٍ بعد أقلّ من سنةٍ على إقراره. والخطيرُ في هذا الأمر أن هذه الورقات هي البقيةُ الباقيةُ مما يتفق عليه معظم اللبنانيين. ويبدو أن قوىً في الأمر الواقع، وفي الجوار، تعتقد ان هشاشة الوضع الأمني والسياسي تتيح فرصةً لتغيير هذا الإطار النظري للوطن والدولة في لبنان، بعد أن تمكنت في الواقع أو خُيل اليها ذلك. والعلاقة بالمسألة الأخلاقية هنا تتمثلُ في أن العمل على تمزيق الدستور الآن، وسط الانقسام السياسي والطائفي المُريع، كفيلٌ بالزيادة من حِدة الأزمة، بحيث ييأس المواطنون غير المسلحين من إمكان العودة الى حياة السلم والطمأنينة والأمان. على أن الأزمة الأخلاقية الناشبة في أكثر بلدان المشرق العربي، والناجمة عن مواريث أربعة عقودٍ من التسلط والتوريات التخريبية، ليست فريدةً من نوعها في العالم. وأوضحُ الشواهد على ذلك ما يجري بين الولاياتالمتحدةوروسيا الاتحادية ليس في شرق أوروبا والقوقاز وحسب، بل وفي أنحاء كثيرةً من العالم. فالأوحدية القطبية التي انتهجتها الولاياتالمتحدة بعد نهاية الحرب الباردة، خلّفت خراباً سياسياً وأخلاقياً وصدوعاً لا يعمل أحدٌ على رأبها. والأوحدية هي غير القيادة، لأن القيادة تعطي وتأخذ وتستوعب وتدير. أما ما فعلته الولاياتالمتحدة فهو اعتبار العالم كله ساحةً لصون مصالحها الاستراتيجية وتنميتها. وقد كان الأوروبيون الحلفاء للولايات المتحدة بين أوائل من تذمروا من ذلك. لكن روسيا الاتحادية المتضررة من الأوحدية الأميركية ما سلكت سلوكاً أفضل. فبعد الهجوم على جورجيا الصغيرة الحمقاء، جرى خلق دويلتين لإثنياتٍ صغيرةٍ، وقال الرئيس الروسي إن الدول التي استقلت عن روسيا، ينبغي أن تظل مناطق نفوذٍ لها! وفي حين ينصرف الأميركيون الى تخليد عسكرهم في العراق، وزيادته في أفغانستان، وإقامة"درع صاروخية"في بولندا وتشيخيا من حول روسيا، يذهب الأسطول الروسي الى فنزويلا ويعمل على انشاء قاعدة في اللاذقية في سورية. فأين هي المؤسسات الدولية والإقليمية من انفجار الصراع هذا، وما هي المقاييس السياسية والأخلاقية لهذه الأزمات المتردية؟ في الطبعة الثالثة من كتاب ريتشارد زينيت، المسمى"سقوط الرجل العام"والتي صدرت قبل شهورٍ قليلةٍ، يقول زينيت ان"السياسي"في العالم الغربي سقط في الحرب الباردة، لأنه أسس نجاحاته في الداخل على الابتزاز، وفي الخارج على كسب الأنصار بغضّ النظر عن ماهية هؤلاء الأنصار. وهو يذهب الى ان انفصال السلوك السياسي عن الأخلاق، كان بين أسباب بقاء النزاع الإسرائيلي/ العربي لعقودٍ عدة أخرى. فبعد حرب 1961 ? في ما يقول ? أراد بعض الساسة الإسرائيليين الوصول الى سلامٍ مع مصر وسورية. لكن الأميركيين أصرُّوا على إدارة المسألة بأنفسهم، لاستخدام النزاع في تجاذبات الحرب الباردة، وعندما راقب الروس النجاح الذي حققه الأميركيون في جذب الدول الى دائرتهم، قرروا التدخل العسكري في أفغانستان، وسارع الأميركيون الى تنظيم"الثورة المضادة"التي أسهمت الى جانب"حرب النجوم"وسياسات"محور الشرّ"في إسقاط الاتحاد السوفياتي، وإسقاط روسيا في البؤس والفوضى! وتوقع زينيت ? استناداً الى دروس التاريخ ? أن ترد روسيا الآن عسكرياً في مكانٍ ما على محاصرة الأميركيين لها، في وقتٍ تضاءل عدد"القادة الأخلاقيين"في الدول الكبرى والوسطى في القرن الواحد والعشرين. في مطلع التسعينات من القرن الماضي، كان صمويل هنتنغتون يتنبأ بتغير طبائع الصراعات والنزاعات الى صدامٍ بين الحضارات. لكن منذ ذلك الحين، وعلى رغم العناوين الخادعة، ما حدث صراعٌ عسكريٌ واحد ذو طبيعةٍ حضارية أو ثقافية أو دينية. لا تزال الصراعات صراعات غلبة ومناطق نفوذ وموارد. وكلما ازدادت حدّتها ازداد انفصالُ السياسة عن الأخلاق في الدواخل الوطنية، وفي العلاقات الدولية. * كاتب لبناني.