في ظل الحرب الباردة دعم الاتحاد السوفياتي الدول العربية، وساندت الولاياتالمتحدة إسرائيل. وبذلك تحول النزاع الى مواجهة شاملة، لم يكن للدولتين العظميين مصلحة بها، ما جعلهما تسعيان في التحكم بالوضع ومنع حصول صدام شامل. وظهر ذلك بوضوح خلال كل الحروب التي رافقت النزاع. وبعد انتهاء الحرب الباردة أصبح خروج النزاع العربي – الإسرائيلي من إطاره الإقليمي الى المجال الدولي صعباً وغير واقعي. وأدت العملية العسكرية الأميركية في العراق الى تغيير ميزان القوى في الشرق الأوسط. فبعد إزاحة العراق عن الواجهة أصبحت إيران دولة إقليمية طامحة الى المشاركة الفاعلة والمباشرة في العمليات الشرق أوسطية المختلفة، وسعيها في امتلاك السلاح النووي ينطلق من طموحها هذا ورغبتها في تعظيم دورها، على رغم امتلاك إسرائيل لهذا السلاح. وفي مثل هذه الظروف لا بد من أن تنشأ مخاطر الصدام النووي في المنطقة، مع ما يحمله من نتائج كارثية إقليمية ودولية. والانتقال الى عالم «متعدد الأقطاب» يقوي موضوعياً دور الدول والمنظمات المتورطة في النزاعات الإقليمية، ما يرفع من درجة خطورتها، ويقلص إمكانات التحكم بها، وهذا يتعلق بالدرجة الأولى بأزمة الشرق الأوسط. وبعد وصول باراك أوباما الى البيت الأبيض تدنت المخاوف من احتمال توجيه ضربة وقائية ضد إيران، مع عدم استبعادها بالكامل، وبقيت الخشية من احتمال قيام إسرائيل بها. ويؤثر النزاع العربي – الإسرائيلي سلباً على الوضع العالمي، ويشكل تحدياً كبيراً يواجه العصر الحالي، ويعود ذلك الى دوره في تفريخ الإرهاب الدولي. فمنظمات إرهابية مثل «القاعدة» وغيرها تطور نشاطها تحت تأثير هذا النزاع. والسياسة الإسرائيلية الموجهة أيضاً ضد السكان المدنيين، تؤدي الى توسيع حقل هذا النشاط. والخطورة المميزة لهذه «الحلقة الإرهابية المغلقة» ظهرت عبر نظرية «صدام الحضارات» التي تجسدت في أعمال العالم الأميركي صاموئيل هنتنغتون، وهي تملك شعبية واسعة في الغرب. وتؤكد هذه النظرية أن صدام الحضارات الحتمي ناتج من تناقضات لا بد من الاعتراف بها، لا سيما بين الحضارتين الغربية والإسلامية. والواقع هو أن التوتر القائم بين هاتين الحضارتين لم ينشأ من جوهر وجود «الأعداء اللدودين»، أو «المتناقضات المتنافرة»، بل من أزمة الحوار التي تقود الى المواجهة التي تتضمن أيضاً الصراع العسكري. ونزاع الشرق الأوسط يقوم بدور مميز في ذلك، ما يرفع من مستوى أهمية إيجاد الحلول له. علماً أن العلماء الروس لم يبرهنوا بصورة كافية على بطلان هذه النظرية. وأهم درس تاريخي يمكن تعلّمه هو أنه يستحيل حل نزاع الشرق الأوسط بالوسائل العسكرية. وهذا ما برهنت عليه بوضوح الحرب الإسرائيلية الأخيرة ضد «حماس» في قطاع غزة، وتدخّل مجلس الأمن الدولي وأرغم إسرائيل على إيقاف عملياتها العسكرية والانسحاب من قطاع غزة. ولم تنجح مراهنة الدولة العبرية على استخدام الولاياتالمتحدة حق النقض «الفيتو» لمنع تنفيذ القرار الدولي. فأميركا وأعضاء مجلس الأمن الآخرين يرفضون أي حل للنزاع يقوم على استخدام القوة. إضافة الى أن باراك أوباما يرغب بمراعاة مشاعر ومواقف العالمين العربي والإسلامي، وتلميع صورته كداعية من أجل السلام العالمي ونزع أسلحة الدمار الشامل، واستعادة وهج الولاياتالمتحدة ونفوذها على المستوى الدولي. والأفق المسدود أمام حل يعتمد على القوة، ليس ناتجاً من غياب دعم دولي له فحسب، بل وأيضاً من المخاطر التي يمكن أن يتعرض لها الكيان الإسرائيلي، إذا ما ضمت المناطق الفلسطينية إليه. فذلك يؤدي الى حصول خلل ديموغرافي داخل هذا الكيان لمصلحة الفلسطينيين المتميزين بخلاف اليهود، باستعدادهم لتحقيق معدلات نمو سكانية مرتفعة. وهذا الواقع تعيه جيداً الطبقة السياسية في إسرائيل وقياداتها الحالية. وباستحالة نجاح الحل القائم على استخدام القوة يؤكد ضرورة تحقيق التسوية السلمية الشاملة. وهذه النظرة للمسألة كانت تميّز الموقف السوفياتي دائماً، بينما كانت الولاياتالمتحدة تسعى في إنجاز تسويات منفردة ثنائية، كما حصل مع الأردن ومصر. ولم تنطلق من اعتبارها أساساً ومرحلة تمهيدية للوصول الى حل شامل، بعكس ما كان الاتحاد السوفياتي يصر عليه. فهو كان يرى أن الاتفاقات الثنائية تؤدي الى بروز مصاعب وتعقيدات أمام إمكانية حل النزاع بين إسرائيل من جهة والفلسطينيين والسوريين من جهة أخرى، التي تحتل جزءاً من أراضيهم. والدليل على ذلك هو الحروب العديدة التي نشأت في المنطقة خلال السنوات الثلاثين الأخيرة التي أعقبت توقيع اتفاقات السلام الثنائية. ويبدو واضحاً الآن انه لا يمكن إنهاء حالة العداء بين إسرائيل والعالم العربي من دون تحقيق التسوية الشاملة. وهي ضرورية أيضاً للمحافظة على ثبات واستمرار الاتفاقات الثنائية المعقودة بين إسرائيل من جهة ومصر والأردن من جهة أخرى، ولتقليص فرص القوى الأصولية الإسلامية وإيران لزعزعة الأوضاع في المنطقة، لا سيما في دول عربية أساسية كمصر والسعودية وغيرهما. والمبدأ الأساسي الذي يقوم عليه الحل الشامل لنزاع الشرق الأوسط، يتلخص بإعادة إسرائيل الأراضي العربية المحتلة في حرب 1967 الى العرب، وإقامة علاقات ديبلوماسية كاملة معها على أسس متكافئة. وتثبيت هذا المبدأ كأساس في مؤتمر مدريد عام 1991، يعني الاعتراف بحقيقة لا جدال فيها، تشير الى أن تخلي إسرائيل عن الأراضي العربية المحتلة من جهة، وضمان أمن إسرائيل من جهة أخرى، يعتبران الطريقة الوحيدة للتوصل الى حل مقبول للنزاع. وفي هذا الإطار تعتبر إقامة الدولة الفلسطينية التي تلقى دعماً عالمياً، خصوصاً من الدول الكبرى الأساسية، حجر الأساس في تسوية النزاع العربي – الإسرائيلي. لكن ذلك يفترض أن تكون القدس عاصمة للدولتين الفلسطينية والعبرية، وتعيين حدود الدولة الجديدة عبر محادثات بين الأطراف المعنية، وتبادل الأراضي، وحل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين المتواجدين في الدول العربية، بعودتهم الى الدولة الفلسطينية، أو بمنحهم تعويضات مالية تعينهم على البقاء في هذه الدول. مع أن هذا قد يصطدم بمعارضة قوية منها ويؤدي الى بروز تعقيدات في العلاقة بين الجهتين. وإذا كانت الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي يدعمان تسوية النزاع بين إسرائيل وسورية لإيقاف عجلة التقارب السوري – الإيراني المتنامي، إلاّ أن ذلك مستحيل إذا لم تعترف الدولة العبرية بحق سورية باستعادة الجولان المحتل. والنجاح بحل النزاع الإسرائيلي – السوري يساعد على حل مشكلة العلاقات الإسرائيلية - اللبنانية. ولم تستطع الولاياتالمتحدة أخذ زمام المبادرة لحل نزاع الشرق الأوسط بواسطة مؤتمر أنابوليس الذي عقد في الولاياتالمتحدة. لكن ما يدعو الى التفاؤل هو اهتمام واشنطن عبر الإدارة الأميركية الحالية برئاسة أوباما الجدي بتسوية النزاع، وقدرتها على التأثير الحاسم في سياسة الحكومة الإسرائيلية الحالية ودفعها الى تحقيق التسوية مع الفلسطينيين، على رغم أن اللوبي الأميركي القوي المؤيد لإسرائيل قد يعيق مثل هذا الاتجاه، ولو أنه فقد كثيراً من قوته. وقد يكون إبعاد أوباما عن محيطه المحافظين الجدد المعادين للعرب تأثيراً إيجابياً على خطوة إدارته الجديدة. وتملك مصر والسعودية إمكانات مهمة في هذا المجال نظراً لمواقفهما البناءة في التأثير على القوى السياسية الفلسطينية وإقناعها بقبول القرارات الدولية المتعلقة بالنزاع. ويشجع أيضاً في هذا الإطار تقارب المواقف الذي حصل قبل حرب غزة بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس. وترمي السياسة الروسية في الشرق الأوسط الى استعادة نفوذ الاتحاد السوفياتي السابق فيها، انطلاقاً من أهميتها الاقتصادية والنفطية والسياسية والاستراتيجية. وقد وطدت علاقتها بإيران وساعدتها على التسلّح وبناء مفاعلات نووية لإنتاج الطاقة السلمية وهي تطمح الى فتح مجالات لاستثماراتها فيها، لا سيما في مجال استخراج وتصنيع ونقل مصادر الطاقة. وتراجع النفوذ الأميركي في المنطقة مع صعود قوة ونفوذ إيران جعل روسيا تندفع للتعاون معها لترسيخ نفوذها في الشرق الأوسط. وهذه المنطقة تشكل مجالاً واسعاً للاستثمار، وسوقاً مهمة لتصدير الأسلحة الروسية الحديثة التي تتميّز بتدني أسعارها مقارنة بأسعار الأسلحة المستوردة من الدول الأخرى. وهناك دول عربية كبرى أساسية تنوي عقد صفقات ضخمة لاستيراد الأسلحة الروسية. وروسيا تملك خبرة كبيرة في مجال إنتاج الطاقة النووية السلمية التي تحتاج إليها دول المنطقة. لكن عدم امتثال إيران لقرارات الأسرة الدولية الرامية الى إرغامها على التراجع عن برنامجها النووي، واعتمادها على أساليب المناورة والخداع والحيلة للاستمرار به، وإخفاء المعلومات الحقيقية المتعلقة به عن روسيا، وتعارض امتلاك إيران السلاح النووي مع المصالح الروسية، قد يدفع موسكو الى إعادة النظر بعلاقاتها معها، والموافقة على فرض عقوبات جديدة عليها في مجلس الأمن الدولي. مع أن روسيا تفضل الحلول الديبلوماسية السلمية لهذه المسألة، وتخشى أن تؤثر العقوبات على مصالحها. وكخطوة على هذا الطريق، وتجاوباً مع مطالب إسرائيل وأميركا التي قدمت تنازلات لروسيا بقرارها عدم نشر عناصر الدرع الصاروخية الأميركية في تشيخيا وبولونيا بأوروبا الشرقية، جمّدت موسكو صفقة صواريخ «إس- 300» المتطورة التي تحتاجها إيران للدفاع عن منشآتها النووية. ويثير تحفظها إنكار طهران وجود «الهولوكوست» النازي، وتهديداتها المتكررة بتدمير إسرائيل وإزالتها من الوجود. وفي ظل السياسة الروسية الحالية المتجهة نحو تحسين العلاقات مع الولاياتالمتحدة بقيادة باراك أوباما، لم تعد موسكو قادرة على الجلوس على مقعدين متباعدين في آن واحد. لذلك فهي مقبلة على إجراء تغييرات مهمة في سياستها تجاه مشاكل الشرق الأوسط، وتسعى في تطوير وتوطيد التعاون مع إسرائيل. وعلى ما ترى تل أبيب فإن من أولوياتها إقامة «شراكة استراتيجية» مع روسيا. والتعاون بين الجهتين يركز على تنظيم وترسيخ الاستثمارات المتبادلة والبحث في رغبة روسيا بتأمين إسرائيل بالغاز الطبيعي عبر تركيا وخلق الظروف الملائمة لعقد مؤتمر للسلام في موسكو. والسياسة الروسية الجديدة تشق طريقها على رغم امتعاض «الأصدقاء القدامى» من البلدان العربية الذين لم يقدموا لروسيا أي مكاسب ملموسة. وهي تلقى دعماً وتشجيعاً من الولاياتالمتحدة وإسرائيل والبلدان ذات المصلحة في العالمين العربي والإسلامي. وهي تمنح روسيا فرصة سانحة لتحقيق طموحاتها كصانعة للسلام في الشرق الأوسط. وعلى ما يرى مبعوث الاتحاد السوفياتي في الشرق الأوسط الأكاديمي يفغيني بريماكوف، إن الحل الأمثل للنزاع العربي – الإسرائيلي يكمن في أن تكمل «اللجنة الرباعية» المكونة من الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا والأمم المتحدة صوغ مخطط لحل وسطي لكل القضايا المتعلقة بالنزاع وتسليمه الى الأطراف المعنية، مع التأكيد على ضرورة إخلاء المنطقة من السلاح النووي. وامتلاك إسرائيل وربما إيران بعد فترة لهذا السلاح يدفع بلدان أخرى في المنطقة الى تحقيق طموحاتها النووية ما قد يؤدي الى نشوء نزاعات ذات نتائج مدمرة وكارثية تنعكس بصورة خطيرة على الوضعين الإقليمي والدولي، ويصعب التحكم بها. وتغيير الموقف الإسرائيلي الرافض للتخلي عن السلاح النووي ممكن بربطه الصارم بالتسوية العربية – الإسرائيلية وإقناع إيران بتخليها عن برنامجها النووي، أو إرغامها على ذلك، ووضعها تحت المراقبة الدولية. وعلى رغم التعقيدات والمصاعب الكثيرة التي تواجه إمكانية إيجاد حل ملائم ومقبول من جميع الأطراف، إلاّ أن هذا النزاع جدير بالاهتمام والمتابعة لأسباب إقليمية ودولية. والمناخ الدولي الراهن مهيأ أكثر من أي وقت مضى لإعطاء دفع قوي للسير باتجاه إيجاد حل للنزاع، أصبحت مبادئه ومعالمه واضحة. وهو يحتاج الى ضغط دولي فاعل لإرغام الأطراف المتنازعة على القبول به. * أستاذ جامعي