يبدو من تصريحات بعض المسؤولين العرب، وأيضاً من تحليلات عدد من الكتاب والمفكرين، أن تياراً عريضاً في العالم العربي فوجئ برد فعل الحكومة الإسرائيلية الرافض لطلب الرئيس الاميركي باراك أوباما وقف النشاط الاستيطاني في الأرض المحتلة كخطوة مطلوبة لتهيئة أجواء تسمح بالعودة إلى مفاوضات جادة تسمح بالتوصل إلى تسوية نهائية للقضية الفلسطينية، وهو ما يعد في حد ذاته أمراً مثيراً للدهشة ويشكل دليلاً على أن العالم العربي لم يدرك بعد حقيقة الاستراتيجية التفاوضية الإسرائيلية ولم يستوعب أساليب إسرائيل في إدارة الصراع. بل إن مثل هذه التصريحات والتحليلات توحي بأنه ليس أمام العالم العربي من بدائل لإدارة هذا الصراع، خصوصاً في حال الفشل المتوقع للمحاولات الجارية حالياً للتوصل إلى تسوية، سوى المراهنة على قيام الولاياتالمتحدة بممارسة ضغوط على إسرائيل أغلب الظن أنها لن تحدث أبداً. وعلى رغم أن أوباما يعتزم إطلاق مبادرة جديدة للتسوية من فوق منبر الجمعية العامة للامم المتحدة في نهاية الشهر الجاري، وهو ما يفسر التحركات الديبلوماسية المحمومة التي تجرى في المنطقة حالياً، إلا أن كل المعطيات المتوافرة لا توحي مطلقاً بأن حظ هذه المبادرة سيكون أفضل من غيرها. ولأن تطور الصراع في المنطقة وصل إلى مرحلة شديدة الحساسية تنذر بتصفية نهائية للقضية الفلسطينية، فمن المفيد إعادة التذكير بعدد من الحقائق الأساسية لعلها تعين العالم العربي على تلمس طريقه في هذا النفق المظلم الذي دخل فيه: الحقيقة الأولى: أن الموقف الإسرائيلي من قضية الاستيطان كان ولا يزال موقفاً ثابتاً لا يتأثر بالاعتبارات الأيديولوجية ولا يتغير بتغير شكل الائتلاف الحاكم في إسرائيل، لأنه يعبر عن مصالح استراتيجية عليا للمشروع الصهيوني، بدليل استمرار حركة الاستيطان التي بدأت عقب حرب 1967 مباشرة من دون توقف، وتواصلها بالهمة والنشاط نفسيهما في ظل أنواع الحكومات كافة التي تعاقبت على إسرائيل من يمين ويسار ووسط. الاختلاف الرئيس يدور حول طريقة إدراك التيارات السياسية المتنافسة في إسرائيل علاقة المستوطنات بقضايا الأمن والتفاوض، وليس حول ضرورتها أو أهميتها كتعبير عن أصل جوهر المشروع الصهيوني نفسه. وبينما يبدي بعض الأطراف استعداداً للمساومة ومقايضة أنواع معينة من المستوطنات بمكاسب أمنية وسياسية تبدي أطراف أخرى تشدداً أكبر. لكن الكل يجمع على أن الضفة الغربية، بما فيها القدسالشرقية، هي أرض «محررة» وليست أرضاً محتلة، وهو ما يفسر إصرار جميع أنواع الحكومات في إسرائيل، وليس الحكومات اليمينية فقط، على تفسير القرار 242 بطريقة تبرر رفض العودة إلى حدود 1967 وترجح كفة مفهوم «الحدود الآمنة» على مفهوم «عدم جواز الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة»، كما يفسر التركز الهائل للمستوطنين في القدسالشرقية والضفة الغربية، والذي وصل إلى ما يقرب من أربعمئة ألف مستوطن حتى الآن، والذي أصبح أمراً واقعاً لن تقبل إسرائيل تغييره إلا إذا فرض عليها فرضاً، سواء بقوة السلاح أو بضغط ديبلوماسي هائل يشمل فرض عقوبات. الحقيقة الثانية: أن إسرائيل تبنت عقب حرب 1967 استراتيجية تفاوضية تقوم على رفض فكرة التسوية الشاملة مع الدول العربية من خلال مؤتمر دولي، خصوصاً إذا كانت تحت إشراف أممي، وتفضيل التفاوض مع كل طرف عربي على حدة، ومن هنا سعيها بكل الوسائل المتاحة لإجهاض المحاولات كافة فسعت إلى عقد مؤتمر جنيف عقب حرب 1973، ولإفراغ مؤتمر مدريد عام 1991 من مضمونه بعد أن فشلت في الحيلولة دون انعقاده وتحويله إلى مظلة لمفاوضات ثنائية تجرى وفق جدول زمني تتحكم هي فيه، وأخيراً الالتفاف حول مؤتمر أنابوليس عام 2007 واستخدامه كوسيلة دعائية لتحقيق مكاسب سياسية تكتيكية. وقد نجحت إسرائيل نجاحاً باهراً في فرض استراتيجيتها التفاوضية على العالم العربي حين حققت اختراقها الأول باستدراج الرئيس السادات لإبرام معاهدة سلام منفصلة معها عام 1979 قبل أن تتوالى إنجازاتها المذهلة بعد ذلك. فبعد فترة ممانعة طويلة نجحت إسرائيل في إبرام «اتفاق أوسلو» مع منظمة التحرير الفلسطينية عام 1993، ثم في إبرام اتفاق «وادي عربة» مع الأردن عام 1994. ويلاحظ هنا أن إسرائيل لم تلتزم في أي من هذه المعاهدات الثلاث لا بإقامة دولة فلسطينية مستقلة، ولا بالعودة إلى حدود 1967 على أي من مسارات التفاوض، ولا حتى بتجميد المستوطنات. فقد تمحور التفاوض مع مصر حول «حكم ذاتي» يشمل السكان ولا يشمل الأرض، وركز التفاوض مع منظمة التحرير على «إعادة الانتشار» وليس على «الانسحاب» الكامل من الأراضي الفلسطينية المحتلة. الحقيقة الثالثة: أن إسرائيل لم تعتمد على التفاوض وحده كوسيلة وحيدة لإدارة الصراع، ولم تتحدث أبداً، مثلما فعل آخرون، عن حرب تشرين الأول (أكتوبر) باعتبارها «آخر الحروب»، وإنما استخدمت التفاوض وسيلة لبث الفرقة داخل صفوف العرب وإخراج بعضهم من المعادلة العسكرية للصراع، كما استخدمت الحرب كوسيلة لإرهاب وردع من يرفض التفاوض وفق المنهج والشروط الإسرائيلية. من هنا عدم تردد إسرائيل في ضرب المفاعل النووي العراقي، وغزو الجنوب اللبناني عدة مرات بل واحتلال العاصمة بيروت وفرض معاهدة سلام على لبنان تحت تهديد السلاح. وعلى رغم أن سياسة القوة لم تحقق لإسرائيل كل ما كانت تصبو إليه ولم تنجح حتى الآن في فرض تسوية نهائية بشروطها على العالم العربي، إلا أن إسرائيل تشعر مع ذلك أنها حققت الكثير، وأن الوقت وموازين القوى تعمل لصالحها، ولا تشعر بأي ضغوط محلية أو إقليمية دولية تضطرها لتغيير موقفها. الحقيقة الرابعة: أن أطرافاً وشعوباً عربية ربما تكون نجحت في منع إسرائيل من فرض شروطها للتسوية النهائية حتى الآن، بل وتمكنت بالفعل من تحقيق إنجازات مبهرة حين تصدت لآلة الحرب الإسرائيلية التي لم تستطع أن تهزم «حزب الله» في لبنان أو حتى «حماس» في غزة، لكن إسرائيل تحس مع ذلك أن استخدامها القوة العسكرية حقق لها مكاسب لا يستهان بها. فقد نجحت في تحييد «حزب الله» في جنوب لبنان، وفي إسكات صواريخ «حماس» في غزة، وفي تكريس الانقسام الفلسطيني مما يجعل من مجرد الحديث عن قيام دولة فلسطينية في حدود 1967 أمراً يبدو لكثيرين غير منطقي وربما غير قابل للتحقيق على الأرض. الحقيقة الخامسة: تتعلق بوجود فجوة يستحيل ردمها بين المواقف الإسرائيلية والمواقف العربية تجاه مبادرة التسوية التي طرحتها السعودية وتحولت في قمة بيروت عام 2002 إلى مبادرة عربية عامة. فبينما تعتقد الأطراف العربية أن هذه المبادرة تعكس الحدود الدنيا لما يمكن أن يكون مقبولاً كأساس للتسوية، ترى إسرائيل أنها لا تعكس موازين القوى الحقيقية على الأرض وأنها تتجاوز القدرات العربية بكثير. لذا تتصرف إسرائيل وكأنها على يقين من أن مواقف الدول العربية منها قابلة للتغيير في اتجاه التآكل وخاضعة للمساومة، ومن هنا مطالبتها الدول العربية بالتطبيع مقابل وقف جزئي وموقت للاستيطان! ومن الواضح أن اهتراء الموقف العربي يغري إسرائيل ويدفعها للتمادي في غيها. في سياق كهذا نعتقد أن هناك التزامات كثيرة تقع على عاتق الأطراف العربية، خصوصاً الفلسطينية، في هذه المرحلة. فعلى الأطراف الفلسطينية المتصارعة، خصوصاً السلطة الفلسطينية بقيادة محمود عباس، أن تتبنى موقفاً واضحاً من مسألتين: الاستيطان والمصالحة الوطنية. فعليها، في ما يتعلق بقضية الاستيطان، أن ترفض رفضاً قاطعاً العودة إلى مائدة التفاوض قبل أن تلتزم الحكومة الإسرائيلية التزاماً تاماً بتجميد فوري لكل الأنشطة الاستيطانية. أما في ما يتعلق بقضية المصالحة الوطنية فيتعين على كل الأطراف الفلسطينية أن تقدم كل التنازلات الضرورية للحفاظ على الثوابت الفلسطينية باعتبارها الأساس الراسخ للشرعية الفلسطينية. وعلى الأطراف العربية في الوقت نفسه أن تتبنى موقفاً واضحاً من مسألتين أيضاً: التطبيع مع إسرائيل والعلاقة مع الولاياتالمتحدة. ففيما يتعلق بقضية التطبيع، على الأطراف العربية، خصوصاً تلك التي لم تبرم معاهدات صلح مع إسرائيل، أن ترفض رفضاً تاماً مجرد الحديث عن أي تطبيع مع إسرائيل قبل أن يتم التوصل إلى تسوية شاملة على جميع المسارات تكون مقبولة من جميع الأطراف، بل وعلى الأطراف العربية التي ترتبط بمعاهدات صلح مع إسرائيل أن تجمد علاقاتها مع إسرائيل إلى أدنى حد ممكن وأن تبعث لإسرائيل رسائل واضحة مفادها أن العلاقة معها قد تتعرض للانهيار ما لم تلتزم التزاماً تاماً بتجميد المستوطنات وتظهر جدية في المفاوضات حين تستأنف. أما في ما يتعلق بالموقف من الولاياتالمتحدة فيتعين على الأطراف العربية ليس فقط أن ترفض الابتزاز الأميركي للضغط عليها من أجل التطبيع مع إسرائيل ولكن أن تحمّل الولاياتالمتحدة مسؤولية التعنت الإسرائيلي. وبإمكان الدول العربية إذا تقدمت الإدارة الأميركية بخطة للتسوية تبدو منحازة إلى الموقف الإسرائيلي أو في حال رفض إسرائيل خطة أميركية تبدو متوازنة، أن تلجأ على الفور إلى مجلس الأمن وأن تتقدم بمشروع قرار يلزم إسرائيل بوقف كامل للنشاط الاستيطاني ويلوح بفرض عقوبات عليها وفقاً للفصل السابع في حال عدم انصياعها الفوري لهذا القرار. أظن أنه آن الأوان لاختبار جدية موقف الإدارة الأميركية الجديدة للتوصل إلى تسوية شاملة وعادلة. * كاتب مصري