تبخّرت بلايين الدنانير والدراهم والريالات وغيرها من العملات خلال أيام، من ثروة المساهمين والمستثمرين في أسواق المنطقة، بعدما تعرضت لأعنف موجة هبوط تشهدها منذ بداية هذا الصيف. وخسرت سوق الأسهم الإماراتية خلال يوم واحد الأحد الماضي حوالى 30 بليون درهم، والسوق السعودية السبت الماضي أربعة أضعاف الرقم، وتفاوتت الخسائر الكبيرة في بقية أسواق المنطقة، بعد أيام تداول دامية، امتدت خسائرها إلى ملايين المستثمرين، استحواذ البورصات العربية على قاعدة عريضة من المستثمرين من شرائح مختلفة. وباتت خسائر البورصات حديث الناس، وتجاوزت حرارتها حرارة الطقس الملتهب في معظم دول المنطقة. ويُلاحظ تعدد أسباب هذه الخسائر وفي بعض الأحيان تناقضها، لكن أهم ما يلفت أن أسواق المنطقة لا تزال تعاني اختلالاتٍ هيكلية، كما ارتفع مستوى أخطارها نتيجة التأرجح الحاد والمستمر في مؤشرات أدائها وسيطرة الاستثمار الفردي وضعف الاستثمار المؤسسي من أهم هذه الاختلالات. وتستخدم سيولة معظم الاستثمار الفردي للمضاربة وليس للاستثمار الطويل الأجل، إذ لاحظنا في هذه الفترة بيعاً عشوائياً لا يستند الأمر إلى أسباب موضوعية أو منطقية على أسهم شركات مدرجة، سواء تعلق الأمر بأداء هذه الشركات أو بمؤشرات تقويمها. وكان للعواطف دور واضح في اتخاذ القرارات الاستثمارية، خلال هذه الفترة سواء بالبيع أو بالشراء، من دون الالتفات إلى العوامل الأساسية. تُضاف إلى ذلك ظاهرة السير وراء القطيع. بينما خلق النزيف المستمر في مؤشرات الأسواق حالاً من الخوف والتردد في اتخاذ القرارات الاستثمارية، وانخفاضاً في مستوى الثقة، فضلاً عن بيئة خصبة للإشاعات المختلفة يروّجها مضاربون كبار، مثل البيع القسري من المصارف وتصفية بعض المستثمرين الكبار لمحافظهم وغيرها من الإشاعات، بهدف خفض الأسعار إلى أقل مستوى ممكن لشرائها عند مستويات متدنية بعد بيعها عند مستويات عالية. كما لاحظنا مكاسب كبيرة حققها مضاربون كبار على حساب الصغار، وهم فعلياً وقود الأسواق. وأدى إفراط محللين ووسطاء في التشاؤم غير المبرر، إلى كسر مؤشرات الأسواق حواجز دعم قوية. كما ساهم غياب صناع السوق وضعف الاستثمار المؤسسي في معظم أسواق المنطقة، في تعميق خسائر الأسواق في ظل الارتباط النفسي. وأدى التراجع الكبير في مؤشر سوق الأسهم السعودية السبت الماضي، إلى خسائر جسيمة في أسواق المنطقة لدى افتتاح تداولاتها صباح اليوم التالي أي الأحد، ولم يظهر هذا الترابط النفسي والقوي في أوقات انتعاش الأسواق. ولا شك في أن ليس لعمليات التسييل التي نفذتها محافظ استثمارية عالمية في أسواق في المنطقة لأسباب عدة، علاقة بأداء الشركات أو اقتصادات المنطقة، لكن اللافت رد فعل الاستثمار المحلي السلبي والمبالغ فيه على عمليات التسييل. وفي ظل تراجع الوعي الاستثماري وانخفاض عمق الأسواق، لا تشكل استثمارات المحافظ الأجنبية سوى نسبة محدودة من القيمة السوقية للأسواق. ويرتبط خروج الاستثمار الأجنبي من البورصات بخسائره في أسواق المال العالمية، إضافة الى حاجته إلى السيولة. وبات المستثمرون يتابعون ما يحدث في أسواق المال العالمية، ويقررون في ضوئه الشراء والبيع. * مستشار في بنك أبو ظبي الوطني للأسواق المالية.