عاد الفينيقيون الى جبيل في اختتام مهرجانها الذي تميز بحضور رسمي حاشد تقدمه رئيس الوزراء اللبناني فؤاد السنيورة وعقيلته أول من أمس. وأعادت الفنانة عشتروت عواد، الفينيقي القديم بزيه المذهب، اذ كست نحو 200 عارض وعارضة بالجفصين الذهبي، ووزعتهم في الميناء القديم للمدينة وأزقتها العتيقة، مضفية نفحة تاريخية على الأمسية."عودة الفينيق"مسرحية غنائية استعراضية درامية، كتبها منصور الرحباني، وساعده فيها ابناه اسامة موسيقى وانتاجاً ومروان اخراجاً. يبدو أن الرحابنة طاب لهم هواء جبيل، اذ ان"عودة الفينيق"هو العمل الثالث لهم ضمن فعاليات مهرجانها. الا أن العمل الأخير بدا كأنه فُصّل على قياس المدينة، خصوصاً أن أحداثه تدور في المدينة قبل الميلاد. نبش منصور الرحباني التاريخ، ليكتب قصة عن مملكة جبيل التي أثارت طمع الامبراطوريتين الفرعونية والحثية، وأسست مقاومة شعبية بقيادة الثائر"مجدو"للانقلاب على الجميع. عمل مفخخ أراد كاتبه أن ينتقد الحاضر ففضل العودة الى الماضي والتلويح بكارثة. يبقى السؤال: لمَ عاد الرحباني الى التاريخ، خصوصاً الى مملكة جبيل؟ أو لمَ يتعمّد دوماً القصف الانتقادي بطرق غير مباشرة؟ هل مشكلاتنا الحالية لا توحي له بالكتابة؟ ببساطة هو النفس الرحباني ذاته ممتداً من ثمانينات القرن الماضي بدءاً ب"صيف840" وصولاً الى"عودة الفينيق". خط درامي غنائي تاريخي، يعكس سيراً أو أحداثاً تاريخية تتناول واقعنا السياسي عبر مرآة الماضي. يريد الرحباني أن يقدم استعراضاً متكاملاً مطعماً بتعليقات وجمل ينتقد فيها الوضع الراهن. بيد أن"عودة الفينيق"التي كتبت عام 2006، قد تبدو الأقرب الى واقعنا بتفاصيلها وأحداثها. الظروف الأمنية والسياسية الرديئة التي عصفت بلبنان ولا تزال، مطابقة لما حدث في جبيل عام 1370 قبل الميلاد. اللافت في العمل، الموسيقى التي وضعها أسامة ومدى متطلباتها الدرامية والصوتية. وتميّز الاخراج أيضاً باستعماله تقنيات حديثة من دون الابتعاد عن النفس الرحباني. ويبقى الابهار البصري الأبرز في كل الأعمال الرحبانية. أضواء وأزياء وسينوغرافيا وديكورات وحركة أجساد طرية. القلعة التي شيدت على المسرح بارتفاع 11 متراً، خدمت المسرحية، والأضواء التي انعكست عليها أضفت رونقاً خاصاً. الراقصون بحركة اجسادهم الطرية، تنوعت رقصاتهم بين الفولكلور والجاز كلاسيك والباليه، وأتت اللوحات الراقصة مكملة للمشاهد الغنائية. أثار الرحباني موضوع سلاح المقاومة في لبنان في"عودة الفينيق"في شكل غير مباشر، حين أمر"رب عدي"ملك جبيل معاونيه تصفية الثوار أي المقاومة، مدعوماً من فرعون مصر اخناتون. اجتاح الحثيون جبيل وهرب"رب عدي"الى بيروت والثوار الى الجرد. أطلق الرحباني صرخة تنبئ بمستقبل غامض، اذ وكأنه يقول دعونا لا نصل الى ما حصل في جبيل منذ آلاف السنين، صرخة تشدد على الحوار لحل موضوع السلاح. أغرم قائد الثورة مجدو بابنة الملك روكسانا، علاقة حب بين مزارع وملكة. صراع الطبقات الأزلي، غلاء المعيشة، تهريب البضائع عبر الحدود، الولاء الاعمى للملك، الانانية وحب السلطة والقتل للوصول الى الكرسي، التحالفات الخارجية، قطع الأشجار، الوراثة السياسية... أمور لم تتبدل منذ الأحداث الحقيقية للمسرحية. بات متوقعاً ما يقدمه الرحابنة في اعمالهم، روتين انما بنوع من الابهار البصري. اعتادت الاذن على تمييز ألحانهم، والعين على كشف مسرحهم وتوقع ما هو آت. ألم يحن الوقت لمفاجأة المشاهد وابهاره بما لم يكن يتوقعه؟ يبدو ان التغييرات تطاول فقط الصوت الأنثوي عند الرحابنة على عكس الصوت الذكري، اذ قدم اسامة الرحباني في العمل الأخير هبة طوجي طالبة الموسيقى الاوبرالية والتمثيل والاخراج في جامعة القديس يوسف، التي تميزت بصوتها الطري الطازج والعميق الدرامي، الا أنها يجب ان تقلص من حدة انفعالاتها كي لا تُشبه بكارول سماحة التي رافقت المسرح الرحباني طويلاً. نجحت طوجي في أولى اطلالاتها مع الرحابنة أن تكسب ود الجمهور الذي صفق لها طويلاً. صوت غسان صليبا القوي والدافئ بات ملازماً لأعمال الرحابنة. من المؤكد أن إيجاد صوت بديل لصليبا صعب. وقد بات صليبا بحاجة الى الاستقلالية في شخصيته الفنية، خصوصاً ان مساحات صوته قادرة على الوصول الى أعماق الأذن فترسخ الأغنية وتُحفظ. الأمر ذاته يتكرّر مع الممثل انطوان كرباج الذي بات يعيد نفسه، مع العلم ان الساحة اللبنانية لا تخلو من أسماء قد تسد الفراغ بنجاح. وما المانع مثلاً أن يتعامل الرحابنة مع ممثلين عرب؟ "عودة الفينيق"، عودة الى الجذور الى مرابع الحب والجمال والمبادئ الانسانية البسيطة في وجه تسلط الدولة والحكام. شارك في العمل كل من الممثلين: ميشال جبر، رفعت طربيه، تقلا شمعون، بول سليمان، أسعد حداد، نزيه يوسف، يوسف حداد، مايا يمين وجوزف ساسين وعدد كبير من الراقصين والراقصات. "عودة الفينيق"هي المسرحية الحادية عشرة لمنصور الرحباني بعد وفاة شقيقه عاصي بعد:"صيف 840"1987 أهديت الى عاصي،"الوصية"1994،"آخر أيام سقراط"1998، و"قام في اليوم الثالث"2000،"المتنبي"2001،"ملوك الطوائف"2001،"آخر يوم"2004،"حكم الرعيان"2004،"النبي"2005،"زنوبيا"2007.