كثيرة هي التحليلات التي ترجح أن تُقدم الولاياتالمتحدة أو إسرائيل على توجيه ضربة إجهاضية للبرنامج النووي الإيراني. وتتمحور دلائل ومؤشرات هذه الضربة في عاملين أحدهما عسكري والآخر أيديولوجي: أولا المناورات العسكرية وتحركات الأساطيل التي تقوم بها إسرائيل والولاياتالمتحدة، وما يرتبط بهذه التحركات والمناورات من تصعيد التسريبات التي تركز على أن الرئيس الأميركي أعطى لإسرائيل الإذن باتخاذ اللازم من الإجراءت التي تشمل سلامة الدولة العبرية. ثانيا بقايا المشروع الأميركي لإعادة تشكيل الشرق الأوسط الكبير على أسس أكثر"ديموقراطية"كجزء من فكر المحافظين الجدد القائم على التفرقة بين"الاستعمار الرديء"و"الاستعمار النبيل""فالإنكليز والفرنسيون حينما تركوا المنطقة خلفوا دولاً هشة وحكومات مستبدة، عكس"الاستعمار النبيل"الذي قادته الولاياتالمتحدة في اليابان وألمانيا وبناما وغرينادا. فلو كان الإنكليز تركوا الحكم في مصر لحزب الوفد مثلا بدلاً من حكم العسكر لكانت المنطقة في وضع أكثر استعداداً لقبول إسرائيل والتحالف مع الديموقراطيات الغربية أثناء الحرب الباردة. وعليه فبقايا فكر المحافظين الجدد يجعل الكثير من المحللين يتخوفون من أن التدخل الجراحي بمشرط البنتاغون والذراع الطويلة لإسرائيل يظل هو البديل المفضل في واشنطن وتل أبيب. والحقيقة أن ما سبق، رغم وجاهته، يغفل تغيرات مهمة على أكثر من مستوى"فالولاياتالمتحدة شهدت نقلة نوعية في تركيبة صنع السياسة الخارجية فيها، فبعد أن كان هناك حوالي 67 من الأسماء المحسوبين على المحافظين الجدد في أروقة صنع السياسة الخارجية المختلفة بالذات في البنتاغون والاستخبارات المركزية الأميركية في أيار مايو 2003، فإن هذا الرقم انخفض بشدة في أيار 2008 ليصل إلى 29 اسماً فقط ومعظمهم مساعدون لنائب الرئيس الأميركي وفقاً لإحدى رسائل الدكتوراه التي نوقشت حديثاً في جامعة ميشيغان. وهذا التراجع يعد مؤشراً مهماً على أن الفكر المحافظ الجديد الذي ازدهر في مرحلة ما بعد أيلول سبتمبر 2001 تراجع بشدة بسبب الاخفاقات في العراق وأفغانستان. ثانيا إن التحركات والمناورات العسكرية ليست بالضرورة دقاً لطبول الحرب بل هي أقرب إلى دفع إيران في مصيدة استرايتجية ثلاثية الأضلاع وهو ما يبدو أن إيران تنجرف إليه بشدة. فمع كل مناورة أو إعلان عن تحرك إسرائيلي أو أميركي، تخصص إيران مزيدا من الموارد للإنفاق العسكري كما تكشف المزيد من أسلحتها التي ترصدها الأقمار الاصطناعية المعادية لها كما تخرج بتهديدات أكثر تكشف تحالفاتها الإقليمية سواء في العراق أو لبنان. وهي كلها معلومات مهمة للولايات المتحدة وإسرائيل في بناء استراتيجية ذات أضلاع ثلاثة: الاحتواء containment والاستنزاف depletion، والاختراق penetration. وهو ما لم يكن بعيداً عما فعلته الولاياتالمتحدة في العراق إذ كانت الفترة من 1991 وحتى الغزو في 2003 مساحة زمنية كافية لوضع العراق تحت ضغط ديبلوماسي وعقوبات دولية أجهدته وأضعفت من قدرته على المقاومة عسكرياً ونفسياً. والمقارنة واردة في ذهن الاستراتيجيين الأميركيين والإسرائيليين بين الحالة العراقية في 2003 والحالة اللبنانية في 2006، إذ كانت مقاومة حزب الله العسكرية والدعم الذي تلقاه من فصائل لبنانية كثيرة، يعني أن حرباً مع قوة مكتملة البناء العسكري والسياسي لن تكون بلا خسائر موجعة مع ملاحظة التفاوت الحاد في القدرات العسكرية لإيران مقارنة بحزب الله. إذن توجيه ضربة عسكرية لإيران ليس الخيار الأكثر رشاداً من وجهة نظر معظم الاستراتيجيين الأميركيين والإسرائيليين، وإنما الأكثر رشاداً هو المزيد من الاحتواء والاستنزاف والاختراق. فإيران"محتواة جغرافيا"إذا تأملنا خريطة الدول المحيطة بها: فهناك قوات أميركية في العراق والكويت والبحرين وقطر وأفغانستان فضلا عن قوات الناتو في تركيا. بيد أن الاحتواء ليس جيوسياسيا فقط وإنما يقتضي كذلك الاحتواء الديبلوماسي باعتبار إيران دولة خارجة عن الاجماع الدولي وهو ما تضغط من أجله الولاياتالمتحدة في لقاءات مسؤوليها بنظرائهم الإقليميين والدوليين. ولا يفيد الاحتواء إن لم يكن مفضياً لاستنزاف القدرات الاقتصادية الإيرانية من خلال الترويج لفكرة أن الضربة المقبلة آتية لا محالة إذا ما أصرت إيران على تطوير قدراتها النووية. وهو ما يعني ضمناً رسالة واضحة للشركات العملاقة بالتراجع عن الاستثمار في إيران فضلا عن إجبار الحكومة الإيرانية على المفاضلة بين النفقات الخدمية والتنموية والنفقات العسكرية والأمنية. وسيلعب مجلس الأمن دوراً شبيهاً بدوره في العراق من قبل. ويأتي أخيراً دور الاختراق الاستخباراتي الأميركي ? الإسرائيلي لإيران كجزء مهم من إستراتيجية القتل البطيء لإيران وهو ما يتطلب ألا تغيب وكالة الطاقة الذرية عن الصورة فلا ننسى دورها المهم في الكشف عن برامج أسلحة الدمار الشامل العراقية حين صدّقت في ما أخطأته الاستخبارات الأميركية والبريطانية، وبالتالي أسدت خدمة كبيرة للدول الغازية. ولا يكفي الاختراق المعلوماتي الرسمي وإنما لا بد من أن ينشط عالم الجاسوسية والأعمال الخفية covert actions في إيران وهو ما تجلى في التصاعد الواضح في مخصصات الأعمال الخفية ضد إيران في موازنة وكالة الاستخبارات الأميركية ثم الحديث أخيراً عن افتتاح مكتب لرعاية المصالح الأميركية في طهران. إذن ليس من الرشاد القفز نحو ضربة عسكرية ضد إيران الآن لأنها لن تكون ضربة بلا عواقب على نمط ضربة أيار 1981 للمفاعل النووي العراقي، وإنما ستؤدي إلى سلسلة متلاحقة من رودود الأفعال التي ستضعف النفوذ الأميركي - الإسرائيلي في المنطقة أكثر. پ * جامعي مصري مقيم في الولايات المتحدة