أتى الشريط الوثائقي على القناة الرابعة في التلفزيون البريطاني بعنوان "القرآن"، والذي عُرِض يوم الاثنين في 14 تموز يوليو 2008، محاولةً معدومة الكفاءة الفكرية لفهم"من أين يأتي المسلمون". لم يكن عنوان البرنامج الوثائقي مجحفاً ومائلاً باتجاه تفسير غير صحيح للقرآن وطريقة قبوله فحسب، بل ان الغموض كان يلف أيضا محور تركيزه الفعلي. فلا يكفي القول إننا سنركز على القرآن، إذ يجب ان يتم التركيز عليه بإمعان وحذر، ليس فقط تجاه الجمهور - الهدف، بل أيضا تجاه الموضوع عينه. فمن وجهة نظر مسلمٍ شيعيٍّ، اعتُبر الفيلم هجوماً غير مبرَّر ضدّ العقائد الدينيّة الشيعيّة التي قد يعتبرها المسلمون من غير الشيعة أيضاً تأجيجاً للفتنة بين المسلمين. وقد تناول الفيلم كيفيّة ارتباط مدرسة الشيعة الفكريّة، التي تجمع شريحة مهمّة من الأتباع في معظم الدول الإسلامية، وليس فقط في إيران، ارتباطاً شديد الوضوح بالإسلام السياسي المتشدد والذي يُعَدّ فكراً نقيضاً للفكر الشيعي. كما تضمّن الفيلم أخطاءً وقائعيّة كإظهار ممارسات العلويين في تركيا ومحاولة إيهام الجمهور أنّها جزء من عقائد الشيعة وممارساتهم الرائجة. وفي البلوغات المتعدّدة، حيث تمّت مناقشة البرنامج الذي بثّته قناة أرضية بريطانية، برزت تعليقات توضّح على نحوٍ نموذجيٍّ فكرة إشعال الفتنة، ومن بينها:"مهما كان رأيكم بالشيعة، يترتب علينا، بموجب تعاليمنا الدينية، احترام عقائدهم لا مهاجمتها كما يفعل البرنامج. ولعلّه يكون بمثابة خطة عمل سياسية""و"لقد زاد البرنامج معرفتي بأبعاد الشيعة التي كانت تبدو لي غير إسلاميّة""و"بالنسبة إلى الشيعة، فأنا أحترمهم تماماً كما أحترم الهندوسيين والمسيحيين واليهود، الا ان الآخرين لا يدّعون أنّهم مسلمون، بخلاف الشيعة الذين يدّعون ذلك". والواقع أنّ ردود فعلٍ مماثلة تشير إلى أنّ الفيلم لم يحقّق هدفه المرجوّ الكامن في توضيح تفسيرات النصوص القرآنيّة، وتدعم الرأي الذي يرجّح أن يكون المخرج قد استُخدم وسيلةً ليظهر تفسيراً محدداً فقط. ويبدو واضحاً أنّ القناة الرابعة لم تهتم بالافتراضات التحريضيّة التي تبنّاها المخرج والخبراء غير الشيعة الذين قام باختيارهم، وبالتالي، بالتداعيات الخطيرة بين المسلمين في بريطانيا. وأتى ذلك في وقت وضعت فيه الحكومة البريطانيّة خططاً استراتيجيّةً تهدف إلى تعزيز التماسك الاجتماعي. ونخلص مما ورد أعلاه الى أنه في عصرنا الحالي المتسم بوسائل الاتصال العالمية، كان يفترض في مستهلّ الأبحاث أن يتضح لمنتجي الفيلم أنّ ثمة مسائل فيه تذهب إلى أبعد من حدود القرآن. ولأجل زيادة الإثارة في الفيلم، تمّ الضرب على وترين حسّاسين يشهدان الكثير من الجدال داخل العالم الإسلامي، في بريطانيا وفي الدول الإسلامية، وهما ختان الإناث والانقسام السني الشيعي. ويتعجب المرء لمَ ركز البرنامج على هذين الموضوعين الذين يشكّلان موضعًا للجدال، مع العلم أنّ الخلاف الشيعي السّني هو جدال بين تقليدين يتمتعان بقواسم مشتركة تفوق نقاط الخلاف بينهما. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ علاقة هذين الموضوعين المباشرة بالقرآن هي أيضا نقطة يمكن السؤال عنها. وبالتأكيد، يتحمل المسؤولون في القناة الرابعة بعض المسؤولية في هذا المجال. في مراجعة مكتوبة للفيلم، نشرت بعيد عرضه في المملكة المتحدة guardian.co.uk يوم الجمعة 11 تموز يوليو 2008، يشيد الكاتب والمعلّق ضياء الدين سردار بالبرنامج لأنه أسقط الخطوط الحمر. وقد سبق له أن أعدّ بعضًا من أعمق البرامج التلفزيونية حول الإسلام والمسلمين. وأجد التعليق التالي مؤسفًا لشخصٍ يعترف، في المقالة عينها، بأنّ البرنامج اشتمل على بعض النواقص، ويذكر من جملة ما يذكر أنّ"تسليط الضوء على الفرق بين السنة والشيعة غير دقيق". والحال أن الفيلم بكامله غير دقيق. فهو يستعمل القوالب الجاهزة ليقدّم نظرية غير واضحة ومحيِّرة حول التفسير والشرعية، ولا يضيف شيئًا ذا قيمة الى النقاشات حول القرآن، بل فحواه أن السّنة هم الأكثرية وإيمانهم بالعلاقة المباشرة بينهم وبين الله يجعلهم أصحاب الخطّ الأساسي، وبالتالي الصحيح"أمّا الشيعة المسلمون فهم كالكاثوليك، يحبون الأيقونات والطقوس ولكنهم أقلية، وبالتالي منشقّون عن الأكثرية الصحيحة، ولذلك هم مخطئون"وأمّا الوهابيون، حسب الفيلم أيضاً، فهم متطرّفون يستخدمون ثروتهم النفطية لينشروا نمطًا من الإسلام لا تعترف به الأكثرية ولذلك هم أيضا مخطئون. ويقدّم البرنامج افتراضات قديمة ومشكوكا في صحتها على أنها حقائق ثابتة، تتعلّق بمعتقدات شيعية تظهر إيران والممارسات الدينية الثقافية الإيرانية على أنها المعيار الديني عند الشيعة. إلا أن الادّعاء الأكثر إيذاءً والذي لا يُغتفر وقد يعتبر قدحًا، هو الربط المتكرر بين الشيعة وبعض رجال الدين السلفيين أو الوهابيين. وتجدر الاشارة إلى أنّه لم يأتِ في البرنامج ذكر للقواسم المشتركة التي تجمع المسلمين كافةً، بغضّ النظر عن المدرسة الفكرية التي قد ينتمي إليها المسلم، أو المدرسة الفقهية التي قد تعتمدها أيّ دولة إسلامية على أنها الأكثر شرعية وقبولا. ويفاجأ المرء لاستضافة العديد من العلماء"السّنة"وغياب أي عالم شيعي بريطاني ليوازن المعلومات الخاطئة حول المعتقدات والممارسات الشيعية. ويزعم الوثائقي أن الشيعة يتّهمون السّنة بتحريف القرآن، عبر تغيير الكلمات الأساسية التي تظهر بوضوح أنّ الله اختار الإمام عليّ والمنحدرين منه لكي يخلفوا النبي محمد في قيادة المسلمين، أو الأمّة. لكن اليوم، أي حديث عن قرآن محرّف لا قيمة له، تماما كالجدل الحاصل في المسيحية أنّ البروتستانت هم هراطقة بالنسبة للمعايير الكاثوليكية المستقيمة. كذلك، ينكر الشيعة هذه التهمة القديمة بشدة، غير أنّها تقدَّم في هذا الوثائقي على أنها حقيقة، مثل باقي"الحقائق". وتكشف المقدمة في صفحة القناة الرابعة على الإنترنت عن الكثير، إذ تقول:"القرآن هو رحلة قوية وجميلة في غالب الأحيان داخل العالم الإسلامي، تكتشف خلالها كيف يتحوّل النص الذي يلهم السلام والمسامحة عند الأكثرية، إلى أداةٍ عند أقلية تجد فيه تبريرًا للنزاعات المسلّحة والإرهاب". إلا أنّ تنظيم القاعدة، الذي يُعتبر الخطر الوحيد على الحضارة الغربية كما نعرفه، يجنّد مناصريه ليس من الشيعة، ونحن نعلم أنها ليست بمنأى عن المتطرفين، بل من أقلية متطرّفة بين السّنة والسلفيين. ذلك أنّ الأكثرية بين السّنة والشيعة يرفضون معًا دعوات مماثلة من المتطرفين، ويبنون تحالفا عالمياً فريدا، بخاصة في المملكة المتحدة. في النهاية، إن مسؤولية الفشل في إنتاج برنامج دقيق وواقعي لا تقع فقط على المنتج، بل أيضا على المستشارين الذين أدلوا بآرائهم حول إنتاجه، وللأسف قد يكون أعاد العلاقات ما بين المذاهب سنين كثيرة إلى الوراء. * مدير العلاقات الدوليّة في مؤسسة الخوئي في لندن ونيويورك