تحتل روايات الكاتب البريطاني إيان مكيوان مكاناً مميزاً في المكتبة الإنكليزية المعاصرة. نال مكيوان شهرة بعد إصداره نحو عشر روايات، بينها:"عزاء الغرباء"،"احتمال الحب"،"السبت"... وسواها، فضلاً عن عدد من المجموعات القصصية. فاز بجوائز أدبية، مثل جائزة"سومرست موم"عن مجموعته القصصية الأولى"الحب الأول، الطقوس الأخيرة"، الصادرة منتصف سبعينات القرن الماضي، وكذلك جائزة ويتبريد، بينما فازت روايته"امستردام"والصادرة نهاية التسعينات، والمترجمة، أخيراً، إلى اللغة العربية دار المدى، دمشق بجائزة بوكر البريطانية. ولد مكيوان عام 1948 في ألدرشوت ببريطانيا. كان والده ضابطاً في الجيش البريطاني، فأمضى طفولته متنقلاً بين دول عدة. تابع دراسة إنكليزية تقليدية، وتخرّج من جامعة ساسيكس... درس أصول الكتابة الإبداعية على يد الروائي مالكولم براد بري، وفي السنوات اللاحقة مُنح أكثر من دكتوراه فخرية تقديراً لنتاجه الأدبي. ربما يتناول في نصوصه قضايا ومواضيع غير مألوفة وليست رائجة ربما في الأدب. ولئن اتسمت نصوصه الأولى بهواجس"العنف، والموت، وغرابة السلوك البشري"، فإن رواياته الأحدث ذهبت إلى تشخيص أزمات العالم المتفاقمة: الفساد السياسي والإداري، آثار الحرب الباردة، صور العنصرية والفاشية، التلوث البيئي، تبدلات المناخ في العالم...وغيرها من المسائل التي يصعب إدراجها ضمن اهتمامات الروائيين عموماً. في رواية امستردام والتي ترجمها أسامة منزلجي نتلمس جانباً من هذا المنحى الروائي، ونتعرف على تجربة نافرة وذات خصوصية. يتحدث مكيوان في هذا العمل عن أنانية المبدع وانتهازية الإعلامي وفساد السياسي عبر نص محكم البناء. مكيوان ينتمي إلى جيل عاش الحداثة الأوروبية على مختلف الصعد، وهو أراد أن ينتج أدبا منسجماً مع شروط وأسس هذه الحداثة التي تجلت في الفنون بصورة عامة. الرواية تبدأ بطقوس جنازة المرأة"الفاتنة الجميلة اللعوب"مولي لين التي جمعت حولها عشاقاً كثراً ورحلت. مع رحيل هذه المرأة التي تشكل، رغم غيابها، محور الأحداث، يمضي مكيوان نحو الكشف عن عوالم أبطاله، ويعري رغباتهم، ونزواتهم، وضعفهم. الشخصيتان الرئيستان هما: المؤلف الموسيقي كلايف لينلي الذي عَرِفَ مولي حين كانا في المدرسة عام 1968 وعاشا معاً حياة فوضوية، والإعلامي فرنون هاليداي الذي صادَقَ مولي عام 1974 في باريس. هذان العاشقان والصديقان يقفان الآن خارج كنيسة المحرقة. يراقبان مراسم الجنازة، ويتحينان الفرصة لمواساة جورج لين، زوج مولي،"النكد"المحب للامتلاك"، والذي يملك أسهما في صحيفة يرأس تحريرها هاليداي. الصديقان يراقبان، كذلك، وزير الخارجية جوليان غارموني والعاشق، بدوره، للراحلة. بعد هذا المشهد التمهيدي تبدأ أحداث الرواية بالتشابك والتداخل والتطور. والمفارقة أن الغائبة للتو هي التي تحتل متن السرد، ذلك أن الحبكة الدرامية تتصاعد وفقاًً لعلاقة الشخصيات بها. الصحافي هاليداي يحاول الإيقاع بوزير الخارجية غارموني بعد أن حصل على صور نادرة للأخير تظهره في ملابس نسائية، ويقوم بحركات"شاذة". هو يزمع نشر هذه الصور، الملتقطة بكاميلرا مولي، في الصفحة الأولى في صحيفته جدج، في محاولة لقطع الطريق أمام وزير الخارجية الذي يتطلع لأن يكون رئيساً للوزراء. لينلي، صديق هاليداي، يحاول ثنيه عن هذا القرار لأن في نشر الصور إساءة إلى ذكرى الراحلة مولي. هذا الخلاف يحدث عداء بين الصديقين اللذين لا يقتنعان بما تقوله إحدى الشخصيات:"إن المصارحة بوجود خلاف في وجهات النظر، والبقاء أصدقاء مع ذلك، هو جوهر الوجود الحضاري". وبينما يتصارع الصديقان حول مشروعية نشر الصور، تظهر زوجة غارموني في بث حي مباشر لتعلن المفاجأة: إنها تعلم بطبيعة وسلوك زوجها غارموني، بل وتبث الصور عبر التلفزيون، فيفقد هاليداي سبقاً صحافياً كان يمكن أن يزيد نسب توزيع صحيفته، بل ويفقد معه مستقبله المهني، ويفقد، كذلك، صداقته مع لينلي، بعدما أصر على نشر الصور... في موازاة ذلك يتعرف القارئ على أزمات وهواجس المؤلف الموسيقي لينلي الذي كلفته الحكومة بتأليف سيمفونية الألفية الثالثة. يقودنا السرد، هنا، إلى الغوص في العوالم الداخلية لهذا المبدع الموسيقي، حيث الأرق والسهر والترقب والخوف... وغير ذلك من الحالات التي تسبق العمل الإبداعي. بل أن هذا القلق يدفع لينلي إلى الطلب من صديقه فرنون أن يقتله في حال وصل إلى مرحلة العجز والصمت والكمون. يوافق صديقه شريطة أن يفعل الآخر المثل. ينجح الموسيقي في ابتكار مقطوعته الموسيقية، وسيقوم بإجراء البروفات الأولى على مسرح في مدينة امستردام هذا هو المبرر الوحيد، غير المقنع، لاسم الرواية. هناك يلتقي مع صديقه الذي قدم إلى المدينة لهذه المناسبة. يلتقيان في حفل، وينفذ كل من جانبه وصية الآخر، إذ يقدمان لبعضهما كأس شراب مسموماً، ويموتان. هنا يجد القارئ نفسه، وقد عاد إلى مقطع من قصيدة و.ه.أودن الذي استهل مكيوان الرواية بها:"الأصدقاء الذين تقابلوا هنا، وتعانقوا، ذهبوا كلٌ إلى أخطائه الخاصة"". هذه النهاية المأسوية لا تأتي على نحو سلس، ومعقول، وهي لا تأتي، كذلك، كنتيجة حتمية أو طبيعية لتصاعد الأحداث، بل هي نهاية مفاجئة، تعبّر عن فضاءات روايات مكيوان المغلفة بالعبث، والسوداوية رغم طابعها المرح. الزمن في هذه الرواية دائري، وبنية السرد تنهض على تقنية"المونتاج"، فمكيوان يبني وقائع روايته وفق منطق تداخل الأزمنة، بمعنى أن زمن السرد لا يتصاعد على نحو تدريجي، بل هو متشابك في شكل يحيلنا، بهذا القدر أو ذاك، إلى روايات وليم فوكنر. الوصف ينأى عن الطابع التقليدي إذ يجمع بين العادي والغريب، كما أن الحوارات تأتي مقتضبة، ومشوشة أحياناً.