"الماضي لم يمت. بل حتى انه لم يمض!"، بهذه الكلمات للروائي الأميركي وليام فولكنر صدّر الكاتب الأسترالي بيتر كيري روايته "التاريخ الحقيقي لعصابة نيد كيللي" التي حصلت في لندن اخيراً على جائزة بوكر لهذه السنة. وقال كيري 58 سنة بعد فوزه بالجائزة أن قصة نيد كيللي هي قصة أستراليا وأن "الماضي يتحدث عن الحاضر، ومن هنا أهميته". وأوضح أن "التاريخ الحقيقي لعصابة نيد كيللي"، مثل بعض روايته السابقة، "تحاول دحض الأكاذيب وملء لحظات الصمت - هكذا هو تاريخ أستراليا، ونستمر في العودة الى الماضي لتصحيحه". اقتباس كيري كلمات فولكنر تشكّل تحية منه للروائي الذي يحظى منه بأعظم تقدير. وكان كيري قرأ في شبابه رواية "عندما رقدت لأموت" وأثّرت عليه بعمق. وقال: "غالبية قصصي موسومة بنيران تلك التجربة. تلك الفصول القصيرة بمنظوراتها المتضاربة، والحقيقة التي تنعكس من زوايا رؤية متعددة. عنصر الجذب الآخر في "عندما رقدت لأموت" كان الأصوات الغنية التي اعطتها للفقراء". تقوم رواية "التاريخ الحقيقي لعصابة نيد كيللي" على حياة بطل أستراليا الفولكلوري نيد كيللي الذي أسرته الشرطة في حزيران يونيو 1880 بعد مواجهة بالأسلحة النارية جرح فيها كثيرون من أفراد عصابته. لم يتجاوز عمر كيللي 25 سنة عند اعدامه، لكن حياته القصيرة كانت مملوءة بالأحداث والمخاطر. إذ كان سارق خيل، ومزارعاً، وقاطع طرق يتخفى في احراج أستراليا، ومصلحاً، وسارق بنوك، وقاتلاً لعدد من رجال الشرطة. وأصبح للكثيرين من الأستراليين بطلاً ورمزاً للفقراء في مواجهتهم الظلم. جائزة بوكر السنوية، وقيمتها 21 ألف جنيه استرليني، هي الجائزة الأدبية الأهم في بريطانيا. وكانت رواية "التاريخ الحقيقي لعصابة نيد كيللي" نالت قبل بوكر "جائزة كتّاب الكومنولث" وقيمتها عشرة الآف جنيه استرليني، اضافة الى "جائزة رئيس وزراء ولاية فكتوريا للكتابة". يعتبر كثيرون أن كيري أعظم كتّاب أستراليا الأحياء. وهي المرة الثانية التي يحصل فيها على بوكر، بعد ان فاز بها في 1988 عن روايته "أوسكار ولوسيندا". كما كانت روايته "ايليواكي" على القائمة القصيرة لبوكر في 1985. منافس كيري الرئيس على الجائزة هذه السنة كان البريطاني أيان مكيوان وروايته "الغفران" مكيوان حصل على الجائزة في 1998 على رواية "امستردام". الروايات الأربع الأخرى على القائمة القصيرة هذه السنة كانت "أوكسجين" لأندرو ميللر، "الحلم رقم 9" لديفيد ميتشل، "الغرفة المظلمة" لريتشل سيفيرت، و"فندق العالم" لآلي سميث. كتب كيري الرواية على شكل سيرة ذاتية سجلها نيد كيلي بخط يده لطفلته. وتتكوّن السيرة من 13 رزمة من الأوراق البالية تشكل كل رزمة فصلاً منفصلاً، حصل عليها توماس كرنو، المدرّس الذي وشى بكيلي الى الشرطة، وأخذها الى ميلبورن. وبدأ كيللي الرزمة الأولى بالقول: "فقدت أبي وعمري 13 سنة واعرف معنى النشوء وسط الأكاذيب والصم.ت يا طفلتي الحبيبة أنت الآن أصغر من أن تفهمي أي كلمة اكتب لكن أسجل هذه السيرة لك ولن تكون فيها كذبة واحدة ولتحرقني جهنم إذا لم أصدق". اصطنع كيري للسيرة لغة كلامية مباشرة خالية من الفواصل أو علامات الاقتباس، تتكون من العامّية الإرلندية والأسترالية وما فيهما من التعابير المتميزة والاختزال والصور المثيرة. ويقول كاري انه تطلع دوماً الى هذا النوع من الكتابة، لكي يبدع "نوعاً من الشِعر من الصوت الذي يفتقر الى ثقافة، أي اعطاء صوت للذين لا صوت لهم". ويتحدث كيللي أيضاً بلغة جنسية رقيقة عن حبه لماري هيرن، أم طفلته. قال كيري ان كتابة الرواية استغرقت ثلاث سنوات، لكنه كان يفكر في الموضوع منذ أواسط الستينات بعدما قرأ رسالة من 56 صفحة حاول كيللي نشرها عندما هاجمت عصابته مصرفاً في بلدة جيريليديري في 1879. ووصف المؤلف الأسترالي الرسالة بأنها "وثيقة عجيبة، انها صوت منفعل لإنسان يكتب لكي يشرح حياته وينقذ سمعته". وكان كيللي طالب القارئ في الرسالة بأن ينظر الى المظالم التي يرزح تحتها المزارعون الفقراء في شمال شرقي ولاية فكتوريا. وإضافة الى استلهامه أسلوب الكتاب من لغة كيللي في رسالته، كان الروائي الأسترالي قضى السنين العشر الأولى من عمره في بلدة ريفية صغيرة قرب ملبورن، كان من بين سكانها مزارعون إرلنديو الأصل بلغة تشابه تلك التي يستعملها كيللي في الرواية. كان والد كيللي إرلندياً نُفي الى سجن على جزيرة تسمانية كان تسمى وقتها فان ديمن لاند. وعندما أنهى محكوميته عبر البحر الى ولاية فكتوريا في جنوب شرقي أستراليا، التي شهدت سوية مع ولاية نيو ساوث ويلز مغامرات ولده نيد خلال حياته القصيرة. تضم الرواية خريطة ل"أستراليا نيد كيللي". عند وفاة والده أصبح نيد كيللي، الأبن البكر الذي كان عمره 12 سنة، المسؤول عن العائلة. وعاشت الأسرة في مزرعة وعانت من فقر مدقع. وكانت أمه إيلين كما وصفها كيري "امرأة متوحشة لها الكثير من العشاق والأزواج، وأطفال من رجال كثيرين". دخل نيد كيللي السجن للمرة الأولى عندما كان عمره 15 سنة ومارس السرقة في أحراج أستراليا قبل ان يصبح قاطع طريق شهيراً. وتوضح الرواية للقارئ أن عنف كيللي جاء رداً على الوحشية التي عاملت بها الشرطة المستوطنين الإرلنديين الفقراء. وقال: "قصة نيد كيللي وسبب التعاطف الشديد معه حتى الآن في أستراليا هو ان قسوة الظروف لم تنل من انسانيته بل انه تمكّن من التعالي عليها ليُلهم فئات كثيرة بشجاعته ومرحه وأخلاقه". لكن بعض الأستراليين لا يرتاح الى جعل كيللي بطلاً شعبياً. ويتساءل المدرّس توماس كيرنو شاكياً في نهاية الرواية: "ماذا عنّا نحن الأستراليين؟ ما هي مشكلتنا؟ أليس عندنا شخصيات مثل جيفرسن أو دزرائيلي؟ ألا يمكننا ان نجد شخصاً نُعجب به أفضل من سارق الخيل والقاتل هذا؟ هل علينا دوماً ان نجعل نفسنا أضحوكة؟". يسكن كيري نيويورك منذ عشر سنوات، حيث يُعلّم الكتابة الإبداعية في جامعة نيويورك. وقال في كلمة تسلّمه الجائزة: "نحب أن تزورونا في نيويورك لأننا بحاجة حقيقية لكم"، في اشارة الى الأحداث الرهيبة التي شهدتها المدينة في 11 أيلول سبتمبر. من بين ما دفعه الى كتابة الرواية معرض في المتحف المتروبوليتاني في نيويورك قبل خمس سنوات للوحات عن نيد كيللي نفذها الفنان الأسترالي سيدني نولان. وجذبت سيرة نيد كيللي المخرجين منذ بداية السينما. وكان هناك في 1906 فيلم "قصة نيد كيللي" تلاه عدد من الأفلام، من بينها فيلم "نيد كيللي" في 1970 من اخراج توني ريتشاردسن وبطولة نجم موسيقى البوب ميك جاغر الذي اعتبره كثيرون كارثة فنية. واشترى الكاتب والمخرج الإرلندي نيل جوردان حق تحويل رواية "التاريخ الحقيقي لعصابة نيد كيللي" الى فيلم سينمائي يأمل ان يقوم بالبطولة فيه براد بيت ونيكول كيدمن وساره نيل. تلقى كيري تعليمه في مدرسة غيلونغ الأسترالية من بين خريجيها الأمير تشارلز وروبرت مردوخ وكيري باكر. وكانت العلوم الطبيعية حبه الأول، لكنه غادر جامعة موناش في ملبورن بعد فشله في امتحان السنة الأولى في موضوعي الكيمياء العضوية وعلم الحيوان، ووجد عملاً في حقل الاعلان. وكانت وكالة الاعلان التي عمل فيها خارجة على المألوف ويديرها عضو سابق في الحزب الشيوعي. وشجّعه زملاؤه في الوكالة على قراءة الأدب الكلاسيكي، وأيضاً أعمال كبار الروائيين في العصر الحديث مثل وليام فولكنر وجيمس جويس وصموئيل بيكيت. رواية كيري الأولى التي كتبها في 1964 لم تُنشر حتى الآن. وصدر كتابه الأول في 1974، وهو مجموعة من 12 قصة قصيرة بعنوان "الرجل البدين في التاريخ" تتناول أوجهاً متعددة من طبيعة أستراليا وحياة سكانها بذلك المزيج من الواقعية والسحرية الذي اشتهر به لاحقاً. وظهرت له 1979 مجموعة ثانية بعنوان "جرائم حرب". استمر كيري في العمل في حقل الاعلان وسكن لفترة في مجمع للهيبيين في بلدة ناندينا في كوينزلاند. وصدرت روايته المنشورة الأولى "النعمى" في 1981، ودارت على تجربة اداري في حقل الاعلان. وهو أيضاً قصّاص، ينجو من نوبة قلبية بعدما أدت به الى "موت وقتي"، ليجد بعد كل هذا انه فعلاً يسكن الجحيم. ويعكس الكتاب آراء كيري في الحضارة الصناعية والمجتمع الاستهلاكي. رواية كيري الثانية "ايليواكي" تأخذنا الى حياة هربرت باجري، الأسترالي الذي يبلغ عمره 139 سنة وهو في الوقت نفسه راوية الاحداث وكذاب كبير. بعد ذلك جاءت رواية "اوسكار ولوسيندا" التي تدور احداثها في عصر الملكة فكتوريا، وهي قصة حب مأسوية تصف أوضاع سكان أستراليا في المراحل الأولى من تكوينها الحديث وقسوة الواقع على الصعد العرقي والاجتماعي والجنسي وقتها. رواية "مفتش الضرائب" في 1991 استكشفت الحياة الأسترالية المعاصرة والانقسام بين الفقراء والأغنياء. بعدها في 1994 صدرت رواية "حياة ترسترام سميث العجيبة" التي تتناول العلاقات بين بلدين متخيلين، واحد منهما في النصف الشمالي من الكرة الأرضية والآخر في الجنوبي. وفي "جاك ماغز" في 1997 ينطلق كيري من رواية تشارلز ديكنز "توقعات كبرى". ماغز سجين يعود من أستراليا الى لندن بحثاً عن "الابن" بعدما جعله ثرياً. وكان الأثر العميق لأحداث 11 أيلول سبتمبر الرهيبة انعكس في مقالتين مؤثرتين كتبهما من نيويورك بعد وقت قصير على الهجمات ونشرتهما في لندن صحيفة "أوبزرفر" الاسبوعية. وقد توقع كثيرون من الروائيين والنقّاد أن احداث 11 أيلول وما تلاها ستغيّر الى الأبد مواضيع القصص والروايات وأساليبها. وسيكون من المثير رصد هذه المرحلة الجديدة في كتابات بيتر كيري المقبلة. Tru History of the Kelly Gang Peter Carey Faber and Faber