"السبت" عنوان الرواية العاشرة للكاتب الانكليزي إيان مكيوان تثير حالياً عواصف نقدية قادت عدداً من المجلات والصحف على ضفتي الأطلسي الى ترشيح مكيوان لجائزة نوبل، وفي مقدم هذه المنشورات "ذي نيشن" الأميركية المعروفة بميولها اليسارية. والواقع ان القارئ العربي يعرف القليل عن مكيوان، مع انه حاز جائزتي بوكر وويتبريد، ناهيك عن جائزة سومرست موم عن مجموعته القصصية الأولى "الحب الأول، الطقوس الأخيرة" عام 1975. ولد إيان مكيوان عام 1948 في ألدرشوت. وكان والده ضابطاً في الجيش البريطاني فأمضى طفولته متنقلاً من مكان الى مكان حول العالم عابراً ليبيا وسنغافورة. على رغم ذلك تابع دراسة انكليزية تقليدية وتخرّج في جامعتي ساسيكس وشرق انغليا حيث درس الكتابة الابداعية على يد الروائي مالكولم براد بري، وفي السنوات اللاحقة منحته الجامعتان دكتورا فخرية تقديراً لنتاجه الأدبي المميز. اتسمت قصصه الأولى بهواجس العنف والموت والانحراف البشري، لكن اسلوبه حافظ على واقعية هادئة، توحي بالنمط العادي. ويقول مكيوان: "لا أعتقد بأنني مهووس بالعنف على وجه التخصيص، لكنني في الوقت نفسه منزعج منه. ويبدو ان معظم ما يزعجني لا يلبث ان يظهر في كتاباتي". وفيما استمر ميكوان متفحصاً قدرة البشر على القسوة والعنف وسّع آفاقه في الأعمال اللاحقة خصوصاً لجهتي الطفولة والافلاس الاخلاقي في السياسة والأخطار المحدقة التي يوصي بها "المحافظون المتطرفون". وتتجلى هذه الهموم في روايته "الطفل في الزمان" المنشورة عام 1987 وفيها يرسم عالماً ثاتشرياً نسبة الى مارغريت ثاتشر مبالغاً، حيث يترتب على المتسولين اقتناء قصعات رسمية تصنّعها الحكومة مرفقة بشارات توضع على صدر المتسوّل كشارات الموظفين أو رجال الشرطة، كذلك "يتنبأ" مكيوان في هذه الرواية بتعاظم التلوث البيئي وتبدّل أحوال المناخ في العالم. كانت تلك روايته الثالثة وبداية "التحول الكوني" في أعماله، فبعد مجموعة قصصية ثانية بعنوان "بين الشراشف وقصص أخرى" عام 1978 وروايته الأولى "حدائق الاسمنت" عام 1979 ثم روايته الثانية "عزاء الغرباء" عام 1981، بدأ مكيوان يبتعد عن الوصف العيادي الدقيق لعالم الانحراف الخلقي والجنسي لدى المراهقين والناشئة الانكليزية عموماً، وعوضاً عن العالم الانغلاقي الداخلي لأبطاله الأوائل جاءت رواية "التوبة" عام 2001 تتويجاً لمسيرة دؤوب نحو الامداء الواسعة الشاملة للتاريخ وعلم الاجتماع والسياسة مما بدأ يتسرّب الى أعماله بعد "الطفل في الزمان" إذ ظهرت آثار الحرب الباردة في "البريء" عام 1990، وصوّر الفاشية والعنصرية في "الكلاب السود" عام 1992، وتطرّق الى العقلية العلموية المنغلقة على نفسها ومنطقها الضيق في "احتمال الحب" عام 1997، الى أن أصاب الفساد السياسي والاعلامي والابداعي وحاز جائزة بوكر عن "آمستردام" عام 1998. إلا ان النقاد عموماً والقرّاء المهتمين بعمق في نوعية الابداع الروائي يعتبرون "التوبة" التي صدرت عام 2001 أقوى وأبرز أعمال مكيوان، ربما كونها الأكثر شمولية لجهة إحاطتها بفترة مهمة من تاريخ بريطانيا امتدت طوال خمس سنوات بين 1935 و1940 وجاءت بلسان امرأة في السابعة والسبعين من عمرها، تروي بصوت يتأرجح بين الطفولة والبلوغ، وتغمد القارئ في إشكالية الهوس بالكتابة والقص المزدوج حيث تتداخل الأزمنة والأصوات، يعلوها صوت البطلة بريوني التي تبدأ الرويّ وهي في الثالثة عشرة من عمرها، مهووسة بالكتابة القصصية تتناول كل ما تلقيه الحياة في دربها وتسكبه في بوتقة التخييل. ربما لأنها نشأت وترعرعت على قراءات روائية ما جعلها تعتبر العالم الروائي حقيقياً والعالم المعيش على صورته ومثاله. وحين تعترف بريوني بحال الالتباس التي تعيشها بين المخيال والمعيش تكتشف انها ارتكبت أخطاء مميتة، ثم إذ تحاول تصحيح تلك الأخطاء، تائبة، تفشل بالطبع في إعادة الزمن الى الوراء. من هنا كانت "التوبة" مثار تجاذبات نقدية حول "اخطار" الكتابة الروائية وحدودها وفوائدها، ناهيك عن جدواها في حياة الأمم والشعوب. تبدأ رواية "السبت" بتأرق بطلها هنري بيرون، إذ ينهض من فراشه غير قادر على النوم ويقف أمام النافذة. إنها ليلة باردة، قبل ساعات قليلة من طلوع الفجر. يرى هنري طائرة متجهة نحو هيثرو. فجأة تنفجر الطائرة محترقة في الفضاء، ويحدث ذلك بعد عامين ونصف تقريباً على الحادي عشر من أيلول سبتمبر 2001. هنري بيرون جراح اعصاب لامع، لكنه أيضاً مواطن عادي، وما يحصل في وعيه، سياسياً وانسانياً واجتماعياً يعكس هموم الكاتب نفسه، وبالتالي فإن الحدث المفاجئ الذي يقلب حياة الانسان رأساً على عقب ثيمة متكررة في مجمل الأعمال الروائية لمكيوان، فمنذ الصفحات الأولى عموماً يدق القدر باب الحياة مما يحيل روتينها الساكن الى سلسلة من المفاجآت والكوارث على أنواعها. في "عزاء الغرباء" لقاء مع غريب في البندقية يغيّر مصير زوجين شابين الى الأبد. وفي "الطفل في الزمان" يفقد البطل ابنته بعدما يخطفها مجرم خلال "زيارة" للسوبرماركت. ويؤدي سقوط منطاد في "احتمال الحب" الى مسلسل درامي يشبه الدمى الروسية المتداخلة في بعضها. وهكذا دواليك. إلا أن مكيوان ليس مهووساً بالقدرية المطلقة كما في الآثار الاغريقية بل تراه بالغ الاهتمام بمتغيرات خلقية ذات طابع معاصر علت "الحدث المغيِّر" محوراً سيكولوجياً ذا طبيعة ترويجية، من شأنها الدعاية لإحداث تغييرات كثيرة على مختلف الأصعدة، شخصية وعامة على السواء. كما هي الحال بعد 11 أيلول، إذ وجدت الولاياتالمتحدة وحلفاؤها المسوغ "الاخلاقي" المناسب لاحتلال العراق. ويكتب مكيوان عن لسان بطله "ان قول الحكومة بحتمية وقوع هجوم على مدن أميركية أو أوروبية هو انكار سافر للمسؤولية، بل وعيد لا لبس فيه، يخافه الجميع، لكن هناك توق قاتم في اللاوعي الجمعي، وتحسّر على عقاب الذات، ناهيك عن الفضول الماجن لدى الناس". بعكس بقية أعماله تدور أحداث "السبت" خلال 24 سعة، انطلاقاً من أحد أيام الجمعة في شهر شباط فبراير عام 2003 موعد التظاهرات الضخمة ضد التورط البريطاني في الحرب على العراق، هنري بيرون يقود سيارته في الصباح التالي، صباح السبت، الى النادي لممارسة رياضة "الاسكواش" وبناء على تغاضي أحد رجال الشرطة يخالف بيرون قوانين السير متفادياً الدخول في زحمة التظاهرات، لكنه يجد نفسه في شارع مقفر غير بعيد من مشرب يدعى جيريمي بينتام، وهناك يقع اصطدام بين سيارته وسيارة فتى شارعيّ متوتر يدعى باكستر. وفيما تمتلئ سماء العاصمة البريطانية بهتافات المتظاهرين ينشب حوار غير ودّي بين الدكتور الراقي والزقاقي باكستر يكاد ان يتحوّل الى شجار عنيف لولا ان لاحظ بيرون ارتجافاً معيناً في يديّ باكستر يعتبر مؤشراً لبداية مرض هاتنغتون غير القابل للشفاء. عندئذ لجأ الدكتور إلى الحيلة وأقنع باكستر بأنه قادر على شفائه، وهكذا أفلت منه... ولكن الى متى؟ إذ يتحول باكستر الى كابوس يهدد أسرة بيرون بالقتل يتبدى معنى الحدث المغيِّر في الرواية. وعلى غرار الأعمال السابقة لمكيوان فإن بطل "السبت" يحاول التشبث باقتناعاته وأوهامه حيال المتغيرات اللامتوقعة التي تعصف بحياته وتأخذ وجدانه الى مناطق من المعاناة لم يكن مستعداً لها على الاطلاق. وليس اختيار اسم جيريمي بينتام فيلسوف الشخصانية كاسم للمشرب حيث وقع الحادث/ محض صدفة، بل ان مكيوان يقصد الاشارة بقوة الى ان الثقافة الغربية عموماً اعتنقت، من دون قصد مباشر، الافكار الأنانية لجيريمي بينتام. فإزاء رؤيته احتراق الطائرة وسقوطها يتذكر بيرون قول العالم السياسي البريطاني فريد هوليداي ان أحداث 11/9 ستستمر آثارها طوال القرن الحالي. مقارنة بالرواية العربية الحديثة نلحظ فوارق مثيرة للقلق بين الشمولية لدى الكاتب الأوروبي والمحدودية القصصية لدى الروائي العربي. فالعلم عموماً غائب عن الرواية العربية والنظرة السياسية بمعناها الكوني تكاد تكون غائبة أيضاً. بطل "السبت" جرّاح أعصاب، مثلاً، وكي يتمكن مكيوان من تصوير ووصف إحدى العمليات تراه غاص في تفاصيل التعقيدات الجراحية، لكنه أيضاً أغمس نفسه في التكوين الخلقي لشخص مجبول بالتفكير العلمي والتحليل المنطقي، واضعاً ذلك كله أمام امتحان الادراك لما يجري في العالم اليوم. من هنا تبقى أعمالنا الروائية، رومانسية أو حكواتية في معظمها، ربما لأننا لم ندخل بعد في اشكالات العالم المعاصر، ولم تزل "ألف ليلة وليلة" المحور السيكولوجي لرواياتنا.