استضافت الفعالية الثانية من مهرجانات بيت الدين أول من امس، رباعية برانفورد مارساليس الأميركية لموسيقى الجاز بقيادة عازف الساكسوفون الشهير برانفورد مارساليس. ولتصل الى المقر الصيفي الرئاسي الذي يحتضن الحفلة، عليك اجتياز قرى وبلدات تعبق بالتاريخ، حيث ترى ايضاً صوراً عملاقة معلقة على الجدران للتعريف عن جمال الطبيعة اللبنانية. الثامنة والنصف تماماً، اعتلى مارساليس وفرقته المسرح بصمت، وباشروا عزفهم، دقة لا نشهدها عادة في الحفلات اللبنانية، بيد أن التنظيم والالتزام كانا لافتين. عُرف عن برانفورد مارساليس 38 سنة الحائز جائزة غرامي ثلاث مرات، شغفه بالموسيقى من صغره، ودأب على تطوير مهاراته في العزف والتأليف، وصقل موهبته الى أن ترأس علامة مارساليس الموسيقيّة اللامعة التي أسسها عام 2002 والتي سمحت له بإنتاج مشاريع له ولعازفي موسيقى جاز جدد ومخضرمين. بدا مارساليس على مسرح بيت الدين هادئاً، مرناً وذا نفس لا ينقطع، ينفخ في ساكسفونه بلا ملل، متنقلاً بين عازفي الدرامز جيف تاين واتس والبيانو جوي كالديرازو والباص إريك ريفيس. بعد نحو نصف ساعة على بدء الحفلة رحّب العازف الاميركي بالجمهور، معتذراً عن عدم اتقانه العربية أو الفرنسية، متمنياً للحضور أمسية هادئة، وعرّف بأعضاء فرقته ليعود الى احتضان آلته. ولوحظ أن الجمهور اللبناني المتهافت على هذا النوع الموسيقي الذي برز منتصف القرن التاسع عشر على يد موسيقيين سود، هو ممن تجاوزوا الثلاثين سنة. تميّزت الحفلة بالعزف المنفرد" سولو"كل على حدة، اذ فتح مارساليس المجال لرفاقه بأخذ وقتهم كاملاً لتقديم وصلات ارتجالية ألهبت الجمهور. أما عزف مارساليس على آلة الكلارينيت في ختام الحفلة فزاد الأمسية أناقة ورومانسية، خصوصاً أن عازفي الدرامز والباص خفّضا ايقاعاتهما، مفسحَين في المجال للبيانو والكلارينيت لحوار أشبه بالهمس. كأن مارساليس يعي أنّ الموسيقى الصادقة في كل أهوائها تسير عكس تيّار الجاز الذي تميل تسجيلاته إلى البساطة لكنّه لم يأبه للأمر. يقول مدافعاً عن اسطوانته الاخيرة:"من يستمع إلى الموسيقى بشروطها هو حليفنا، وهذه الأسطوانة مخصصة لمن يعشق الموسيقى حقّاً، وليس لمن يهواها لمجرّد التسلية. فكثيرون يعتبرون الموسيقى آلةً كالتلفزيون بدلاً من اعتمادها آلةً تعليميّةً، وهم سيواجهون دوماً مشكلةً في ما يفعلون لأنّ همّهم هو النمو وليس تدعيم موقعهم، كانت لي مغامرات في ثقافة"البوب"، لكنني تخلّيت عنها لأختار هذا المنحى وأنا مستعد لأن أتحمّل العواقب". تحدَّر مارساليس الذي ولد في ولاية نيو اورليانز مهد موسيقى الجاز، من أسرة"تتنفّس الموسيقى"، وتعلّم المبادئ الاساسية من أخوته وينتون وديلفايو وجيسون. وكسب الجمهور من خلال عمله مع Art Blakey"s Jazz Messengers ورباعيّة أخيه وينتون أوائل الثمانينات من القرن الماضي، قبل أن يكوّن مجموعةً خاصةً به. كما أحيا حفلات وتسجيلات مع عمالقة الجاز ومنهم مايلز دايفيس الذي قدّم له أكثر من مقطوعة في الحفلة، وديزي غيليسبي وهربي هانكوك وسوني رولينز. يُعرف عن عازف الساكسفون الأميركي حسّه الموسيقي المرهف وأداؤه المبدع على مسارح العالم وقاعات الحفلات بصحبة رباعيّته الشهيرة خلال العقدين المنصرمين، وهو عازف الموسيقى الكلاسيكيّة الذي حلّ ضيفاً على عددٍ من مجموعات الأوركسترا السيمفونيّة. كما أن لمارساليس عشرات التسجيلات التي حظيت بترحيب الجمهور، لا سيّما الأسطوانة الأخيرة Braggtown المرشحة لجائزة غرامي والتي تعتبر من أبرز نتاجاته. كما حظيت اسطوانته السابقة Eternal ترشيحاً لجائزة غرامي وأُدرجت في لوائح واستطلاعات أفضل تسجيلات الجاز للعام 2004. وموسيقى الجاز كانت بداياتها، عموماً، معزوفات عادية أكثر منها صورة متكاملة من الفن الموسيقي، إذ كانت الفرق تقدم الألحان العسكرية في نيواورليانز، مصاحبة جنائز الموتى. ومارساليس لم يكتف بإحياء الحفلات، بل وضع خبرته وتجربته الموسيقية لتغيير مستقبل الجاز في قاعات الدراسة في جامعات عدد من الولايات الأميركية مثل ميشيغان وسان فرانسيسكو وستانفورد. وتتجلى اهتماماته المتعددة في نشاطات أخرى، فهو أمضى سنتين من الجولات والتسجيل مع المغني ستينغ، وكان المدير الموسيقي لحلقاتTonight Show with Jay Leno لمدّة سنتين في تسعينات القرن الماضي، ومثّل في عدد من الافلام.