جدة عروس البحر الأحمر وثغره البسام، المدينة الجميلة التي تجمع بين الحداثة والعراقة في تناغم رائع فريد، فتتجاور فيها العمارات الفخمة الحديثة والأبراج العالية الجميلة مع المنازل العتيقة التي تضم بين جنباتها أسرار الماضي وتعكس روعة فن العمارة القديم، جدةالمدينة المضيافة التي تفتح ذراعيها للحجاج والمعتمرين والزوار في مسيرتهم الروحانية إلى مكةالمكرمةوالمدينةالمنورة. جدة بأهلها الطيبين المبتسمين في وجه كل من يحط رحاله في مدينتهم الجميلة ذات الشاطئ الساحر، شهدت حدثاً دولياً مهماً هو مؤتمر جدة للطاقة الذي حضره ممثلو 35 دولة و7 منظمات دولية إضافة إلى 25 شركة دولية، وكان هذا الجمع الحاشد من أجل مناقشة أوضاع السوق الدولية للنفط بعد أن بلغت أسعاره 140 دولاراً للبرميل! 140 دولاراً سعر قياسي غير مسبوق بلغه سعر المادة السحرية التي بهرت وتبهر العالم، وقد انطلقت مسيرة أسعاره سريعة نحو القمة خلال عام واحد، ففي العام الماضي كان السعر يدور ما بين 70 و75 دولاراً، ثم جاءت قفزاته السريعة خلال عام أسرع من قفزات الغزلان ليبلغ 140 دولاراً. كان بلوغ السعر هذا المستوى الكبير مزعجاً للدول المنتجة والمستهلكة على حد سواء، وانعكاساً لهذا الشعور بالانزعاج جاءت دعوة العاهل السعودي خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز للمنتجين والمستهلكين لمؤتمر جدة للطاقة، وكانت الاستجابة الدولية لحضور المؤتمر الدولي سريعة، ويرجع ذلك لأسباب ثلاثة هي: أهمية صاحب المبادرة، ومكانة بلاده السياسية والاقتصادية، وأهمية الطاقة لاقتصاد العالم! وفي كلمة العاهل السعودي التي افتتح بها المؤتمر أكد أن"هناك مجموعة من العوامل وراء الارتفاع السريع غير المبرر لسعر النفط في الآونة الأخيرة، منها عبث المضاربين بالسوق، وزيادة الاستهلاك في عدد من الاقتصادات الصاعدة، والضرائب المتزايدة على النفط في عدد من الدول المستهلكة". لا شك في أن سوق النفط الدولية تشهد مضاربات شرسة، بل إن المضاربين تحولوا من أسواق الأوراق المالية بعد أن تعرضت لهزات عنيفة إلى أسواق النفط، حتى أصبحت هذه السلعة المادة الأولى للمضاربين، فالمضاربة مفتوحة لكل من هب ودب، سواء أكانت له علاقة بالنفط أم لا، فكل من له حساب عن طريق وسيط رسمي في إحدى بورصات النفط، من حقه الشراء والبيع عن طريق صفقات العقود الآجلة، والحد الأدنى للصفقة ألف برميل فقط لا غير. لذا وجدنا أن سعر النفط قفز 11 دولاراً في يوم واحد، فبإمكان مضارب ما أن يضع سعراً يفوق سعر النفط خمسة أو عشرة دولارات لألف برميل وهنا يسجل النفط أعلى سعر، ولن تتجاوز خسارة المضارب 5 أو 10 آلاف دولار، وهذه هي الآثار السالبة لمغامرات المضاربين! والدول الصناعية وهي تصرخ منادية برفع الإنتاج لتنخفض الأسعار يصدق عليها المثل العربي"رمتني بدائها وانسلّت"، فهي في الحقيقة التي تتسبب في رفع الأسعار من دون مراعاة لحقوق مواطنيها ومن دون رأفة بهم، فهي التي تثقل كاهلهم بأسعار عالية لمشتقات النفط وتتهم"الأوبك"، فالدول الصناعية المستهلكة تفرض ضرائب على النفط تصل في بعضها إلى 89 في المئة، لتدخل إلى خزائنها بليونات الدولارات، بل إن دخلها من تلك الضرائب يزيد على دخل الدول المنتجة صاحبة الثروة. فمثلاً في الفترة ما بين 2002 - 2007 بلغت عائدات الدول الصناعية من الضرائب على النفط أكثر من 2350 بليون دولار، بينما إيرادات الدول أعضاء"الأوبك"بحدود 2125 بليون دولار للفترة نفسها، وإذا كان مقدراً لإيرادات"الأوبك"أن تبلغ هذا العام حوالي 1000 بليون دولار مع الارتفاع الحالي للأسعار، فإن الدول الصناعية سيكون نصيبها أكبر من إيرادات"الأوبك"أيضاً! وانطلاقاً من الحقائق السابقة خاطب العاهل السعودي المؤتمرين قائلاً:"مهمتكم الكبيرة وهي كشف اللثام عن وجه الحقيقة، مهمتكم هي أن تستبعدوا الأقاويل والإشاعات المغرضة، وأن تصلوا إلى الأسباب الحقيقية الكامنة وراء ارتفاع السعر وكيفية التعامل معها، وأن يكون ذلك بوضوح وشفافية، وأن تعرض النتائج على شعوب الدنيا كلها حتى لا يؤخذ البريء بجريرة المسيء، وبحيث لا يصح إلا الصحيح". نعم"لا يصح إلا الصحيح"، فالسعودية و"الأوبك"قدمتا للسوق النفطية الدولية ما لم تقدمه أية دول منتجة أخرى خارج"الأوبك"، على رغم ذلك لم يشر إليها بإصبع الاتهام ولو مرة واحدة، بينما السهام توجّه دائماً لهذه المنظمة التي ضحى أعضاؤها كثيراً من أجل مصالح الدول المستهلكة، ولا تزال هذه الدول تطالب"الأوبك"بالمزيد، على رغم أنها ليس لها ناقة ولا جمل في ارتفاع الأسعار، فالحروب لاحتلال الدول والصراعات الدولية أسباب رئيسية لدفع عجلة الأسعار إلى أعلى، والحقائق تقول إن أي توتر في أية منطقة في العالم، خصوصاً في مناطق الإنتاج يؤدي إلى رفع الأسعار، وعلى سبيل المثال فإن التهديد الأميركي - الإسرائيلي الأخير بضرب المواقع النووية الإيرانية كان له أوقع الأثر على رفع الأسعار! يضاف إلى الأسباب السابقة المؤثرة في سعر النفط انهيار الدولار المدوي وخفض الفائدة عليه، وما زاد الطين بلة قيام السلطات النقدية الأميركية بطبع أكثر من 168 بليون دولار من العملة الأميركية الرديئة لضخها في سوق العملات الدولية، ما يعد ضربة قوية موجعة تزيد من انخفاض سعر الدولار، وتجعل أسعار النفط تأخذ طريقها المتسارع للزيادة. ومن الأسباب التي تؤدي إلى ارتفاع الأسعار عدم الاستقرار في بعض مناطق الإنتاج، وعلى سبيل المثال فإن أعمال التخريب الأخيرة في الحقول النيجيرية تسببت في خفض إنتاج ذلك البلد 200 ألف برميل يومياً، هذا بجانب عدم لجوء الدول المستهلكة إلى ترشيد الاستهلاك باستثناء اليابان، تضاف إلى ذلك حالة عدم اليقين بشأن أمن الطاقة شرقاً وغرباً، كل تلك الأسباب أسباب جوهرية تجعل سوق النفط الدولية مهتزة ومتشنجة، ولن يفيد في علاجها رفع"الأوبك"لإنتاجها، فالسوق تحتاج إلى معالجة المرض وليس عارض المرض! وارتفاع أسعار النفط والغاز لا ينحصر أثره على الدول الصناعية فحسب، بل يمتد إلى الدول الفقيرة وسكانها الفقراء وما أكثرهم على وجه الكرة الأرضية، فهناك ثلثا سكان العالم يعيشون على أقل من دولارين ونصف الدولار في اليوم، 1.6 بليون إنسان يعيشون على أقل من دولار واحد في اليوم، و80 في المئة من شعوب الدول النامية هم من الفقراء. واستشعاراً بمعاناة هؤلاء الفقراء جاء طرح العاهل السعودي لمبادرة الطاقة من أجل الفقراء أمام المؤتمر لمساعدة الشعوب الفقيرة التي عانت وتعاني من ارتفاع كل السلع من دون استثناء، وفي مقدمها السلع الغذائية، وتهدف المبادرة إلى مساعدة الدول النامية في مواجهة تكاليف الطاقة المتزايدة، ودعا الملك عبدالله بن عبدالعزيز البنك الدولي لعقد اجتماع في اقرب وقت ممكن للدول المانحة والمؤسسات المالية والإقليمية والدولية لمناقشة المبادرة وتفعيلها، وجاء رد البنك الدولي سريعاً، فقد أعلن رئيسه روبرت زوليك تبني البنك رسمياً للمبادرة، كما دعا المجلس الوزاري لصندوق أوبك للتنمية الدولية للاجتماع والنظر في إقرار برنامج مواز للبرنامج السابق له صفة الاستمرارية، واقترح أن يخصص للبرنامج بليون دولار ليصبح رأسمال أفند 7 بليونات في حال إقرار المجلس الوزاري للصندوق للمبادرة، وستسهم السعودية في تمويل البرنامجين، إضافة إلى 500 مليون دولار قروض ميسرة سيقدمها الصندوق السعودي للتنمية، لتمويل مشاريع تساعد الدول النامية في الحصول على الطاقة وتمويل مشاريع تنموية! والاستثمارات في ميدان الطاقة هي مربط الفرس، فلزيادة الإنتاج تحتاج الدول المنتجة إلى أموال طائلة لتحسين طاقة إنتاجها، وتحتاج دول أخرى إلى أموال طائلة للتنقيب والاستكشاف لحقول جديدة، فمثلاً لتوسيع طاقة الإنتاج للنفط والغاز في الشرق الأوسط على مدى 25 عاماً تحتاج الدول إلى حوالي 750 بليون دولار، ودول الخليج العربي وحدها بحاجة إلى 300 بليون دولار خلال هذا العقد والعقد المقبل، والسعودية رصدت 129 بليون دولار للاستثمار في ميدان الطاقة خلال السنوات الخمس المقبلة، أما الدول خارج الأوبك فإنها تحتاج إلى حوالي 1.2 تريليون دولار لزيادة إنتاجها لصعوبة الإنتاج وزيادة تكاليفه! ولا بد من أن يفهم أن أزمات الطاقة تلحق الضرر والأذى بالجميع، وتؤثر في حياة الناس وتخلف بطوناً جائعة وأجساداً متهاوية وأمراضاً فتاكة وبطالة مقنعة وفساداً وتخرج من رحم هذه الكوارث موجات الإرهاب وعدم الاستقرار في كثير من الدول، التي بدأت صرخات شعوبها ترتفع احتجاجاً وطلباً للحل، ومؤتمر جدة للطاقة كان بداية لفتح الباب لحل بعض هذه الأزمات! * مفكر سعودي - رئيس مركز الخليج العربي للطاقة والدراسات الاستراتيجية