مع 7.5 مليون صفحة الكترونية وترجمة إلى عشرات اللغات، وزوار بلغ عددهم 50 مليوناً شهرياً في الولاياتالمتحدة و 10 ملايين في فرنسا، فرضت"ويكيبيديا"Wikipedia الموسوعة المفتوحة على الانترنت نفسها باعتبارها من الظواهر الأساسية على تلك الشبكة. والمعلوم أنها أنشئت في 15 كانون الثاني يناير 2001. وفي فترة تزيد قليلاً على 7 سنوات، أصبحت في المرتبة التاسعة بين المواقع الأكثر تداولاً على الشبكة العنكبوتية. والحق أنها حققت نجاحاً مدهشاً، لكنه نجاح ذو حدّين أيضاً. إذ تتعرض لانتقادات غزيرة تطعن في نوعيّة مقالاتها. ويشهّر البعض بعدم دقة الكثير من معلوماتها، مُرجِعاً ذلك أحياناً الى مبدئها المعروف با?پ"تعاونيّ"، الذي يمثّل نوعاً من الرهان الايديولوجي وقد نجح في إيصالها إلى النجاح الذي تعيشه. والمعلوم أن صفحات تلك الموسوعة مفتوحة أمام الجمهور بفضل البرنامج"ويكي". وكذلك فإنها مجانيّة، خصوصاً مقارنة بأسعار الكتب. ويبدو الأمر راهناً وكأن نجاح هذه الموسوعة الحيّة، يكاد أن ينقلب ضدها. كيف يمكن النظر إلى هذه المآخذ، في ظل الرواج الشعبي المذهل الذي يلاقيه موقع"ويكيبيديا"؟ يشير دافيد مونيو، أحد أعضاء المجلس الفرنسي في"ويكيبيديا"إلى أن كثيراً من الانتقادات التي توجّه الى تلك الموسوعة تنطبق على غيرها أيضاً. والمعلوم أن مونيو باحث في المعلوماتيّة، ومسؤول عن البحوث في"المركز العالمي للبحوث العلميّة"واستاذ في"مدرسة الهندسة"في باريس وعضو في مجلس إدارة"ويكيبيديا- فرنسا"وهي منظمة لمستخدمي"ويكيبيديا"والمواقع التابعة لها في فرنسا. وفي الوقت عينه، ثمة وجهة نظر لاذعة في انتقادها للموسوعة الرقمية المفتوحة. ويمثل تلك الوجهة بيار أسولين، وهو صحافي وروائي ألّف سيَراً عن شخصيات مثل ألبير لوندر وهيرجي. ويدير موقعاً أدبياً معروفاً على الانترنت تحت اسم"جمهوريّة الكتب". ويرى أسولين أن من غير المستطاع إنكار أن المعرفة ليست كأي سلعة أخرى. ومن الناحية الأخرى، فإن قياس نوعية المعرفة انطلاقاً من عدد المشتركين في صناعتها، ربما يشكّل خطأً يصعب أن يمر من دون عقاب مناسب. وفي المقابل، يشير أوليفر أرتزشايد، وهو باحث في المعلوماتية الى أن من المبكر قليلاً الحكم على تجربة"ويكيبيديا". ويرى أنها لا تزال في مرحلة"المشروع"، وأنها ربما تشكّل إرباكاً لپ"علاقتنا الحميمة بالمعلومات والمعرفة". ما يعجز عنه الآخرون يستهل مونيو دفاعه عن ذلك الموقع المثير للجدل، بالإشارة الى أنه طرح سؤالاً على أحد طلبته أثناء امتحانات السنة الجامعيّة الأولى. ووصف الطالب السؤال بأنه صعب"لأنه يجب التفكير فيه كثيراً، قبل الإجابة عنه". ويرى مونيو أن بعض الانتقادات الموجهّة الى "ويكيبيديا"تُشبه هذا النوع من التذمّر."لماذا يلومون هذا الموقع، ألأنه يحثّنا على التفكير وعلى التدقيق ولا يزوّدنا بأمور لا تحتاج الى التفكير"؟ ويستطرد ليقول أنه غالباً يُلقى اللوم على"ويكيبيديا"باعتبارها المسؤولة عن"كسل"الطلاب الذين باتوا ينسخون المقالات منها عوضاً عن الذهاب الى المكتبة. ويطرح السؤال التالي:"هل الانتحال المدرسي لم يكن موجوداً قبل ويكيبيديا؟ إن كلّ تلميذ يكتفي بنسخ فرضه من موسوعة ما، مهما كانت، يستحق علامة صفر". وكذلك ينظر الى الحكم الشائع الذي يقول أن في برنامج"ويكيبيديا"يمكن لكل شخص أن يدّعي الخبرة. ويُشدّد على أن قواعد العمل في تلك الموسوعة تفرض أيضاً أن يُسند كل حدث بمصدر معتمد ومحدد، وأن تُمنع الآراء الشخصيّة. وفي المقابل، يُدعى قارئ"ويكيبيديا"الى مراجعة قائمة المصادر والمراجع. ويصف مونيو ذلك بأنه تدبير يدل على مسؤوليّة أكبر من المواقع التي تدعو مؤلّفيها أن يقدّموا أنفسهم بأنفسهم لكن من دون أن تراقب مؤهلاتهم. وفي نفس مُشابه، يتناول نقداً شائعاً آخر يقول أن"ويكيبيديا"تمزج بين المواضيع المبتذلة والأساسية، وبين الفيلسوف الفرنسي بليز باسكال وشخصيات لعبة"بوكيمون"؟ ويرى أنه نقد يجهل أصول الكتابة الرقمية. فعلى عكس المنشورات الورقيّة التي تعتمد ترقيم صفحات محدد، لا يحتل أي موضوع في"ويكيبيديا"مكانة على حساب مواضيع أخرى. وهذا يسمح بتغطية مجالات تجهلها الموسوعات التقليديّة، مثل الثقافة الشعبيّة أو بعض النظريات العلمية المثيرة للجدل. وأكثر من ذلك، إذا عولج أحد المواضيع في شكل سيئ، فمن الممكن تحسينه بفضل جهود المهتمين به. ويؤكد مونيو أن"ويكيبيديا"تتغلب على مسألة غموض السياق، الذي يحدث أحياناً في الموسوعات الورقية. ويرى أنها تتفوق في مجال الشفافيّة، إذ إن المناقشات والآراء تحفظ وتبقى مفتوحة للجمهور."في المقابل، عندما تقرأون صحيفة أو تشاهدون التلفاز، لا يُقال لكم لماذا يتطرقون الى هذا الموضوع بدلاً من ذاك، ولا إذا كان النص خضع لبعض التعديلات". ويشدّد على أن"ويكيبيديا"لا تحتوي على أخطاء لا تُحصى. ويورد أن دراسات عدّة أثبتت أنها لا تضم أخطاء أكثر من الموسوعات المرجعيّة مثل"بريتانيكا"وپ"بروكهاوس"."وعلى رغم ذلك، تتقبّل"ويكيبيديا"كل الأخطاء التي قد ترد فيها، فهي أكثر المواقع العامة تمدّناً. ولهذا السبب بالتحديد قد يعاتبها بعض النمّامين الذين طُردوا منها لأنهم حاولوا أن يفرضوا آراءهم على صفحاتها". وأخيراً، يُنبّه مونيو إلى أنه لا يعتبر أن"ويكيبيديا"لا تعاني من نقاط ضعف."في بعض الأحيان، لا يستطيع المؤلّفون أن يتجنبوا تأثيرات الأسلوب أو الآراء الشخصيّة. ويخلط البعض منهم في مصادرهم الأعمال الروائيّة الشعبية المتعلّقة بالأدب أو بالصحافة مع الأعمال التاريخيّة الفعليّة، خصوصاً مع قلّة عدد المقالات التي تعالج مواضيع عامة والتي تلقى رواجاً بين الناس. أما المواضيع المتخصصة أكثر، فتكون أحياناً تقنيّة جداً بالنسبة الى من يجهلها. وبعض المقالات تصرّ على إبراز نقاط الخلاف مع الآراء السائدة. ولنتذكر أن بعض الأفكار الطليعية قد لا تصبح مقبولة الا بعد بضع سنوات، لكن تجاهلها أيضاً قد يعيدنا قروناً الى الوراء!". ويضيف:"هل يجب لهذا أن نُعرّض الموقع للسخرية؟ يجب على الذين يسخرون من تجربة"ويكيبيديا"أن يوسّعوا آفاق انتقاداتهم لتصل الى الطرق الأخرى التي تبث المعلومات والمعرفة في الأزمنة المُعاصرة". المعرفة الشعبوية رقمياً في انتقاده لپ"ويكيبيديا"، يُبرز أسولين، الذي يعطي دروساً في الصحافة في"جامعة العلوم السياسيّة"في باريس، مشكلة البحث وعلاقته بالمعرفة. ويلاحظ أن كثيراً من طلبته، الذين باتوا شديدي الاعتماد على الموقع المذكور، يسألونه تكراراً"كيف كنتم تفعلون ذلك سابقاً"؟ ويرى أنه مجرّد أن يجهل التلاميذ الناجحون حقيقة البحث الوثائقيّ قبل اختراع الموسوعة على الانترنت يدلّ على فشل كبير في السياق التعليمي راهناً، مُحمّلاً"ويكيبيديا"مسؤولية واضحة عن ذلك الأمر. ويميل الى القول لوصف ذلك الفشل بأنه يحمل في طياته انكسار بعض القيم:"لنقل الأشياء كما هي، من دون الخوف من الكلمات القاسية. كيف يمكننا أن نصف الأمور بطريقة مغايرة حين لا تتخيّل النخبة المستقبليّة أن يبحث صحافي ويتحقق من مصدر معلوماته، وأن يجوب المؤرخ المكاتب بحثاً عن شهادات وتحاليل ذلك العصر، وأن يصنّف باحث مرجعه كي يرتّبه من المصدر الموثوق به وصولاً الى المصدر المثير للجدل؟ هذا هو لبّ الموضوع، وهذه هي الذهنيّة التي تحاول"ويكيبيديا"القضاء عليها شيئاً فشيئاً". ويشدّد على أن مسألة المصادر تعتبر أساس كل بحث، أكان تاريخياً أم علمياً أم صحافياً، مشيراً إلى أن"ويكيبيديا"تُضعف المصدر كثيراً بحيث تتملّص منه عملياً."لا يمكننا أن نكرر ذلك كثيراً، ففي مجال الأفكار، وفي شكل خاص في التاريخ، روح المرجع متّصلة بحدّ ذاتها بالحقبة الزمنية التي ظهر فيها. وفي"ويكيبيديا"نجد المرجع في حال تقلّب دائمة، وكأنما للقول بأن الحق هو في صفّ آخر المتكلّمين حتى يأتي أحد بعده. أيُعتبر هذا مصدراً موثوقاً"؟، يقول. ويرى أن الخلّل الفادح الذي يمكن أن يحصل في"ويكيبيديا"لا يقتصر على نشر مقال تطغى فيه الأخطاء المقصودة، بل أن يُنشر نص شديد الدقّة، لكنه سرعان ما يتفكك يوماً بعد يوم على يد أشخاص أرتأوا أن يُعلنوا أنفسهم خبراء، وأنهم لا يستندون إلا على أنفسهم ويوضح:"لا يمكننا أن نتصوّر تشتت صفوفهم بما أن صوت الشعب يشجعهم. يمكننا حتى أن نخشى أن توقعهم نرجسيّة الميل الشعبوي في شرك"مذهب الهواة"الذي تعكس"ويكيبيديا"أحدى أجمل صوره". ويورد أسولين أن البعض قد يسأل عن الجدوى من كشف الحقائق المُحوّرة التي تنقلها"ويكيبيديا"يومياً، بما أنها تُمحى فور كشفها علناً، كما لو أنها لم تكن؟ ويناقش بأن مجرد بقائها على الموقع 3 أيام أو 3 أسابيع أو 3 شهور، يتيح لها متّسعاً من الوقت كي تلحق الكثير من الأضرار"لأن البعض أخذها وذكرها على أنها مصادر". ويشدّد على أن كلّ مؤلّف جدير بهذا اللقب وبالأخص الموسوعيّ يزن كلّ كلمة قبل استخدامها، لأن ما يُطبع يُحفر الى الأبد. وفي المقابل، يمكن لأيّ كان أن يكتب ما يشاء على"ويكيبيديا". ويخلص أسولين الى القول إن الموسوعة الرقمية المفتوحة هي أداة سياسية بامتياز، ترتكز إلى مثاليّة فلسفيّة تلقى رواجاً مع انتشار روح"ديموقراطيّة المساهمة"التي تؤمن بأن الحقيقة تشعّ من تراكم المعرفة المدنيّة وليس من نقاش الآراء الخبيرة وصداماتها ويقول:"ان اختلاط القيم طريق مفتوح على النجاح... تشبه"ويكيبيديا"طريقاً عريضاً مفتوحاً أمام الشعبوية الفرنسيّة... إن معارضة النخبة نهج فعلي ومستقبل الغوغائيّة الرقميّة باهر: هذا هو العالم الذي تؤسسه"ويكيبيديا"وتُجسّده من خلال النظر الى نفسها باعتبارها"موسوعة المواطن". القسم العلمي - بالتعاون مع مركز الترجمة في "دار الحياة"