لم يكن المخرج السينمائي الراحل مارون بغدادي يتصور ان فيلم "فتاة الهواء" الذي صوره في فرنسا، كما حال أفلامه الأخيرة، سيكون آخر أعماله. فهو خلال الشهور الأخيرة من حياته، كان يعيش مشاريعه السينمائية العديدة ويخطط لإنجازها. ومنها فيلم عن"عودته"الى بيروت، بعد أكثر من عقد قضاه في فرنسا ليصبح، عبر أفلام متنوعة معظمها تحدث فيه عن لبنان، واحداً من كبار شبان السينما الواعدين فيها. لكن القدر شاء لهذا الفيلم ان يكون الأخير... كما ان الظروف المتراكمة جعلت"فتاة الهواء"الفيلم الذي شوهد في لبنان، أقل من أي فيلم آخر لبغدادي. اليوم تلوح فرصة مشاهدة الفيلم على قناة جيمي الفرنسية، التي يمكن التقاطها في أي مكان في لبنان والعالم العربي، ما يوفر فرصة للعودة الى هذا الفيلم، الذي يبدو في ملامحه الخارجية، فرنسياً خالصاً، لكنه في جوهره يمت الى لبنان بألف صلة، على عادة مارون في أفلامه، حيث تمكن قبل ذلك من أن يحول عملاً له عن الثورة الفرنسية الى فيلم عن الحرب اللبنانية، وهو فيلم"مارا"ضمن سلسلة"ثنايا الثورة"التي أنتجتها التلفزة الفرنسية. كان"فتاة الهواء"سادس فيلم يحققه بغدادي منذ استقراره في فرنسا. وفي هذا الفيلم وكما أشرنا يستقي المخرج موضوعه من أحداث حقيقية، وهو ما فعله في كل أفلامه الأخرى حيث - باستثناء فيلمه الإنكليزي"الفزاعة"? يستعين بأحداث الواقع ليصوغ فيلماً ? سينمائياً هنا، تلفزيونياً في أحيان أخرى - يحمله في نهاية الأمر، كالعادة، رؤياه الخاصة ويطرح عليه اسئلة ما برح يطرحها منذ أفلامه اللبنانية. ولكن، لئن كان مارون بغدادي استعار في أفلامه السابقة أحداثاً تنتمي الى الحرب اللبنانية أو إلى إرهاصاتها، في شكل أو آخر - ولا نستثني من ذلك الجانب المضمن في تفسيره لشخصية القائد الثوري الفرنسي"مارا"فإنه هذه المرة يستعيد حادثة نادين فوجور الشهيرة. هذه الحادثة تشكل - بالطبع - المحور الحدثي الذي بنى عليه مارون بغدادي فيلمه، غير انه - هو الآتي من الشرق، والذي نادراً ما تضمنت أفلامه حكايات غرام كلاسيكية على أي حال - تمكن من ان يحول تلك الحادثة الى حكاية رومانسية، الى حيز حنان يقف بالتضاد مع الأخلاقية السائدة في فرنسا - وربما في الغرب عموماً - عند نهاية القرن العشرين التي نعيشها. كأننا في لبنان ففي فيلم مارون بغدادي لا تعود بريجيت/ نادين بياتريس دال مجرد امرأة تريد ان تنقذ زوجها من قضبان السجن، بل تصبح امرأة عاشقة، واحدة من آخر الرومانطيقيين، ورمزاً حقيقياً لذلك الحنان العائلي المفتقد، اضافة الى أنها - في غياب تتصوره، هي، لعدالة القضاء، هذا القضاء الذي يصرّ على حرمانها من عيش حياتها الزوجية العائلية الحقيقية لمجرد ان زوجها ارتكب حماقة شقية لا تستأهل كل العقاب الذي يحل به!- تقرر ان تمسك مصيرها بيديها. وهو ما يتيح لمارون بغدادي ان يشير الى غياب الدولة، ودورها بالنسبة الى الفرد، واضطرار بعض الأفراد لإمساك مصيرهم بأنفسهم من جراء ذلك الغياب - وها هو، إذن، يقودنا مرة أخرى الى لبنان حيث كانت الدولة غائبة مما كان يضطر الأفراد لتحقيق العدالة التي يرتأونها بأنفسهم .... من هذه الزاوية، إذن، يعيدنا مارون بغدادي في"فتاة الهواء"الى لبنان من جديد. لبنان هذا الهاجس الذي يملأ ذهنه ويبدو وكأنه يقود كل خطاه. وبغدادي على أي حال لم يكتم ان هذا الجانب من تفسير الحادثة كان واحداً من الأسباب الرئيسة التي دفعته لقبول العمل على هذا الفيلم. حيث يقول متسائلاً خلال حديثه عن الفيلم:"لقد أحببت حقاً، هذه الأسرة أسرة نادين فوجور المليئة بالعواطف وضروب الغضب، وأحببت بخاصة نساءها الثلاث، الأم والابنة والحفيدة اللواتي لحمتهن المأساة والألم. ثلاث نساء لا يكتفين بانتظار الأب، الابن، الشقيق ليعود، بل يقاومن حتى ولو حرفن حياتهن. إننا هنا إزاء العائلة وكأنها قبيلة تبحث عن مكان لها في مجتمع يفقد أكثر وأكثر قوته المركزية. ترى هل يعود بي هذا الأمر مرة أخرى، الى لبنان؟ لبنان العشائر والقبائل التي سحبت ثقتها من الدولة مما أدى الى ولادة حرب أهلية؟ في فرنسا، من المؤكد ان الدولة، التي كانت المحاور المميز للفرد، بدأت تفقد أكثر وأكثر هذا الدور التوافقي، عبر الاستهلاك الذي تمثله سياسة السياسيين، وذلك لمصلحة شتى ضروب المنغلقات المهنية والاجتماعية والإقليمية. مما يعيدنا إذن الى مفهوم العشيرة، والعائلة والقبائل. وهكذا تجدنا في فرنسا ايضاً، خلف العديد من الانحرافات الاجتماعية، امام شبح الحرب الأهلية وهو يلوح لنا...". امرأة مثيرة للإعجاب على هذا النحو يضع مارون بغدادي فيلمه الجديد هذا، في صلب إشكالية الدولة التي أدت الى انهيار المؤسسات في لبنان، غير انه لا يغالي كثيراً في إسقاط هذا التفسير على فيلمه، بل يبقى له في قراءته الأولى بعده الحدثي، ويجعله فيلماً عن امرأة يكن لها مارون بغدادي في الحقيقة قدراً كبيراً من الإعجاب والتعاطف. المرأة في الفيلم اسمها بريجيت، وهي في الحقيقة الأنا/ الأخرى لنادين بوجور التي تعرفت الى الشاب الذي ستتزوجه لاحقاً في السجن، يوم كان هارباً من رجال الشرطة إثر حادثة سطو بسيطة قام بها، وهو التجأ الى بيت نادين/ بريجيت بفضل تعرفه السابق الى اخيها في السجن وتصادقهما. ولقد كان من الطبيعي لبريجيت التي كانت خارجة لتوها من قصة زواج فاشلة تركت لها طفلة تحبها وترعاها، كان من الطبيعي لها ان تحب الشاب، الى درجة جعلتها - حين اعتقلته الشرطة - تبذل كل ما لديها من إمكانات لإخراجه من السجن، وحين تعجز عن ذلك ويحكم زوجها بسنوات سجن طويلة، لا تجد امامها إلا ان تتعلم قيادة الطائرة المروحية بدأب وهدوء ثم تستعين بصديق لزوجها، ويحلقان بالطائرة فوق سجن"الصحة"في الدائرة الباريسية الثالثة عشرة، ويتمكنان من"اختطافه"بحسب خطة كان قد شارك هو في رسمها. وإذا كان من المعروف - في الواقع - ان الشرطة عادت وألقت القبض على ميشال بوجور بعد شهور قليلة وأودعته سجناً لا يزال مقيماً فيه حتى كتابة هذه السطور، فإن فيلم مارون بغدادي يتوقف عند اللحظة التي تنجح فيها عملية الهرب، فينتهي الفيلم بلقطة للثلاثة الهاربين لتنزل على الشاشة عبارة تفيد بأن ميشال سيعتقل على أي حال بعد شهور.... * قناة"جيمي"، 18.45 بتوقيت غرينتش