تنبني رواية "واحة الغروب" على أصوات متعددة، تتولى كل منها الكشف عن الأحداث الرئيسية في الرواية، كل زاوية تتكامل مع غيرها من الزوايا التي تحتلها الشخصيات التي تبدو أشبه بالمرايا المحيطة بالحدث، عاكسة إياه من زوايا تزيده بياناً، وتزيدنا قدرة على فهمه وتخيله، في مدى تعدد مستوياته وأبعاده، وذلك من دون إغفال نسبية الحقيقة التي يؤكدها تعدد المرايا، أو أصوات الشخصيات التي تتناوب الحكي وأكثر الأصوات تكراراً صوت محمود عزمي، بطل الرواية الأساسي، فصوته يتكرر تسع مرات، يليه صوت زوجته كاثرين الذي يتكرر خمس مرات، وذلك مقابل مرة واحدة لكل من صوت الإسكندر الأكبر والشيخ يحيى، عميد عشيرة الغربيين من سكان الواحة، في مقابل نقيضه الشيخ صابر، عميد العشيرة المعادية الشرقيين وكل شخصية من الشخصيات تحكي الأحداث من منظورها الخاص، وتقوم بدور مزدوج، فهي تلقي الضوء على نفسها، وعلى غيرها، معمقة فينا الوعي بالأحداث والشخصية الأساسية، محمود، وفي الوقت نفسه حضورها الذاتي الذي تتفاوت فاعلية حضوره مع الأحداث. وتجمع بين هذه الأصوات المتجاورة، على المستوى الرأسي، تتابعات السرد التي تتحرك على المستوى الأفقي، وذلك بما يسقط المحور الأول على المحور الثاني، فيتردد صوت الإحباط الذي هو الوجه الآخر من التوتر الذي تنطوي عليه الشخصيات في بعدها الوجودي الذي هو لازمة من لوازم دلالة النهايات وهي الدلالة التي تتكرر على نحو مباشر أو غير مباشر في الرواية كلها ولذلك نسمع من الشيخ يحيى"اقتربت النهاية ولم أعرف طمأنينة القلب"ويضمر هجر الواحة بعد أن اغتال قمع التقاليد قرة عينيه مليكة التي كان يراها الروح الطاهر الحر وسط الجثث القعيدة التي يشارك في الانتساب إليها ويعي، بعد قتل مليكة، أن الواحة صارت سجناً خانقاً له، فيقرر هجرها"كي يجد نفسه"مرة أخرى والطريف أن رجع صوت الإسكندر يكرر الدلالة نفسها، حين نسمع صوته يقول:"استغرقت كل مغامراتي في آسيا سبع سنين، وكل حياتي على الأرض ثلاثاً وثلاثين سنة لم أعرف فيها أبداً طمأنينة النفس". ولا تختلف هذه الشخصيات الفرعية التي لم تصل إلى اقتناع مريح بأن حضورها في الوجود له معنى ومغزى، وأن حياتها على الأرض لا معنى لها ما لم تكن فاعلة في الوجود وهو الأمر الذي يجعل رواية"واحة الغروب"منطوية على بُعدٍ وجودي، يضيف إلى أبعاد الرواية ما يكشف عن ثرائها الدلالي، وتعدد المستويات التي تنبني عليها شخصياتها الأساسية وأحداثها التي لا يمكن وصفها بأنها وحيدة البعد أو الصفة وآية ذلك أن الشخصيات الفاعلة في الرواية تظل مؤرقة، دائماً، بمعنى حضورها في الوجود، وغاية هذا الحضور الذي يزيد الوجود وجوداً، في مدى الفعل الإنساني الخلاّق وينعكس هذا البعد على الشخصيات التي تظل مبنية على توتر لا يريم، يتجاذب طرفاه الحضور والغياب، المعنى واللامعنى والحدِّية هي الصفة الملازمة لهذا التوتر الذي يظل مشدوداً بين نقائض تتجاذب الذوات. وأكثر الشخصيات التي تنطوي على صفات القلق الوجودي هي شخصية محمود عزمي الذي نسمع صوته ونراه عبر مراياه الذاتية، ونسمع عنه من الشخصيات التي تحولت، في جانب منها، إلى مرايا عاكسة لأسباب وأحوال وحالات توتره الذي لا يتوقف والبداية التي نراها، من حياته، هي صورة الشاب اللاهي الذي كانت الدنيا تغلي حوله، في آخر أيام الخديوي إسماعيل، من دون أن يشعر بها، بل إنه لم يشعر بما يحدث حوله إلا بمصادفة قادته إلى مقهى متأتياً، حيث استمع إلى القادة الثوار للمرة الأولى، وتأثر بهم، لكن من دون أن يكون عضواً فاعلاً في المجموعات الثورية التي تزايدت حوله من غير أن يفكر في الانتماء إليها ويبدو أنه كلما كان يغرق في الجنس المبذول، لدى الحريم في قصر أبيه، قبل إفلاسه، كان يزداد شعوراً بالخواء والفراغ وهو الشعور الذي تزايد بعد وفاة الأب الذي أفلح في أن يلحقه بالشرطة، لكنه يغدو ضابطاً لا هدف محدداً له في الحياة ولا معنى وتقوده الأحداث، مصادفة، إلى الثورة العرابية التي خرج منها منكسراً، خصوصاً بعد أن رأى الخيانة التي هزمت الثورة، وضياع المعنى الجليل لوقفة عرابي الذي أشهر سيفه، وهو راكب حصانه، يعنِّف الخديوي الذي طالما أَذَلَّ رعاياه المصريين"لقد خلقنا الله أحراراً ولم يخلقنا تراثاً أو عقاراً، ووالله الذي لا إله إلا هو، إننا لن نورث ولن نستعبد بعد اليوم". وتظل نفس محمود المهزومة بهزيمة الثورة غارقة في انكسارها، مهووسة بتحطم الحلم الذي أوشك أن يخرجها من المدار المغلق لشعورها بعبثية الحضور في وجود فارغ بلا معنى وترى مهانة بلدها تمتد إليها، فتغدو ذليلة، في حضورها المنكسر، أمام السادة الجدد في المهنة التي لم يكن محمود يعرف غيرها، والتي دخلها من طريق المصادفة، فيغرق نفسه في هوة الاكتئاب شيئاً فشيئاً وتمر الأعوام، ويسأل نفسه، وهو يسترجع ماضيه"إن يكن ذلك الشاب الموزع الروح قد التأمت أجزاؤه أم زادتها الأيام تبعثراً"لقد تزوج كاثرين بعد طول تردد، حالما أن تستقر نفسه، في رحاب أسرة وبيت وزوجة ذكية وشجاعة، ولكن لم يأتِ الاستقرار أبداً ويبقى السؤال لِمَ يظل ذلك الاستقرار مراوغاً وبعيداً؟ اليقين الوحيد، عنده، هو تلك البدلة الرسمية التي يلبسها، والمهنة التي جاءته من دون أن يرغبها، ولم يعد يعرف لنفسه غيرها، على رغم كل ما جرّته عليه عبر السنين. ويبدو أن شعوره بالعدم ظل يتزايد، داخله، كلما أوغل والقافلة التي انضم إليها وزوجته كاثرين، فيسخر من كلمات صديقه الأميرالاي سعيد الذي قال له إنه محظوظ لأنه ذاهب إلى الصحراء التي هي"جنة الأنبياء والشعراء إليها يفر كل من يترك وراءه الدنيا كي يجد نفسه وفيها تورق الأنفس الذابلة وتزهر الروح"ولم تكن الصحراء التي أحاطت بمحمود تعيد للحائر يقينه، أو للمنكسر قوته، أو للممزق اكتماله، أو للخائر عزيمة الإرادة ولا كانت جنة الأنبياء والشعراء، ففيها ازدادت نفسه الذابلة ذبولاً، وصوَّحت الروح التي لم تر سوى الموت يفترش الصحراء، ويظل ماثلاً في ما يراه محمود من تموجاتها، متأهباً للانقضاض، متشكلاً في مئات من الأشكال التي تختفي في زوايا مظلمة من الطريق، وسط الكثبان، لتنقض مرة واحدة، صانعة النهاية التي تظل كالعدم ماثلة في كل احتمال ولذلك ترى كاثرين أن الصحراء تنتشر داخل محمود، لا يرى فيها سوى مرآة لإحباطاته وانكساراته لم يبهجه جمال الطبيعة قط، فهو مشغول عنه بما يثقله، ابتداء من شعور الموت الذي أطبق على وعيه، وانتهاء بالانكسار الذاتي الذي أحال نفسه إلى شظايا ومع ذلك لا يكف محمود عن المقاومة، ويقول لنفسه في لحظات توحده"ليتني أعرف ما أريد ليتني أعرف من أكون؟". وتسأله كاثرين كثيراً عن أزمته، فيعيد توجيه السؤال إلى نفسه، ولكن سُدى، فهو لا يجد إجابة مقنعة، بل يجد المرارة في اجترار ماضيه الذي يرى نفسه فيه أسوأ أقرانه، وأكثر من غيره استحقاقاً للإدانة، ومصدر إدانته أنه، وهو الحدِّي، لم يكن حدياً، قطُّ، في اختيارات حياته، فقد آثر أن يبقى على الأعراف، وذلك بما يؤكده تيار الوعي الذي ينطقه خطاب مضمر من قبيل"المشكلة هي أنت بالضبط يا حضرة الصاغ لا ينفع في هذه الدنيا أن تكون نصف طيب ونصف شرير نصف وطني ونصف خائن نصف شجاع ونصف جبان نصف مؤمن ونصف عاشق دائماً في منتصف شيء ما"، ومن الطبيعي أن تتهوس هذه الشخصية الحدِّية التي تعي أن سقطتها في تخليها عن الحدّية أقول من الطبيعي أن تتهوس هذه الشخصية بوعيها المأزوم الذي ينغلق عليه مدار مغلق من صنعها، يفضي إلى دمارها، فيزيد من حدة انقسامها على أضدادها، وذلك ما يجعلها ضحية المتوحد المغترب الذي هو إياها، في مدى عزلة أفظع من تلك العزلة التي قصد إليها الفيلسوف الأندلسي ابن باجه في كتابه"تدبير المتوحد"، فالحال العسير الذي انتهى إليه محمود حال تدميري، كلما غاص صاحبه فيه، بلا هدي أو عون من الخارج، ازداد إلحاحاً على الأسئلة التي لا إجابة عنها سوى المزيد من الاكتئاب الذي يتلازم، شعورياً، وإرهاصات الدمار الذاتي. ولم يكن من قبيل المصادفة أن يقول له الشيخ يحيى زعيم الشرقيين"أنا سأدعو لك كثيراً أن تصالح نفسك"ويعقب الشيخ على ذلك بقوله:"أعرف أن ذلك قد يستغرق عمراً بأكمله"وهذا هو ما حدث داخل محمود، منذ أن نبتت بذرة دماره من خوائه الذاتي الذي أصبح شعوراً اكتئابياً بالهزيمة مع سقوط الثورة العرابية التي كانت الحدث الفريد البهيج في حياته الفارغة التي سرعان ما عاد إليها بعد انكسار الثورة، مثقل الوعي بأسئلة الهزيمة التي أفضت إلى أسئلة الحضور في الوجود، أو جدوى الحياة التي يمكن أن تنهيها الذات التي وصلت إلى قرارة القرار من الوعي المهزوم الذي يفرض تكرار السؤال"ليتني أعرف ما أريد ليتني أعرف من أكون؟"، والإجابة هي النفي دائماً، مقرونة بتزايد الإحساس بالعدم واللاجدوى، حتى مع الزوجة كاثرين التي حسبت أن تشجيعه على قبول المهمة والسفر معه يمكن أن يكون عامل تغيير إيجابي تحدثه الرحلة الطويلة، أو أن يبعث الخطر روحه الهامدة ولكن بلا جدوى، تذهب محاولاتها أدراج الرياح، متيقنة، يوماً بعد الآخر، أن محمود يتلهف على الأسباب التي تجعله تعيساً وتقول لنفسها بعد أن عانت حياة الواحة"يوجد شيء هنا يغير الإنسان في هذه الواحة المعزولة في جوف الصحراء السحيق شيء يغيرنا"وهي نتيجة تدفعها إلى أن تطرح على نفسها السؤال الأصعب عن نفسها ومحمود على السواء"لماذا لا يكون ممكناً في هذه الواحة أن يجد الإنسان حقيقته؟"، ولكنها سرعان ما تنسى سؤالها، ما ظلت منطوية على حلم فك لغز الإسكندر، مصممة على كشف ما يظل في حاجة إلى كشف من آثار الواحة والنقوش المكتوبة على معابدها، فتنسي محمود في غمرة حلمها الذي تسعى إليه كأنه معنى وجودها، وهو اكتشاف ما لم يكتشف من آثار تركها اليونان والرومان وأخفتها الرمال ويستغرقها فعل الاكتشاف الذي يقودها إلى افتراض أنها حلت لغز الإسكندر الأكبر الذي ترى أنه دفن في سيناء، بعد أن قام بتهريبه العابدون المخلصون لعبادته، في أوائل الأزمنة المسيحية وتؤكد لنفسها أنها لو نجحت في الكشف عن مقبرته فستعوض كل ما احتملته في هذه الواحة، خصوصاً أن نجاحها سيعطي لحياتها المعنى الذي ظلت تبحث عنه مثل بقية الشخصيات ولكنها تنتهي إلى الفشل الذي يغيب معه معنى الحضور كالقدر المعلق على رقاب الجميع كالمقصلة. وليست كاثرين هي التي تبحث، سدى، لحياتها عن معنى، ففي موازاتها كانت مليكة التي تسببت في مقتلها، وكانت سبباً في انتهاء حياتها، بينما كانت مليكة، في زيارتها لها، ساعية إلى فتح أفق جديد لحياتها، والوصول إلى معنى مغاير لهذه الحياة البائسة أعني أفقاً تكتمل فيه، أو تدوم، فرحتها العفوية بما ظلت تصنعه من تماثيل، كانت تأكيداً عفوياً لحضورها الخلاق الذي لم تكن تعي مداه أو مغزاه، لكنها، على الأقل، كانت تعي تفردها بما تصنعه من تماثيل، لم تطلع أحداً عليها إلا خالها الشيخ يحيى الذي لم يتوقف عن إعجابه بنتاج فطرتها الفنية، لكنه كان يخبئ التماثيل تحت الأرض، حتى لا يراها أحد، فيتهم البنت بأنها تصنع المساخيط كالكفار وعندما ذهبت مليكة إلى كاثرين لتفتح لها، ومعها، ما كانت تحلم به من عالم مغاير، مفتوح، سرعان ما أساءت كاثرين فهمها، وكانت النتيجة مقتلها واغتيال حلمها الإبداعي الذي ظل، على رغم سريته، معنى الحضور المبتور لمليكة في العالم. ولا تتباعد فيونا القديسة عن هذا المدى، فقد تنازلت لأختها كاثرين عن حبيبها مايكل في نوع من الإيثار النبيل الذي لم تدرك كاثرين مغزاه، وجاءت إلى سيوة لكي تجد خلاصاً من مرضها، وتستعيد دفء مبدأ الرغبة وحيويته، ولكنها وصلت في التوقيت الخاطئ، فانتهت بها المعاناة إلى الموت الذي فغر فاه، وظل كالحضور المغوي الذي يصطاد النفوس الحائرة في شباكه ويكون أول ما تصطاد شباكه فيونا، وبعدها محمود المأمور الذي أصبح مكروهاً من أبناء الواحة الذين أخذوا يسعون إلى قتله والخلاص منه، مع أنه كان يراهم مقموعين مثله، ويعرف أنه كأقرانه لم يجيئوا إلى الواحة إخواناً، بل غزاة، ولم يعاملوا أبناءها كأهل البلد، بل كمستعمرين يفرضون على أبناء الواحة أن يدفعوا أموالهم غصباً للفاتحين ويردد بينه وبين نفسه"لماذا أغضب مما يفعله الإنكليز بنا، أو تغضب كاثرين مما يفعلونه بإرلندا؟ ذلك قانون الأقوى، نمارسه نحن هنا كما يمارسه الإنكليز هناك عندما رأوا بادرة تصرف طيب من إبراهيم وما ظنوه طيبة مني غيَّروا معاملتهم ولكن ألا يرون بالفعل أنني أختلف عن غيري؟ لماذا إذاً هذا العناد والغباء؟ لماذا يريدون تدمير أنفسهم وتدميري معهم؟ لا فائدة من التفكير العجلة دارت ولن يوقفها شيء"والإجابة عن أسئلة محمود معروفة، وتشير دلالة طرحها إلى محاولة محمود الأخيرة في البحث عن معنى لحياته، تلك التي انقلبت إلى كوابيس تطارده في صحوه ومنامه، عاجزاً عن إيجاد مكان له في مجتمع معادٍ لكل ما يمثله وعندما يفشل سعيه، نهائياً، في هذا الجانب، نتيجة تجذّر العداء الذي ظل أهل الواحة ينطوون عليه لأمثاله الذين مهما اختلف عنهم، فسيظل مقروناً بالقامعين في وعي سكان الواحة الذين يتلهفون على لحظة ينفجرون فيها، سواء في قامعيهم المباشرين أو غير المباشرين، أو حتى فيمن ليس منهم، لكنه محسوب عليهم بالحق أو الباطل. والنتيجة ضياع المعنى الذي حلم محمود أن يقرنه بحضوره في الواحة، وتحوله من شبيه إلى نقيض، لا مكان له في الحضور المقموع لأبناء الواحة وعندما يعي محمود هذا الجانب تتزايد وحدته، ويدرك فشله فيما كان يمكن أن يكون خلاصاً له ويعرف أن النهاية المترتبة على خيبة المسعى لا ريب فيها ولكنه، على رغم معرفته بذلك، يمضي إلى آخر طريق النهاية، غير هيّاب، بعد أن رأى مصيره في مرايا الصحراء، مسترجعاً صورها التي ارتدّت به إلى ماضٍ ميت، ظل يطارده طوال الوقت، مؤكداً غياب المعنى والغاية عن عالمه الذي قرر أن يصنع نهايته بنفسه، خصوصاً بعد أن رأى موت فيونا التي كانت آخر تجسيد للبراءة في هذا العالم، غير عابئ بالمترصدين له، مصمماً على أن يكون حَدِّيا هذه المرة، فينطلق كالطلقة، ويأخذ في تدمير المعبد الذي كان سبب المشاكل، كما لو كان يؤكد لنفسه قدرته على ممارسة الدمار الذاتي إلى أقصى مدى، احتجاجاً على عالم بلا معنى أو أمل، عالم يؤثر عليه الموت الذي هو أفضل من حياة، مهينة، ذليلة.