أرمي خطواتي على عجل في مدن غريبة عني. أتسلق المباني بنظرة واحدة حادّة. ابتسم لمضيفة الطيران. أخيراً احتسي قهوة بلادي. لا أشعر بأي فخر. في مدن غريبة وكبيرة لا تبحث عن وجه أليف ولا تفرغ سلة المهملات باحثاً عن خصل شعر لحبيب أو صديق. أتخيل مدينتي المنتظرة، أتخيل بيروت وأنا أنتظر ساعات طويلة في مطار ما. دائما أسافر عبر الترانزيت وانتهي في مطارات تعبق بالناس ومشاكلهم محاولةً توفير القليل من ثمن التذكرة. دائماً أندم على فعلتي هذه وأحلف أن حتى الدين أرحم من المكوث ساعات في المطارات. أتخيل بيروت. ترى ما الذي تغير فيها؟ إن المطارات كالمستشفيات تتشابه جميعها. بيروت تتغير كثيراً وتبقى مألوفة. تضربها حروب وتنهار عماراتها وتغلق مقاهيها لكنها تبقى كما هي. ربما لأن البحر هو عينه لا يتغير وإن أفرغت فيه كل مراكب الدنيا نفاياتها. كنت راشدة عندما أستقليت الطائرة للمرة الأولى. من حماستي أفرغت كوب حليب على ثيابي والمقعد. لم تكن تسعني الدنيا ولكنني ما لبثت ان أحسست بعد قليل بذلك الشعور الذي كنت أشعر به في مطلع كل صيف حين كانت تذهب بي عائلتي إلى الضيعة. هذا الشعور الخانق بالابتعاد عن المدينة والبحر يشبه كابوس المنفى. ترى هل سأشعر بأمان حين أعود إلى هذه المدينة؟ وهل ستكون متغيرة إلى حد أنني لن أستوعبها؟ هل سأشعر بشبح الحرب يطغو على كل مكان؟ أو أنني سأسكر بعجقة سير وناس خانقة وبياعين يهددون بالسكاكين في الشوارع ووجوه مألوفة وحبيب قديم؟ عليّ تجليس طريقة جلوسي تماماً كما تفعل فتاة صغيرة تهاب أبيها حين يدخل المنزل وكما كنا نفعل أمام الأستاذ في المدرسة. عليّ أن أثبت براءتي وأن لا أثير الشبهات في المطار. أشكك بنفسي! ترى ما الذي ارتكبته؟ لم ينظر إليّ الجميع بازدراء؟ هل يرون عروبتي خطراً عليهم؟ أو أن مكوثي في المطار لساعات طويلة جعلني أصاب ببرانويا! ما الذي سيحدث في لبنان؟ هل ستغضب علي عائلتي لسبب غريب كعدم تناولي العشاء معها؟ هل سأجد أصدقائي مكتئبين؟ هل سأنسى أن أزور مقهاي المفضل ومطعمي المفضل؟ ماذا لو لم أجد ذلك الرجل الذي يعمل في المطعم؟ هل سأظنه ميتاً؟ هل سأرتكب حادث سير في سيارة مستأجرة أو سيارة أختي وهي ستهرع إليّ عاتبة ومتأخرة إذ لم تدخل في حياتها من قبل إلى كورنيش المزرعة؟ وماذا لو وجدت أخي الصغير كبيراً؟ هل سأندم على تركي إياه يكبر وحده؟ كما اعتدت دائماً ان افعل سأبحث عن أجوبة لكل تلك الأسئلة على الإنترنت. أدخلت كلمة بيروت على عدة مواقع ووجدت الكثير من المداخل. بيروت هو اسم فرقة موسيقية أميركية مشهورة في بريطانيا وعلى موقع أخبار"بي بي سي"تستأثر تلك الفرقة بأكثر الأخبار على الموقع. هناك موقع رسمي لمدينة بيروت لكنه لا يقول الكثير وهو موقع"بشع بعض الشيء"! أما على موقع"ويكيبيديا"الشهير هناك العديد من مداخل بيروتالمدينة: الكثير من الكتب والروايات: لا بحر في بيروت، بيروت 75، بريد من بيروت وبعض الأفلام: بيروت الغربية، أشباح بيروت، ثم متحف بيروت الوطني، جامعة بيروت العربية، ملعب بيروت البلدي، مطار الشهيد رفيق الحريري الدولي- بيروت، فريق كرة القدم الراسينغ بيروت. وكما يبدو اسم رئيس بلدية بيروت هو عبدالمنعم عريس وعدد سكانها 1.250.000 و اسم بيروت يأتي من"أبار"منذ الفينيقيين وتاريخها يعود إلى اكثر من 5000 سنة. وهي أصبحت عربية عام 635. تعتقد و"يكيبيديا"ان بيروت مدينة كوزموبوليتانية عالمية بامتياز، أظن أنها على حق. عام 1911 كان يعيش 2500 يهودي في بيروت مع العديد من المسلمين والمسيحيين والدروز والأجانب. يعدد الموقع بعض المشاهير العالميين الذين ولدوا في بيروت: مصمم الأزياء ايلي صعب، الممثل كيانو ريفز، المغني ميكا، والكاتب أمين معلوف وغيرهم. لقد أضاع لي الإنترنت الكثير من الوقت وجعلني أتسلى لكنه لم يعطني الأجوبة التي كنت أتمناها. أريد صورة حقيقة مع رائحة وحرارة. ولعلني أشعر بتلك الأشياء بعد ساعات قليلة وسأكتب أجوبتي الشخصية بنفسي وسأسجل الرائحة والحرارة ونظرات البيروتيين وعشاء عائلتي وحوادث السير وطول قامة أخي الصغير والتغيرات التي طرأت على بعض العمال في المطاعم والمقاهي كي لا أنساها أبداً حين أتركها عن جديد.