كطائر وحيد تائه تبحث يا محمود ومنذ الأزل عن رفيق؟ وحيداً تسعى بشغف للتلاقي، خمسة وثلاثون عاماً مرت. منذ زمن طويل والطائر التائه يحلّق في السماوات محاولاً اختراق الحجب ليصطدم بركام السحب فيتهاوى مذبوحاً ويعاود الركض للتحليق من جديد نسمة عفية تتلاشى في مهب الريح.. ياه...! ياه يا محمود على القيد الفولاذي الذي يطوق عنقك. مخنوق يا محمود كبت وحرمان وشقاء ويقظة بلا حدود. الوعي عبء وأنت مثقل بالأنين دوماً. تنهل وتغوص فتعشق فتشتبك فتتلاحم قاصداً التلاقي للارتواء والتجلي والسمو فتصطدم لترى الطفو الوهمي بعثية حواسك الفائرة، تتسع الرؤيا فتكثر من أسفارك وتتعدد الخطى وتتبدل المسارات في المدن والعواصم. عشقت الترحال في المكان والزمان فضاقت الأرض فماذا أنت بفاعل؟ حب من جديد يا محمود. اعشق بجد، عشقت كثيراً وتجليت في العاصمة الأم ودرت ليالي وليالي في المدينة الساحلية وقت الغروب وعند شاطئ المتوسط الطويل الممتد بلا نهاية، قرب البوتاغاز وفوق صخور الثكنات العسكرية جهة ك3 حرس الحدود وجنودها السائرين دوماً فوق رمال صفراء ساخنة، سحبت"زينب"من أناملها وخطوات فوق الرمال الناعمة المبتلة مع بدء كانون الأول ديسمبر وراقبتك"رغداء"عن قرب بحسرة فانفتحت مسارات الحنين في الأرواح وتجلت الحواس فبكت العاشقة القديمة عند عتبات الخريف المبكر الداني نداه فوق رصيف البوابة الحديد المغلقة للفنار القديم، تركتك لتكمل غزواتك محلقاً مع النوارس حتى أعلى نقطة فوق الطابية ليشهد على غرورك وارتجالك تمثال"ديليسبس"المخلوع وقاعدته البازلتية المثقوبة، والليالي يا محمود: أين لياليك مع زينب ونهى ومنى؟! قضمات"المارون غلاسيه"السائل تسبح فوق رخام كوفي شوب"ملفاي"وجيانولا والقمر المستدير يجوب الخلاء المتسع أعلى فضاءات المتوسط مطلاً على الرماد وسكون شرفات البرجوازيات والأجساد الطرية التي تتمدد أصابعها بذعر فتتوهج الأنامل بخجل مصطنع أسفل الخيام الوردية المتراصة، قرب نادي الصيد عشقت كثيراً وخدعت أكثر فانخدعت، ولكنك لم ولن تعرف المعنى الجوهري للحب الحقيقي المؤدي للاكتمال بعد نشوة وخلاص طامعاً في تحليق من دون سمو. انفلتت الأيام والسنون من بين يديك فتهت وصرت مقبلاً بالحنين الجارف. إلى أين أنت ذاهب ولمن كل هذا الحنين يا محمود؟ لماذا الأسى على ما فات يا محمود... منى هل تذكرها يا بن"البتانوني"؟! ورغدة ونهى وآمال ودالياتك الأخريات البرجوازيات... وعلا الأرستقراطية، التي راودت زميل طفولتك محمد بن خلف في مطعم"الكنج"وأصرت على أن تراقصه على صوت، خوليو اغليسياس في ليلة رأس السنة قبل الماضية، دارت دورتها الخليعة فوق"البست"فتمايلت وارتخت الجفون... وفي أعلى طوابق السفينة القبرصية"برنسيس ماريسا"التي تعبر شاطئاً مالحاً متوجهة إلى الجانب الآخر جهة بحر بورفؤاد، ويصعد ابن خلف وراءها متسلقاً السلم الحديد... لا تزال مخنوقاً يا محمود؟ إذن غنِّ وارقص، اللي قضى العمر هزار، واللي قضى العمر بجد، راح اللي راح وما عدش فاضل كتير". اسع يا محمود. اسع وبدل المسارات. الأرض واسعة والسماء أرحب، المولى يحبك وأنت تحبه أكثر، فسر ولا تحزن، أحب الناس وأعشق الفقراء والمساكين، ابحث عنهم يا محمود... دار دورته وعاد من جديد يلف أصابعه حول عنقه المنتفخة عروقه... أطل على الشماسي المنصوبة في العراء فرأى الكراسي خالية وكل عاشق يهمس في أذن محبوبته. وتتفرج الأقدام في الخطل بثقة وتغوص الأصابع الصغيرة في الرمال الباردة، استدار فرأى الهالات الشفيفة وبقع الضوء المنثورة الآتية من مصابيح الكيروسين المعلقة فوق الخوابير الحديد المغروسة في البلوكات الإسمنتية... ربت على ضلوعه. زفير وشهيق وشاطئ طويل خال ودفعة هواء خريفي تداعب حواسه المشتعلة ويتجلى هواء ما بعد الغروب فيلتفت لفتة جهة الطائر الخرافي الوحيد، الذي حط فجأة على مقربة من صخرة غارقة بماء رمادي تحجز الأمواج عن الممشى الرملي المتسع... انكفأ يفرد راحتيه في الظلمة وبدأ بمداعبة النورس الخائف. تحسسه بالأنامل فطار بعيداً عند المراكب القديمة المحمولة فوق أحواض"الرشمة"على أثر صرخة المستغيثة ملهوفة على وليدها الغائص وسط البحر، هرول يقفز صوب شلالات الموج الهادر ساحباً الملابس الرثة الملقاة على الشاطئ... تاركاً الأصداف الناصعة البياض توشوش على مسمع من الجعارين الراقدة وسط الأخاديد المحفورة منذ رحيل الشمس، قفز القفزة الأخيرة ضارباً وبذراعه اليمنى القوية ظهر الطفل العاري في الظلام، رأيت الأم المكلومة وقد احتضنت الوليد تاركة ثوبها الوردي الشفيف المبلل يرتجف مستسلماً لتيارات الهواء الجارف... تبرق في الظلمة، خرجت سنوات العمر الفائت عبثاً تفر مع الرياح... خلف طائر النورس الوحيد. هرول راكضاً ليصعد درجات السلّم المنتصب. تجرد من ملابسه وقفز الى الأعماق الباردة.