ووجدتني في لحظة حنين تكررت كثيراً أردد في نفسي كلمات تلك الأغنية التي تذكرتها فجأة فبتُّ أقلّب في ذاكرتي وبفراسة نادرة... وفي محاولات مضت سمعتني أتغنى بها وقت دخولي الفراش مستنداً الى حائط إسمنتي لأغلق غرفة النوم متحاشياً ذرات الغبار التي هاجت فتطايرت في الجو لتهاجم ثكنتي... وفي محاولات عدة للنوم تمددت ووسط تقليب مرير تحت الغطاء. عادت أطياف الذاكرة تجتز وقائع زمن مضى وتبدد، وأتت نبرات المطرب البورسعيدي تنهش الحواس بأساها. "يا حمام روح قوام لحبيبي... يا حمام دا الغرام زود لهيبي"؟! قلت في نفسي وأنا المخنوق من غبار ربيعي هتك ستائري، لعل للحمام البني الراقد فوق شباكي منذ أسبوع دوراً كبيراً في تلك الذاكرة أو الشريط الغنائي... أتى الربيع متناقضاً في تقلباته الجوية هذا العام... ما بين سخونة نهارية ورطوبة وبرد ليلي، إلا أنني أصررت على النبش في الذاكرة، فقمت وتركت الفراش أعبث بالمذياع في محطات قديمة من دون جدوى، أطل من النافذة أرقب الكورنيش الطويل بحركته قُرب"حدائق المعادي"وجهه مبنى المسطحات المائية... زاد صمتي صفاء مع طيران الحمام الذي أزعجه فتح النافذة على مصراعيها، وطار بعيداً فقلت في نفسي وفي شكل قاطع: لا، ليس هناك ثمة علاقة بين طيران الحمام وكلمات تلك الأغنية التي صارت شغلي الشاغل منذ ليال ثلاث... بتُّ أتذكر من جديد أحصي ساعاتي ومواقيت الخروج في الأسبوع الفائت ومشاوير تقليدية عدة انتهت أغراضها فور عودتي أمس الأول من"سوق التوفيقية"بشراء غطاء المشمع لسيارتي البيجو"504"، وعلى الفور بلا مقدمات عزمت على ترك الشقة والنزول الى الشارع... مشيت والبنايات الإسمنت الضخمة تُحاصر جنبات منزلي والحصى المبعثر في طرقات"العروبة"وپ"حارة المصري"تسرُّ الطرق الموازية والعرضية المملوءة برمال صفر مكومة ومنثورة مُعدّة للرفع الى أدوار عليا. ركبت العربة الميكروباص وطارت بمحاذاة النهر وانخفض طير وحلّق صوب عيني الناظرة الى مدى سماوي رمادي... وحط"مالك الحزين"قُرب صفحة الماء وتدلى أربع مرات ليستقر به الحال فوق ربوة طينية أدناها الأرض الخراب. صار الميكروباص يخترق أشجاراً مزهرة صماء. وراحت الذاكرة من جديد تنكش في أيام مضت في المدينة الساحلية وقُرب شط القناة وخلف السواتر الحديد وحواجز الموج المصطخب، هبطت في وسط المدينة وتركت ذكرياتي جانباً وقلت أمشي في السوق فمشيت وبدت الرؤية تتضح شيئاً فشيئاً، في قلب السوق كانت صورة المعنى قد تطابقت مع الأطياف في الهيئة والملامح المألوفة للرجل الذي يبيع العصافير. جلس على كرسي خشب ووضع اليانك الأزرق فوق رأسه وأمسك بطرف حبل مبروم تدلت منه عشرات العصافير المذبوحة. وضع ساقاً فوق ساق فبانت أناقته مع ارتدائه الحُل?ة البحرية الزرقاء في أبيض والحذاء"الهاف بوت الكرب الهافان"ونظارته الشمسية"بيرسول الفاميه". اتسعت خطاي في الترجل مغموراً بنشوة مجهولة أعادت إلي الذاكرة المبعثرة منذ زمن، طفولتي وصباي وشبابي هناك في"بورسعيد"في العام الخامس والسبعين؟! وصوت يعلو في داخلي مع رقص داير على الرمل الأصفر وبنات بخصلات ذهب طويلة وعيون زرق وكلمات الأغنية تتجلى من جديد في جو صاف رائق أسفل بلوكات"التوفيقية"وعربات تفاح أميركاني لامع مفروشة في نسمة عصاري. مع الاقتراب من جلسته وتحديقي بنفور للعصافير المنكمشة مصلوبة ومذبوحة... شماسي التيل من فوق عربات الطماطم... انتفض الرجل وسحب كرسيه مذعوراً وابتعد قاصداً الجانب الآخر من الشارع لتباغته رافعة حديد تدلت من أعلى سطح قريب مواجه لمبنى اسمنت قيد الإنشاء. قلت للرجل الذي آثر السلامة ولم ينبس بكلمة: -"أنت منين يا ريس؟!. فرد قائلاً: - ليه، بورسعيدي يا سيدي، وتركتها، ودي شغلتي من خمسين سنة... هتحقق معايا أنت كمان؟ قلت: - لا، أبداً يا حاج... لكن... إنت، إنت، إنت تعرف الكابتن"أحمد عمار"؟ "مين"؟!! - أحمد عمار. نظر وحدق في شرود وأعقبه صمت طويل فباغتني بسؤال آخر أكثر غرابة. -"أنت اللي مين... وعايز إيه... روح لحالك". استدرت ورأيت ذرات الغبار تتعالى من جديد مصطدمة بالأشجار القليلة قُرب شارع"رمسيس"... مع استعادتي لملامحه الحادة ووجهه الخمري المصبوغ باحمرار بيّن والجسم البدين نسبياً تلاشت الهواجس، وتأكدت ظنوني... بل أيقنت وتذكرت أنه الرجل الذي رفض مصافحتي منذ عامين عندما قدمت له نفسي في المكان نفسه منصتاً الى كلمات الأغنية نفسها."يا حمام روح قوام لحبيبي، يا حمام والغرام زود لهيبي"، وفي مواجهة الكاسيت الياباني الصغير المعلق خلف كرسي خيزران وأقف أسفل شمسية كبيرة زرقاء منصوبة بمحاذاة الرصيف المبلط بالرخام قلت من جديد: -"أنا جمال الأكيابي يا كابتن"؟! وكأنها الزلزلة قد هبطت على رأسه، قام غاضباً وسحب الكاسيت من رباطه عنوة فوقع الشريط القديم وتوارى وسط كومة من"المونه"الجافة الملقاة بجانب البناية الإسمنتية. هرول في سكون ودنت دمعة متسرسبة تهجر الحدقة اليسرى لتستقر فوق شفته العليا الرفيعة، علق الحبل المبروم كطوق حول عنقه وعدل من وضع"اليانك"فوق رأسه، مع قدوم ضباط البلدية من الشوارع الخلفية تراجع الى الوراء وتلفت مذعوراً، قصد شارع رمسيس فدنا لناحية"سليمان الحلبي". عدت أسير ويطفو الحنين ويجرني الى أمكنة وأزمنة. في"أول العرب"في بورسعيد والعام 1975، وهجمة رجال الداخلية بقيادة المقدم"عادل أبو الحمد"رئيس مباحث العرب على كشك الكابتن"أحمد عمار"وإشباعه ضرباً على القفا والصدغين أمام الخلق من الجيران والأقرباء وزوار"المنطقة الحرة"عقب الانفتاح بحجة متاجرته بالطيور النادرة واصطيادها بلا ترخيص وكذلك الشكاوى المتكررة في حقه من"آل سليمان"والحفيدة"ميرال"التي يتعمد كابتن"عمار"مراقبتها وقت وقوفها في"التراسينه"وقت الغروب وتركه السجل الياباني"السوني"مفتوحاً"ليل نهار"مقدماً أغاني السمسمية وموسيقى يونانية مما تسبب في إزعاج السكان، جريت خلفه مذهولاً، كان الرجل قد غاص في زقاق بعيد... عُدت أدور وألفّ، اصطدم بأكشاك خشب فارغة وباعة متجولين أبحث في الزحام عن شريط غنائي قديم. وسط الركام ومخلفات المباني حياة الكابتن تعيد أطياف الونس وصخب الطفولة وعمري الضائع هناك بجانبه وجلساته الصاخبة الحميمة عن"لارنكا"وپ"قبرص"وپ"أثينا"وكيف يصطاد السواحلية وهي طيور جارحة وفتيات شقراوات بعيون ملونة في الموانئ، البعيدة جهة الشواطئ الرملية الصفر وقت الغروب... ويحكي أحمد عمار البورسعيدي في الليل الرائق وعلى صوت موسيقى"زوربا""ليثوذراكس"يناولني الكابوريا والجمبري المقشر المغموس في طحينة بيضاء، والرئيس الراحل"أنور السادات"يحكي عن السلام وعودة المهجرين إلى مدن القناة، تطول أحاديثه وتنطلق الضحكات حتى منتصف الليل الصيفي. وفي تمام الثانية والنصف يتأهب ويقوم منتفضاً كالمقبل على مهمة عسكرية، يسحب الرشاش"الليزر"ال 9 طلقات من جرابه ويجلس على الكرسي البامبو الهزاز وبثقة وثبات يصوّب فوهة السلاح في المدى المظلم قبل الفجر يرقب خروج الفئران الكبيرة من أحواش منازل قديمة هجرها السكان ورحلوا عقب حرب التحرير... ينطلق الرصاص كالمطر فيحصد القتلى... أراني حجم الأرانب مربوطة من الأقدام والأعناق بدوبار طويل إضافة الى خمسة تُترك حية وتُربط في المقدمة بطرفين منفردين من حبال... وأركض قاصداً المكان المهجور في قلب التوفيقية أبحث عن شريطنا القديم فأجده سليماً وعليه"استكرز"صغير مكتوب أعلاه بخط ذهبي واضح"رحلات بحرية في عمري انقضى". تغمرني الدموع وأترك السوق قافزاً في أول ميكروباص ذاهباً الى المعادي. في وسط القاهرة، وفي إلحاح ورجاء أطلب من السائق العيوق وضع الشريط في الكاسيت وتقصد السيارة طريق الكورنيش وتتعالى الأنغام فيصيح المُغني في شجن آسر وأنا جالس فوق الكرسي الأمامي بمفردي فارداً الذراع الأيمن هابطاً بزجاج الباب حتى القاع ليطير الغبار في تموجات شيطانية ويعود الاختناق من جديد مع تحليق غربان سود عبر لافتات"قصر العيني الفرنساوي"وپ"معهد الأورام"ومفارق"الملك الصالح"وپ"الزهراء"وپ"كوبري المنيب"ويردد"حسن العشري"مطرب السمسمية الأول وقت الهجرة:"يا حمام روح قوم لحبيبي... يا حمام دا الغرام زود لهيبي وتقولي إيه إيه، زعلان من إيه إيه إيه، هوة الخصام مش حرام يا حمام"؟! ويعقبه ثيوزراكس بنفرات الإيقاعات والبشارق التي تدق فتخفت فتزيدها رقصة"زوربا"صخباً وتتسع الفضاءات في مدى بصري منير، أتوه وأروح أجتر وتناديني أيامي هناك فتنفر صخور وتأتي أمواج صاخبة تشق الإسفلت بطول الكورنيش القاهري... على صفحة مياه بيضاء مالحة تأتي من الساحل البورسعيدي تُرى فتيات شقراوات بعيون زرق ترقص صوت عيوني ويُسحب الكابتن"عمار"من أصابعه ليدق الأرض بقدمه ويرقص وسط الدائرة البديعة التي صنعتها شبكة الأنامل الرقيقة لفتيات يونانيات وتركيات وقبرصيات يدبدبن بأقدام طفولية فوق رمال صفر على شواطئ مألوفة لعين الفارد ذراعيه في الهواء وقت الغروب.